«ها أَنا مُرسِلٌ أَمامَكَ مَلاكاً لِيَحفَظَكَ في الطَّريق […] فتَنَبَّهْ لَه وآسمَعْ […] لأَنَّ إسْمي فيه» (خر 23: 20- 21)
المقدّمة
الصلاة الملائكية، هي التي تجمع الكثيرين من المؤمنين في ساحة القديس بطرس كل أحد ويقودها قداسة البابا. الأعياد الكنيسة التي تهتم بـ “عيد رؤساء الملائكة (جبرائيل، روفائيل، ميخائيل)” الذي نحتفل به بالتاسع والعشرين من شهر سبتمبر من كل عام، وعيد الملائكة الحُراس في الثاني من شهر أكتوبر هو السبب الذي دفعني للتعمق ولتدّوين هذا المقال. بلاإضافة لتساؤل الكثير من الكهنة والعلمانيين عن دور الملائكة وهل هي بالفعل موجودة أم يُشار إليها رمزيًا في الكتب المقدسة؟ لذا أرغب، من خلال دراستي هذه، في تقديم بعض الملامح الكتابية التي تساعدنا على فهم دور الملائكة كتابيًا وأصلهم وكيف تستمر رسالتهم اليوم كمعاونين وحاملين الرسائل الإلهية للنا نحن البشر. في هذا المقال سنناقش ثلاث نقاط: ظهور الملائكة بالعهد القديم؛ ثم بالعهد الجديد وأخيراً اليوم كيف نكتشف قوة حضورهم غير المرئي، بناء على الإستنادات الكتابية، في وقتنا المُعاصر.
- الملائكة في العهد القديم (تك 3: 24)
أول إشارة كتابية للملائكة نجدها مُحررة بسفر التكوين، وتعلن عن أول حضور عن الأوراح السمائية أي الملائكة. كشف لنا كاتب سفر التكوين عن ملائكة الله بالإسم “الكروبين” مُشيراً إلى عمل إلهي فبعد أن خرج أول زوجين من العدن: «أَقامَ [الله] شَرقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الكَروبين وشُعلَةَ سَيْفٍ متقلِّبٍ لِحِراسةِ طَريقِ شَجَرَةِ الحَياة». الكروبين، منذ البدء يتميزون بدور جوهري وهو “الحراسة”. في البدء ظهر في حراسة شجرة الحياة بحسب الأمر الإلهي. إلا أن حراستهم لم تنقطع فأستمرت بحضورها الفريد بمرافقة الملائكة لكل البشرية. حتى اليوم، يتم تكرّيمهم مِن قِبلّ الكنيسة بلَقَّبْ “الحُرّاسْ” أي خدام الإهتمام الإلهي لكل إنسان، منذ ولادته وحتى موته إذ تحيط بحمايتها حياته باستمرار. هذا بخلاف الحضور الحي للملائكة في كثير من نصوص العهد القديم على سبيل المثال راجع تك 19. 28؛ 2صم 14. 19؛ طو 11. 12؛ أش 6؛ زك 1؛ مز 8. 77؛ حك 19؛ … .
في العهدين أن الأدوار الملائكية كثيرة وأهمها “توصيل الرسائل الإلهية” من قِبل الرّب لشعب أو لشخص ما. على سبيل المثال موسى: «فتَراءى لَه مَلاكُ الرَّبِّ في لَهيبِ نارٍ مِن وَسَطِ عُلَّيقَة» (خر 3: 2). لذا أودّ أن أتوقف معكم قليلاً على الدور المتميز لملاك الرب بسفر الخروج. بعد إتمام العبور والإحتفال بالفصح العبري ونوال نعمة الكلمات العشر (الشريعة). في أثناء وجود الشعب بالصحراء إذ نسمع صوت الرّب، بينما يعطي إرشادات خاصة للتهيئة للدخول إلى أرض كنعان، قائلاً لموسى: «ها أَنا مُرسِلٌ أَمامَكَ مَلاكاً لِيَحفَظَكَ في الطَّريق ويأَتِيَ بِكَ إِلى المَكانِ الَّذي أَعدَدتُه. فتَنَبَّهْ لَه وآسمَعْ صَوتَه ولا تَتَمَرَّدْ علَيه، فإِنَّه لا يَصفَحُ عن مَعصِيِتَكم، لأَنَّ إسْمي فيه. فإِن سَمِعتَ صَوتَه وعَمِلتَ بِكُلِّ ما أَتكَلَّمُ به، عادَيتُ أَعداءكَ وخاصَمتُ مُخاصِميكَ. لأَنَّ مَلاكي يَسيرُ أَمامَكَ» (23: 20- 23). سنتوقف من خلال هذا النص على ثلاث سمات وصف بهما الرّب ملاكه وهنَّ:
الأولى: “مُرسل مِن لّدُّن الرّب” إذن الرتب الملائكية بالرغم من دورها الخاص وتمتعها بالقرب من العرش الإلهي والمجد الأبدي فهي غير حرة لتتخذ قراراتها بل خاصغة لأوامر الرّب لتحمل رسائله. الثانية: “حفظ الإنسان والمرافقة” وعد الرب منذ البدء بحماية الإنسان من الشر وعدو الخير، لذا دور الملائكة هو المرافقة للجنس البشري وحفظهم ليصلوا إلى المكان المهيأ لهم مِن قِبلْ الرّب. وهذا يكشف لنا جوهرية رسالتهم المتعلقة بالتواصل مع البشريين كاشفًا لهم عن المخطط الإلهي بل يقودهم ليتمموه بحياتهم الأرضية.
الثالثة: “معاونة الإنسان لملائكة الرّب” الرب يبادر بحماية كل الإنسان، خليقته، إلا إن واجب الإنسان أن يتعاون مع عمل الرب من خلال ملائكته، الحاملين إسمه القدوس، ويمثلون حضوره الإلهي ويصبحون وكلائه. إذن من خلال إنتباه الإنسان للرَّب والإصغاء لملائكته والتحلي بروح المرونة فيما يكشفه من أسرار إلهية. وأيضًا الإنسان مدعو بدوره للطاعة فالملاك الذي يسير قائداً مسيرة عودة الإنسان إلى إلله مُتممًا ما كشفه الرب من خلاله. بالفعل هذا الكشف كان بالعهد القديم إلا إنه إستمر بالعهد الجديد إلا إنه كُشِفَ بشكل أكثر وضوحًا.
- الملائكة في العهد الجديد
تستمر الأرواح السمائية بحمل الرسالة الإلهية أيضًأ لبعض مِن شخصيات العهد الجديد كدور أساسي. مما يشير لفَّرادّة وإستمرارية ذات الدور الملائكي بالعهد القديم. على سبيل المثال في حوار زكريا الكاهن مع ملاك الرب المُعلن إجابته: «أَنا جِبرائيلُ القائِمُ لدى الله، أُرسِلتُ إليكَ لأُكلِّمَكَ وأُبَشِّرَكَ بِهذه الأُمور» (لو 1: 19). هذا الحوار مع زكريا أب يوحنا المُعمدّ الذي هيأ تقديم يسوع للعالم. هناك الكثير من الشخصيات الكتابية التي أرسل الرّب ملاكه لهم كالرعاة في لو 2: 15. راجع بعض النصوص بحسب مت 1. 28؛ يو 5. 12؛ أع 5. 7. 10؛ 2كو 11؛ 1تيم 1؛ رؤ 1. 2؛ … .
- بدء الخلاص برسالة ملائكية
إلا أن الجديد لعالمنا اليوم يتضح في أن الرّب كشف سره لمريم “أم إبنه المستقبلي- حامل الخلاص الأبدي” مستخدمًا ذات الروح السمائية فيبشرنا لوقا بـ “الحوار”: «في الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ […] إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم» (لو 1: 26- 27). وأيضًا دور ملاك الرّب مع شخص يوسف، الذي نحتفل هذا العام به، وهو بمثابة الأب يسوع الأرضي. وهنا لم تتحاور الروح السمائية مع يوسف بل تمت رسالتها في شكل “حلم” يروي الإنجيلي: «تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له …» (مت 1: 20). ومنذ تواصل ملاك الرب بمريم ويوسف تجسد المخطط الخلاصي وبدء خلاص الإبن يدخل عالمنا البشري. إلا أن نقطة الإنطلاق هي الملاك الذي كشف سر الله لمريم ويوسف.
الجديد في جوهرية دور الملاك بحمله رسالة قلبت حياة مريم ويوسف رأسًا على عقب، لحمل الرسالة التي غيّرت وجه التاريخ البشري وهي ولادة “إبن الله”. من خلال قبول والديّ يسوع، رسالة الرَّب بحوار ملاكه، مع مريم وترائيه بالحلم مع يوسف إكتشفنا أن الرّب لا زال يرغب في مرافقتنا ليس فقط من خلال ملائكته الحُراسّ وحاملين رسالته بل في إبنه “يسوع” الذي صار هو رسالة الحب الإلهي المتجسدة لأجلنا. والغريب أن رسالة الأنبياء والمبشرين قد إنتهت منذ تجسد يسوع إلا أن رسالة الملائكة إستمرت مع يسوع ذاته منذ بدء رسالته العلنية (راج مر 1) وحتى قيامته المجيدة (راج مت 28؛ مر 16؛ لو 24؛ يو 20). وقد أعلن يسوع لأتباعه بالإستعداد عند مجئيه الثاني سيتم مع ملائكته: «متى جاءَ في مَجدِه ومَجدِ الآبِ والمَلائِكَةِ الأَطهار» (لو 9: 25- 26). يسوع بعد أن تذوقنا في قيامته التحليق إلى المجد السماوي يدعونا اليوم للإستمرار في تبعيته ملتجأين لحماية الملائكة المرافقين له في مجئيه الثاني. مما يدعونا في الحديث عن “الملائكة” يعني الإقتناع بأن عالمنا الأرضي مليء في كل مكان بحضور الله الحي وأن هذا الحضور موجه لكل فرد منا كقوة تدعونا وتحمينا.
في يومنا هذا يستمر حضور العمانوئيل أي الله معنا إلى منتهى الأيام ومرافقة ملائكته كــ “حُراس” لقلوبنا لئلا تنحرف عن طريق الخير وتسلك في طرق مُضادة. تجسد المسيح لم يُوقف دور الملائكة بحياتنا بل يقوي هذا الإنفتاح على العالم الإلهي الغير مرئي بحضور عذب يُنشط نقل الحياة الأرضية ويهدئ من مهابة الإنسان منها. فيصير حضور الأرواح السمائية نسمات ترافق البقاء المستمر للعمانوئيل. بحشب ما أعلنه البابا بنديكتوس السادس عشر بنظرة لاهوتية جديدة موضحًا إنه: “يُصور المسيح القائم من الأموات مُحاطًا بالملائكة التي تُحلق حوله. إعتقدت أن هؤلاء الملائكة يمكنهم التحليق للعُلا لأنهم غير موجودين في جاذبية الأشياء المادية للأرض، ولكن في جاذبية حب القائم من بين الأموات؛ وأننا [كبشريين] نستطيع التحليق لأعلى إذا خرجنا قليلاً من جاذبية المادة ودخلنا الجاذبية الجديدة وهي حب القائم من الأموات”.
الخلاّصة
أختتم مقالي عن الأرواح السمائية مشيرة إلى قول كاتب سفر المزامير الذي كثيراً ما تخطأ بعض الترجمات في إستبدال كلمة ملائكة بالآلهه: «ما الإِنْسانُ حَتَّى تَذكُرَه واْبنُ آدَمَ حَتَّى تَفتَقِدَه؟ دونَ الملائكة حَطَطتَه قَليلاً بِالمَجدِ والكَرامةِ كلَّلتَه» (مز 8: 5- 6). فالإنسان عظيم في نظر الله خالقه، لذا لم يكتفي بالمخلوقات التي أعدها له في الخمس أيام الأولى قبل خلقه باليوم السادس بل منحه الملائكة كأرواح سمائية تُمجد وتسبح الله في مجده وتحمل رسائله إلى عالمنا البشري فتصير لنا وسيلة للتواصل مع العالم الإلهي وكشف أسراره. قرر الله أن يخلق الإنسان وجعل الملائكة الخاضغة للرب (اتيم 3: 16) لتكشف إهتمام الرّب بالإنسان. هذا يدعونا اليوم أن ننفتح للتعمق في قبول رسائل الرّب من ملائكته التي تحيط بنا أو تتواصل بداخلنا فتُجمل قلوبنا بنسمات إلهية وتسمح لنا بالدخول في العالم الإلهي بينما لازلنا بعد نحيا في العالم الأرضي. الملائكة هي الأرواح السمائية التي تقودنا نحو ما هو لله وما هو خيرّ ويعده الرب بيده في محططه. إذن فلنسبح الرب مع الأرواح السمائية بقلب بنوي يحمل مشاعر بشرية.
د. سميرة يوسف سيداروس (باحثة في لاهوت الكتاب المقدس)