لقد قرأت الكثير من المنشورات في اليومين السابقَين تتحدث عن «عذابات» و«عقوبات» المطهر… شعرت وكأن الذين ينشرون هذه الصور والكتابات لديهم مفهوم غير دقيق عن المطهر…
لنقرأ هذه الآيات من رسالة القديس بولس الرسول الأولى إلى أهل قورنتُس: «١٢فَكُلُّ مَنْ بَنَى عَلَى هذا الأساسِ بِناءً مِنْ ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ أوْ حِجارَةٍ كَريمَةٍ أوْ خَشَبٍ أوْ قَشٍّ أوْ تِبْنٍ، ١٣فَسَيَظْهَرُ عَمَلُهُ، وَيَوْمُ ٱلمَسيحِ يُعْلِنُهُ لأنَّ ٱلنَّارَ في ذلِكَ ٱليَوْمِ تَكْشِفُهُ وَتَمْتَحِنُ قِيْمَةَ عَمَلِ كُلِّ واحِدٍ. ١٤فَمَنْ بَقِيَ عَمَلَهُ نالَ أجْرَهُ، ١٥وَمَنِ ٱحْتَرَقَ عَمَلَهُ خَسِرَ أجْرَهُ. وَأمَّا هُوَ فَيَخْلُصُ، وَلَكِنْ، كَمَنْ يَنْجو مِنْ خِلالِ ٱلنّارِ.»(١قور٣: ١٢-١٥).
في مَعرِضِ كَلامِهِ عَنْ خِدمة الله بالبِشارة، يُعالِج بولُس في هذه الرِّسالَة مُشكِلَةً حَسَّاسَة حَيَّرَتْهُ: في قورنتس آفَة التَّحَزُّب للذينَ أتَوا وبَشَّروهُم. بعضُهُم يَقولُ أنَّهُ لبولس وبعضهم لأبلُّوس وبعضهم لبطرس… أمَّا بولُس فكانَت لَهُ نَظرَة مُمَيَّزَة لهذه المُشكِلَة: المَسيحُ واحِد، والبُشرَى السَّارّة واحِدَة، فَلِمَى التَّحَزُّب إلى المُبَشِّرين؟ بالنِّسبَةِ لَهُ الإجابَة على هذا السُّؤال تَحمِلُ احتِمالَيْن:
– إمَّا المَسيحُ انقَسَم (وهذا مُستَحيل)
– أو أنَّ هُناكَ في تَبْشِيْرِ ٱلمُبَشِّرينَ أفكارٌ مَبنِيَّةٌ على أساس غَير “الأساسِ المَوْضوع” (أي يسوع المَسيح) . فقد بَنَى بعض المُبَشِّرين كلامهم على أمور فَلسَفِيَّة غَريبَة عَنْ البِشارَة، وهذا ما سَبَّبَ الإنقِسام .
تَأتي الآيات التي قرأناها في مَعْرِضِ كَلامِ بولُس عَن حَلّ هذه المُشْكِلَة، فَيُشَدِّد على نَواحٍ رَمْزِيَّة تَحْمِلُ كَلامًا قاسِيًا، يواجه بين عَمَلِ الله الذي لا يُنتَقَدْ، وَعَمَلِ الإنْسان الخاضِعِ للخَطَأ والإمتِحان. فكَنيسَة قورِنتس بَناها الله، والمُبَشِّرونَ هُم شُرَكاءَ في العَمَلِ مَعَهُ (رج: ١قور٣: ٩): اللهُ وَضَعَ الأساس، والمُبَشِّرونَ أعلَوا البِناء . هُنا، يُؤَكِّدُ بولُس الرَّسول أنَّ بَعضَهُم يَستَعْمِلُ مَوادًا ثَمينَةً في البِناء، والبعضُ ٱلآخَر يَستَعْمِلُ ٱلخَشَبَ وَالقَشَّ… لَمْ يَدْخُل في الأسْماء، وَلَكِنَّهُ أعلَنَ ما سَيَأتي: ها هُوَ يَوْمُ ٱلرَّب! إنَّ يَسوعَ سَيَظهَر، “في نارٍ مُلْتَهِبَةٍ لِيَنْتَقِمَ مِنَ ٱلَّذينَ لا يَعْرِفونَ الله وَمِنَ ٱلَّذينَ لا يُطيعونَ بِشارَةَ رَبِّنا يَسوع” (١تس١: ٨). سَتَأتي النَّار وَتَظهَر بِذلِكَ قيمَةَ كُلِّ عَمَلٍ، وبالتَّالي سَتَظهَر الحَقيقة، وَسَيُعرَفُ مَنِ ٱلذي بَنَى على أساسٍ آخَرَ غَيرِ الذي وَضَعَهُ الله.
في هذه الآياتِ كَلامٌ مُخيف يَدفَعُنا إلى طَرحِ الأسئِلَة التَّالِيَة:
– ما هِيَ ٱلنَّار التي يَتَكَلَّم عَنها بولُس في هذه الآيات؟
– ما هُوَ هذا الإمتِحان؟ وما هِيَ حَقيقَتُهُ؟
– يَتَكَلَّم بولُس الرَّسول عَن عُبورٍ وَخَلاصٍ في الآية ١٥: “وَأمَّا هُوَ فَيَخْلُصُ، وَلَكِنْ، كَمَنْ يَنْجو مِنْ خِلالِ ٱلنّارِ”. فما هُوَ الخَلاص؟
١- النّار
النار تَرمُزُ إلى المَوت والقِيامَةِ مِن جِهَة، وإلى القَتلِ والإلتهام مِن جِهَةٍ أُخرَى .
أمَّا في الكِتاب المُقَدَّس، فالنَّار هِيَ عُنصُر أساسي كالهواءِ والماء (سيراخ٣٩: ٣١)، فَهيَ أيضًا عُنصُر مُطَهِّر، “لأنَّ كُلّ واحِدٍ يُمَلَّحُ بالنّار” (مرقس٩: ٤٩أ)، وهي أيضًا نار العذاب التي تُشبِه أتون تَنقِيَة الذّهب والفِضَّة (مرقس٩: ٤٣-٤٧؛ أشعيا٤٨: ١٠؛ حزقيال٢٢: ١٨-٢٢)، إضافَةً إلى أنَّها العُنصُر الذي يُدَمِّر وَيُخفي كُلّ ما هُوَ غَير نافِع (١صموئيل٣١: ١٢)، كما أنَّها العُنصُر الذي إذا أُطلِقَ، تَوَجَّهَ صُعودًا، نحو السّماء، على عَكس كُلّ العناصر الأخرى التي تسقط أرضًا، لذلك، إنّ النّار هي العنصر الذي يلتهم الذَّبيحَة، لتصل إلى السّماء (تكوين١٥: ١٧؛ أحبار٩: ٢٤؛ ١ملوك١٨: ٢٤-٣٨). نَجِدُ أيضًا في الكِتاب المُقَدَّس بأنَّ النّار هِيَ عِقاب إلهي كالذي حَصَلَ في سَدوم وعمورة (تكوين١٩: ٢٤؛ لوقا١٧: ٢٩)، ولكِن، عِندَما طَلَبَ يَعقوب ويوحنا من الرّب يَسوع أن يُمطِرَ النّار لِيُفني السّامريين، انتَهَرَهُما ورفض هكذا عقاب “لأنَّ ابنَ الإنسان لَم يَأتِ لِيُهلِك أنْفُسَ النّاس بَل لِيُخَلِّص” (لوقا٩: ٥٤-٥٦). من هُنا، للنّار وَجه خَلاصي، وعلامَة على ظُهور إلهي (خروج٣: ٢؛ ١٣: ٢٢؛ مزمور٧٨: ١٤؛ إرميا٢٣: ٢٩). في العَهد الجَديد أعلَنَ يوحَنَّا بَأنَّ المَسيح سَوفَ يُعَمِّدُ بالروح القُدُس والنَّار (متى٣: ١١؛ لو٣: ١٦) وفي العَنصَرَة ظَهَرَ الرُّوح تحت شَكلِ ألسِنَةٍ مِن نار (أعمال٢: ٣). إضافَةً إلى ذلِكَ، نَجِدُ في سِفرِ نَشيد الأناشيد بأنَّ “مِياهٌ كَثيرَة لا تَسْتَطيع أن تُطفئ المَحَبَّة” لأنَّها كالنّار (نشيد٨: ٦-٨) .
لذلك، عِندَما يَتَكَلَّمُ بولُس عَن إمتِحان النّار، فما هُوَ المَقصود؟
٢- الإمتحان
إنَّ الإمتِحان بالنّار يَعني بأنَّ بولُس الرَّسول يَأخُذ من النّار الوجهَتَيْنِ الخَلاصِيَّة والعِقابِيَّة على السَّواء. ففي الإمتِحان “تَسْوَدُّ وُجوه وتَبْيَضُّ وُجوه”، وفي ذلِكَ وَضعٌ لِكُلِّ شَخصٍ أمامَ مَسؤولِيَّاتِهِ تجاه عَمَلِهِ. لتاريخٍ ليسَ ببَعِيد (حوالي١٠٠ سنة قبل كتابة الرسالة)، دخلت شُعوبٌ بَربَِيَّةٌ إلى قورِنتُس وأحرقت المَدينَة. فلم يَبقَى منها سِوَى المَعابِد والقُصور المَبنِيَّة بالحِجارَة وعلى أُسس مَتينَة، في حين لم يَبَقَى منَ المَباني الأخرَى شَيء … من هُنا نفهم أنَّ القورنثيّون يُدرِكونَ تَمامًا ما هُوَ “الإمتِحان” الذي يَتَكَلَّم عَنهُ بولُس، ومن هُنا نَفهَم أيضًا المُقابَلَة التي وضعها بولُس في الآية ١٢: “ذَهَب أوْ فِضَّة أوْ حِجارَة كَريمَة” مُقابِل “خَشَب أوْ قَشّ أوْ تِبْن”، فهو يُقابل بين المَواد المَوجودَة بِكَثرَة في القُصور وَالمَعابد وتِلكَ المَوجودَة في البُيوت الفقيرة .
لَقَد أتَى المُبَشِّرون بعدَ بولُس الرَّسول وبَشَّروا في قورنتس… فكانَت التَّفرِقَة، واختَلَطَ التَّعليم الجَيِّد المَبني على أساس المَسيح، بالتَّعليم الأقل جودَة المَبني على الفلسفات الباطِلَة. يَأتي الإمتِحان في يوم الرَّبّ، يومَ يَأتي الرّب يَسوع في نار مُلتَهِبَة، فَيَحتَرِق الخَشَب والقَشّ والتّبن، وَتَظهَر المَعادِن والجَواهِر. فذلِكَ “اليَوم”، “يَوم الحِساب”، “يَوم المَسيح” سَيَأتي، وَسَتَكونُ دَيْنونَة العامِل الشَّخصِيَّة عِندَما تَأتي النّار الآكلة، فَيَظهَر ما هوَ ثابِتٌ في عَمَلِهِ. ولكن علينا أن نَتَنَبَّه إلى أنَّ صورة النّار يستعملها بولُس كَمُقارَنَة، وليس علينا أن نمزج هذه الصُّورَة بالواقع. ما أرادَ قَوْلَهُ هُوَ: الحِساب سَيُظهِر بِدِقّة مَنْ كانَ عامِلاً جَيِّدًا، وَمَن كانَ سَيٍّئًا .
هُنا يَطرَح السُّؤال نَفسَهُ: هَل كُلّ الأعمال التي قامَ بِها المُبَشِّرون الذينَ أتَوا بعدَ بولُس هِيَ سَيِّئَة؟ أمْ قاموا بِعَمَلٍ حَسَن، ولكن هذا العمل لَمْ يَسلَم مِن الشَّوائِب؟
٣- الخلاص
لا يَجزُم بولُس الرَّسول بِأنَّ عَمَل المُبَشِّرين الآخَرين كانَ سَيئًا. بل يُشَدِّدُ على فِكرَةِ وُجود شَوائِب، وَهِيَ أعمالٌ وَأقوالٌ مَبنِيَّةٌ على أُسُس غَير الأساس الذي وضعه الله: المَسيح. لذلك، لا يُحرَم هذا الرَّسول منَ الخلاص، بل يُخَلَّصُ، وَلَكِن بعدَ حِسابٍ دَقيق. نَفهَم من هذا الكَلام أنَّ بولس يُوَجِّهُ تَنبيهًا قاسي اللَّهجَة وواضِح: سَيَأتي يَوم الرَّبِّ بالنَّار للخَلاص… فَمَنْ يُمْكِنُهُ أنْ يَنجو؟ كان يُمكِن لِبُولُس الرّسول أن يَقول بأنّ النّار ستُحرِق كُلّ ما هُوَ غَير صالح من دون الدُّخول في مسألَة أن يَخلُص الشَّخص كَمَنْ يَمُرُّ في النّار. ولكن، لِماذا قالَ ذلك؟
الإجابَة واضِحَة: لا يُمكِن للمَسيح أنْ يُسقِطَ بِشَكْلٍ نِهائِي الذي اختارَهُ وَأعْطاهُ النِّعمَةَ لِيَكونَ مُبَشِّرًا وَعاملاً في حصادِهِ، كَما لا يُمكِن لِعَمَل الإنْسان أن يُدَمِّر العَهد الذي أقامَهُ مَعَهُ المَسيح بالعِماد. لذَلِكَ، حَتَّى وَلَوْ قامَ الإنسان بِعَمَلٍ يُنافي النِّعمَة التي أغدَقَها الله عَلَيْه، فالله لن يَتَوَقَّف عَن وَهْب هذه النِّعمَة، وَبِهذه الحالَةِ يَكونُ امتِحَانُ النَّارِ بِحَدِّ ذاتِهِ نِعْمَةً، من خِلالها يُطَهِّرُ الله عَمَلَ الشَّخص من شَوائِبِهِ . لِذلِكَ، فَإنَّ تَشبيه النّار في هذا النّص لا يُقصَد بِهِ نار العَذاب الأبَدِيّ في جهنّم، بِما أنَّ النّجاة مِنها ممكِنَة. فجَميع العاملين سيعبرون في هذه النّار، لامتِحانِ عَمَلِ كُلِّ واحِدٍ.
هُنا يَطرَحُ السُّؤال نَفسَهُ: هَل يُمكِنُنا الإرتِكاز على هذا النَّص للكلام عَن عَقيدَة المَطهَر؟ بَعضُ شُرَّاحِ الكِتابِ المُقَدَّسِ يَنفونَ ذلِك، وَلَكِنَّ غالِبِيَّة الشُّرَّاح الكاثوليك يُقِرُّونَ بِأنَّ في هذه الأيَة إشارَةٌ يُمكِنُ الإسْتِناد عَلَيْها للكَلام عَنْ عَقيدَةِ المَطهَر، إذ إنَّ بولُس يَتَكَلَّم عَن عُبور في النَّار، أي عُقوبَة مُؤَقَّتَة جَرَّاءَ الأخطاء البَسيطَة التي ارتَكَبَها العامل خِلالَ عَمَلِهِ، والتي لا تَسْتَحِقُّ حُكمَ النَّار الأبَدِيَّة. هذا العُبور يَكونُ إمَّا في هذه الحَياةِ بِحَيثُ تَظهَر الأخطاء لِيُؤَدِّي عَنها الخاطِئُ حِسابًا، أم في الحياة الأخرَى، حيثُ العبور المَطهَرِيّ ، فَهوَ ليس بالنِّسبَةِ لبولُس “حالَة وَسَطِيَّة” بين العَذاب الأبَدِيّ والفَرَح بِمُشاهَدَةِ وَجه المَسيح، بل هُوَ عُبور تَقوم بِهِ النَّفسُ بِفَرَحٍ وَبِمَعرِفَةٍ كامِلَةٍ، فَتُحاسَبُ على كُلِّ الأخطاء التي قامت بِها لِتَتَطَهَّرَ مِنْها، وَكَأنَّها تَعبُرُ في النَّارِ راكِضَةً بَيْنَ ألْسِنَةِ اللَّهَب نَحوَ الخَلاصِ الذي يَنْتَظِرُها.
في النِّهايَة: ليس علينا أن نفكر بالمطهر على أنه عقوبة أو ألم ووجع أو سجن تُسجَن فيه أرواح الموتَى… كُلُّنا لله بالمَسيح يَسوع، وهو القادِر أن يُديمَ نِعَمَهُ، وَلَن تَكونَ الشَّائِبَةُ في عَمَلِنا -نحن الذينَ اختارَنا بِنِعمَتِهِ- عائِقًا أمامَ خَلاصِهِم. أفلاَ يَجِبُ عَلَيْنا -بِناءً على ذلِكَ- أنْ نُصَلِّي عَنْ أمْواتِنا الذينَ سَبَقونا، وَنَذكُرهُم لِيَغفِرَ الله زَلاَّتَهُم التي اقتَرَفوها “بِمَعْرِفَةٍ وَبِغَيْرِ مَعرِفَة” لِيَعبُروا إلى الخلاص؟