pixabay CC0

لُوقا الإنجيليّ: العابر والمتجول

قراءة كتابية عن سِرّ المسيح بحسب بُشرى مار لُوقا

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

     المقدّمة

     تحتفل الكنيسة الكاثوليكية من كل عام في الثامن عشر من شهر أكتوبر بعيد كاتب الإنجيل الثالث وسفر الإعمال، وهو لوقا الإنجيلي. فقد تميَّزَّ كلاً من لُوقا ورفاقه الثلاثة متى ومرقس ويوحنا في تقديم “صورة خاصة” بل “فريدة” عن يسوع الإله والإنسان، نعلم أن يسوع لم يكتب شيئًا عن ذاته، بل تَعَّهَد إثنين من تلاميذه (متى ويوحنّا) وإثنين من رفقاء تلاميذه (لُوقا تلميذ بولس ومرقس تلميذ بطرس) بمهمة نقل تعاليم يسوع وجوهر رسالته، بأفعاله وأقواله، التي وصلت إلى ذُروتِها في سره الفصحي المجيد. كلاّ مِن هؤلاء الإنجيّليين همّ “شهود سر الله” إذ بادَّ كلاً منهم بتدَوَّينّ أعماله الكتابية بطريقته ولغته وقاموسه ومنهجيته الخاصة. لهذا لدينا أربع “صور” عن يسوع يتميز كل إنجيلي بوجه خاص يعلن فيه عنه سر المسيح الإلهي في بشريته.

  1. لُوقا في العهد الجديد

     يتكرر إسم لُوقا في الرسائل البولسيّة ثلاث مرات. السبب الذي جعل بولس يُدُّون إسم لُوقا هو مرافقته له الشخصية ومعاونته في بعض من رحلاته الثلاث. بحسب التقليد الشفويّ تعلم إن لُوقا لم يتعرّف على يسوع شخصيًّا بل من خلال عظات بولس أثناء تجواله مُبشراً بيسوع المصلوب والقائم. وبعد أنّ إختبر ما سَمِعَهُ على الصعيد الإيماني صار مسيحيًا ثم قام بتدويّن عَمَلّيِّه بُناء على ما سمعه مِن عظات بولس وخبرته الإيمانية بالإضافة إلى الإعتقاد بلقائه بمريم أم يسوع وبعض من التلاميذ. هدف ما لُوقا من كتاباته هو أن يكشف لصديقه “تاوفيلوس” الذي حَرَّرَّ له سواء الإنجيل أم سفر الأعمال. لذا نُلاحظ كقراء إنه إفتتح إنجيله بالكلمات التالية: «لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا […] رَأَيتُ أَنا أَيضاً، وقَد تقَصَّيتُها جَميعاً مِن أُصولِها، أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا تاوفيلُسُ المُكرَّم» (لو 1: 1- 3). ثم إفتتح سفر الأعمال بكلمات تؤكد إستمراريته في العمل الذي بدأه في الإنجيل قائلاً: «أَلَّفْتُ كِتابيَ الأَوَّل، يا تاوُفيلُس، في جَميعِ ما عَمِلَ يسوعُ وعلَّم، مُنذُ بَدءِ رِسالَتِه» (أع 1: 1).

     الذي يُدهشنا كقراء إنّه حينما قام لُوقا بسرد الإثجاحات الأولى بسفر الأعمال عن ولادة الكنيسة الأوّلى وإنطلاقها من خلال بطرس والتلاميذ ثم بولس وإنطلاقه في رسالته عادة ما إستخدم صيغة المفرد أو الجمع “الغائب هو، هم” إلا إنه منذ أعمال 16 إستكمل تدويّنه للأحداث مستخدمًا صيغة الجمع “الحاضر” قائلاً: «فأَبحَرْنا مِن طَرُواس واتَّجَهْنا تَوّاً إِلى […] فمَكَثْنا بِضعَةَ أَيَّامٍ في هذهِ المَدينَة. ثُمَّ خَرَجْنا …» (16: 11- 13). مما يدل على تبعيته وإنضمامه لجماعة المؤمنين في مسيرة بولس دون أن يُنَوه عن هويته أو إسمه كعادة المُدونييّن في القرن الأول الميلادي. سنتوقف على سرد بعض سِمَّاتِه التي سنكتشفها معًا من خلال وصف القديس بولس له فهو بمثابة أبيه الروحيّ وأهمها: الأولى وهي وطيفته كطبيب وتعبير بولس عن  مشاعره له كأب روحيّ نعلمها من قوله: «يُسلِّمُ علَيكم لُوقا الطَّبيبُ الحَبيبُ» (كو 4: 14). أمّا السِّمة الثانية تتضح في إشارته المتميزة والتي تشيّد برفقة لُوقا الفريدة له في رحلته: «ولُوقا وَحْدَه مَعي» (2تيم 4: 11). تظهر السِّمة الأخيرة في رسالة مار بولس إلى فيلمون مشيراً إلى حضور لُوقا الفَعَّال إليه قائلاً: «يُسَلِّمُ […] ومَرقُس وأَرِسطَرخُس وديماس ولُوقا مُعاوِنِّي» (24).

  1. سر يسوع لدى لُوقا (9: 51)

     من خلال صفحات بشارة لُوقا الإنجيليّ قد كشف لنا عن “وجه يسوع ” المتميز في شكل رحلة أو جولة. إذ أن شخص يسوع  الذي يقدمه مار لُوقا هو الإنسان الغير مُتوقف فهو في حركة مستمرة ودائمًا يعطينا صورته كالـ “المتجوّل”. نعم فهو، في وجهة نظر لُوقا بمثابة المُرسل “المُسافر في إتجاه واضح” فلا نجده ينحرف عن طريقه، بحسب لُوقا. إنّ الرحلة التي قدمها لنا لُوقا بدأت بالتحديد في منتصف روايته الإنجيلية حينما كشف لنا عما يحمله يسوع في باطنه من قرار شخصي قائلاً: «ولَمَّا حانَت أَيَّامُ ارتِفاعه، عَزَمَ على الاتِّجاهِ إِلى أُورَشَليم» (لو 9: 51). فعل “عَزَمَ” لدى لُوقا يكشف لنا الكثير إذ يقول لنا إنه منذ تلك اللحظة لم يقطع يسوع أي منعطفات تُحيد مسيرته عن تحقيق هدفه، بل إنطلق بوجهه بشكل حاسم نحو أورشليم، مُتممًا الهدف الذي تجسدّ لأجله (راج لو 1-2). يسوع الذي يودّ لُوقا أن يكشفه لنا هو “الإله والإنسان العابر” في مسيرة تهدف الوصول إلى المدينة المقدسة “أورشليم”. هذا هو سر يسوع  لدى لُوقا زهز الإله والإنسان “المُتجول بالطريق”.

    رسمَّ لنا لُوقا رحلة يسوع “اللاهوتية” و “الكرستولوجية” معًا، فهي ليست رحلة “جغرافية”. لا تحتوي الخريطة التي تبعها يسوع للسير نحو هدفه على سمات مادية للوصول للسياحة أو للعبادة في أرض إسرائيل كأي يهودي أو سائح. بل تحوي هذه الجولة المسيانيّة مسار خاص تم رسمِه بيد الله-الآب في الكتب المقدسة. إن الكتب المقدسة ما هي إلا “البوصلة” الّتي توجه مَن يقرأها فتشير بحسب الإتجاهات نحو الطريق للملكوت. فتصير تلك البوصلة مؤشر لمرافقة يسوع في رحلته لإتمام مخطط الآب. في نهاية رحلته نسمع يسوع هامِسًّا لتلاميذه يقول: «ذلك كلامي الَّذي قُلتُه لكم إِذ كُنتُ مَعَكم وهو أَنَّه يَجِبُ أَن يَتِمَّ كُلُّ ما كُتِبَ في شأني، في شَريعَةِ موسى وكُتُبِ الأَنبِياءِ والمَزامير». (لُوقا 24: 44). هذا هو الهدف من رحلته الذي يعلنه لُوقا لصديقه تاوفيلوس، الذي يُمثل كلاً منا اليوم، بعد أن سار يسوع بحسب كلمة الله له نجد أنَّ ما كان يمكن أن يتحقق في مدينة أورشليم، أي تقديم حياته كذبيحة عن الكل حتى النهاية. ففي أورشليم، عاش يسوع حتى النهاية، إلى حدّ بذل ذاتِه، وما عَلّمه لتلاميذه “على الطريق” من خلال الأقوال والأفعال. هو الذي سيبقى بل هو ما يتذكرونه ليخبروا في عظاتهم عن يسوع القائم مما إختبروه معه.

  1. مسيرة أتباعه

     إذا كان وجه يسوع العابر، هو الوجه الّذي قَدَّمه إيَّاه لُوقا لنا في عمله الأوّل وهو الإنجيل، فإنه يتحدث إلينا أيضًا بسفر الأعمال عن “وجه التلاميذ” في عمله الثاني كرحلة “كنسية” أيضًا. التلاميذ الذين تعلموا على يدي يسوع في مدرسته التي كانت “على الطريق” سيصيروا لاحقًا جوالين في عظاتهم وتبشيرهم به مثل معلمهم  “عابري سبيل”. فقدّ أرسلهم يسوع في نفس إتجاه رحلته، نحو ذات الهدف الذي إستبقه هو. قام التلاميذ في رحلتهم بتأدية نفس الأعمال وكرَّروا الأقوال التي سمعوها من يسوع وصارت كلمته لهم بمثابة خريطة يتبعونها للوصول إلى الطريق الذي أعده لهم هو قبلاً برحلته الخلاصية من خلال الصليب. فالتلاميذ لن يذهبوا للعالم بشكل شخصي، لكنهم سوف يسبقون يسوع ليعلنوا مجيئه الثاني لكل المسكونة.

     نجد أن التلاميذ، كمعلمهم: «ابنُ الإِنسان فلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه» (لو 9 :58)، وأُطلق عليهم “أهل الطريق”. وهم الّذين إضطروا إلى مغادرة بعض الأماكن دون تجهيزات ولم يضطروا إلى الإلتفاف لتقديم التحية لأحد، لئلا يفقدوا وقت البشارة. مدعوين ألا يجب أن يكون لدينا مكان أمن آخر غير أولئك الذين تودهوا إليهم ومَن سيرحبون بهم. ستعتمد حياتهم على معلمهم وعلى أولئك الذين أرسلهم إليهم. سيتعين عليهم أن يعيشوا بالكامل “لأجل الآخرين” مُقتدين بمعلمهم. لن يضطروا إلى الانتقال من منزل إلى آخر، لأن الغرض من رحلتهم ليس العمل بل الرسالة. دورهم قاصر على أن يقولوا ويفعلوا ما قاله وفعله معلمهم خلال رحلته والذي يتلخص في: شفاء المرضى وإعلان قرب ملكوت الله (راج لو 9: 1-6). هذا جزء صغير مما يقدمه لُوقا لنا نحن أيضًا في القرن الحادي والعشرين إذ يوَجَهَنا كمسافرين سائرين خلف يسوع “عابر السبيل” الذي سبقنا نحو أورشليم وما علينا إلا التمثل به وتبعيته.

  1. رسالة لُوقا لك اليوم (10: 38- 42)

     في عالم السرعة الذي نحيّاه اليوم، أدعوك كقارئ مؤمن ترغب في التمثل بلُوقا من خلال خمسة آيات نجدها فقط لدى لُوقا الذي يروي حدث الاختين مرثا ومريم في 10: 38- 42. أن تستبدل إسمك باسم مرثا التي دعاها يسوع بالإسم لتتوقف قليلاً وتتعرف على مشكلة مرثا الّتي لا تكمن فقط في “القيام” بأشياء كثيرة، ولا حتى المبالغة في الترحيب بضيوفها. لكن مشكلة مرثا كامنة في القلق والانفعال التي تجعلها مُشتتة إذ تترك الجوهري وترتكز على الثانوي. مرثا، مثل كلاً منا، لديها مشكلة: إنها لا تستطيع التوقف! غالبًا ما نشكو من الالتزامات العديدة، لكننا ندرك بعد ذلك أن الجهد الحقيقي يستغرق وقتًا للتوقف والاستماع  بأنواعه: الإستماع للذات، للرّبّ وللآخر. وهذا هو الفرق بينها وبين أختها مريم. نحن نعرف مريم التي أدركت كيف تعطي الأولوية لحياتها، وتعرف كيف تتوقف وتسمع، أما مرثا لا! لماذا يخشى أحدنا اليوم التوقف؟ لماذا يتهرب من الصمت والإستماع للرب ولذاته وللآخر. ربما لأن الصمت هو صوت يصرخ بشيء يصعب سماعه بداخله! لنتوقف عن ملء الوقت بالأشياء التي يمكنك فعلها، ولكن بالأشياء التي تعطي معنى للحياة وللعديد من الأشياء الصالحة التي نقوم بها!

     الخلاّصة

     لُوقا الإنجيلي هو صورة بسيطة لكلاً منا فنحن لم نلتقي بيسوع شخصيًا ولكن الفضل يعود لوالدينا ولمن بشرونا بيسوع ورسالته الخلاصية. مدعويين اليوم لنتعلم منه ونتحمل مسئوليتنا في الكرازة والتبشير بيسوع وإن لم يكن بكتابة أناجيل مُدونة بمعايشتها فنصير نحن أناجيل مُعاشة نعطي شهادة عن إيماننا بيسوع من خلال حياتنا. وأودّ أن أختتم مقالي هذا بآية تّرِدّ فقط لدى لُوقا ويمكننا أن نقبلها كدعوة من لُوقا يهمس بها في اذن كلاً منا وهذه الهمسة تعاوننا في تبشيرنا الحياتي فتكون حياة كلاً منا “إنجيل ذو لمسة رحيمة” فيقول: «كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم» (لو 6: 36).  كل عام وكل مَن يحمل إسم لوقا بخير بمناسبة عيد الكارز الإنجيلي “مار لوقا”.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

د. سميرة يوسف

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير