vatican media

موقفان للرسول بولس يساعداننا في فهمنا وتنمية إيماننا اليوم

كلمة البابا في اللقاء مع الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والإكليريكيين في أثينا اليونان

Share this Entry

الإخوة الأساقفة الأعزاء،

الكهنة والرهبان والراهبات والإكليركيين الأعزاء،

الإخوة والأخوات الأعزّاء، !kalispera sas ـ مساء الخير!

أشكركم من كلّ قلبي لترحيبكم ولكلمات التحيّة التي وجهها إليَّ المونسنيور روسولاتوس. وشكرًا أختي الراهبة، لشهادتك: من المهم أن يعيش الرهبان والراهبات خدمتهم بروح الخدمة هذه، بحبّ شديد فيقدِّمون نفسهم هبةً للجماعة التي يُرسَلون إليها. شكرًا! شكرًا أيضًا لروكوس لشهادة الإيمان الجميلة التي تعيشها في العائلة، وفي الحياة اليومية، مع أبنائك الذين يطرحون الأسئلة أحيانًا في فترة معينة، مِثلُهم مثلُ شباب كثيرين، ويتساءلون، عن بعض الأشياء، ويصبحون منتقدين لبعض الأمور. وهذا أمر جيد أيضًا، لأنّه يساعدنا ككنيسة على التفكير والتغيير.

يسعدني أن ألتقي بكم في هذه الأرض التي هي هبة وتراث للإنسانية، عليها بُنِيَت أسس الغرب. نحن جميعًا نوعًا ما أبناء لبلدكم ومدينون له: بدون الشعر والأدب والفلسفة والفن التي نشأت وتطورت هنا، لما استطعنا أن نعرف جوانب كثيرة من الوجود البشري، ولا استطعنا أن نجيب على أسئلة كثيرة في داخلنا عن الحياة والحبّ، والألم وعن الموت أيضًا.

في تربة هذا التراث الغني، هنا في بداية المسيحيّة بدأ ”مختبر“ الانثقاف الإيماني، أدارته حكمة العديد من آباء الكنيسة، وهم بسيرتهم المقدسة وبكتاباتهم منارة مضيئة للمؤمنين في كلّ العصور. وإذا سألنا من افتتح اللقاء بين المسيحيّة المبكرة والثقافة اليونانية، لن تذهب أفكارنا إلّا إلى الرسول بولس. هو الذي فتح ”مختبر الإيمان“، الذي جمع بين هذين العالمين. وقد فعل ذلك هنا، كما يروي سفر أعمال الرسل: وصل إلى أثينا، وبدأ يكرز في الساحات وقادَهُ علماء ذلك الزمن إلى الأريوباغوس (راجع أعمال الرسل 17، 16-34)، وهو مجلس الشيوخ والحكماء الذي كان يقضي في مسائل المصلحة العامة. لنتوقف عند هذه الحادثة، لترشدنا في مسيرتنا الكنسية. ونسترشد بموقفين للرسول يساعداننا في فهمنا وتنمية إيماننا اليوم.

الموقف الأول هو الثقة. بينما كان بولس يعظ، بدأ بعض الفلاسفة يتساءلون عمَّا يريد أن يعلِّم هذا “الثّرثار” (الآية ١٨). يسمونه هكذا، الثّرثار، وهو الشخص الذي يخترع الأشياء مستفيدًا من حسن نية مستمعيه. لذلك قادوه إلى الأريوباغوس. لذلك يجب ألّا نتخيل أنّهم فتحوا أمامه ستارة المسرح ليتكلّم. بالعكس، أتوا به ليستنطقوه: “هل لَنا أَن نَعرِفَ ما هوَ هذا التَّعليمُ الجَديدُ الَّذي تَعرِضُه؟ فأَنتَ تَنقُلُ إِلى مَسامِعِنا أُمورًا غَريبة، ونَحنُ نَرغَبُ في مَعرِفَةِ ما يَعْني ذلك” (الآيات ١٩-٢٠). باختصار، وُضِع بولس أمام محكمة.

هذه الظروف لرسالة بولس في اليونان مهمة أيضًا بالنسبة لنا اليوم. وضعوا الرسول في الزاوية. قبل ذلك بقليل، في تسالونيكي، كانوا أيضًا قد قاطعوا وعظه، وبسبب أعمال الشغب وقد اتهمه الشعب أنّه يسبِّب الاضطرابات في المدينة، اضطر إلى الفرار ليلًا. والآن، بعد وصوله إلى أثينا، اعتبروه ثرثارًا وضيفًا غيرَ مرحَّبٍ به، فقادوه إلى الأريوباغوس. لذلك فهو لا يمر بلحظة انتصار. إنّه يحمل رسالته في ظروف صعبة. ربما، في لحظات عديدة في مسيرتنا، نشعر نحن أيضًا بالتعب وأحيانًا بالإحباط لأنّنا جماعة صغيرة، أو كنيسة ضعيفة، تتحرك في بيئة غير مؤاتيةٍ دائمًا. تأمّلوا في قصة بولس في أثينا. كان وحيدًا، في أقليّة، وفرصة النجاح أمامه ضئيلة. لكنّه لم يسمح لنفسه بالاستسلام للإحباط، ولم يتخلَّ عن رسالته. ولم يترك نفسه تذهب إلى الشكوى والتذمر. هذا مهم جدًا: احذروا من الشكوى والتذمر. هذا هو موقف الرسول الحقيقي: المضيّ قدمًا بثقة، مفضِّلًا صعوبة المواقف غيرِ المتوقعة على العادة والتكرار. تمتع بولس بهذه الشجاعة. من أين أتته؟ من الثقة بالله. شجاعته هي شجاعة الثقة: الثقة بعظمة الله الذي يحِبُّ أن يعمل معنا دائمًا لأنّنا صغار.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنثق بالله وبأنفسنا، لأن كوننا كنيسة صغيرة يجعلنا علامة بليغة للإنجيل، ولله الذي أعلن يسوع أنّه يختار الصغار والفقراء، والذي يغيِّر التاريخ بأعمال الصغار البسيطة. نحن، الكنيسة، غيرُ مطالَبين بروح الفتوحات والنصر، ولا بعظمة الأعداد الكبيرة، ولا بكبرياء الدنيا. هذا كلّه خطر علينا. هذه تجربة التباهي بالانتصار. المطلوب منّا هو أن نأخذ عبرة من حبّة الخردل، فهي صغيرة جدًّا، لكنَّها تنمو بتواضع وببطء. قال يسوع: “هيَ أَصغَرُ البُزورِ كُلِّها، فإِذا نَمَت كانَت أَكبَرَ البُقول، بل صارَت شَجَرَة” (متى 13، 32). المطلوب منّا أن نكون خميرة، تخمِّر في الخفاء، في الصبر والصمت، داخل عجينة العالم، بقوّة عمل الرّوح القدس المتواصل (راجع الآية 33). سرّ ملكوت الله يكمن في الأشياء الصغيرة، في ما لا يُرى غالبًا ولا يُحدث ضوضاء. الرسول بولس، الذي يذكِّر اسمه بالصِّغَر، عاش واثقًا لأنّه رحبّ في قلبه بكلمات الإنجيل هذه، لدرجة أنّه جعلها تعليمًا للإخوة في قورنتس، قال: “الضُّعْف مِنَ اللّه أَوفَرُ قُوَّةً مِنَ النَّاس. […] وما كانَ في العالَمِ مِن ضُعْف فذاكَ ما اختارَه اللهُ ليُخزِيَ ما كانَ قَوِيًّا” (1 قورنتس 1، 25. 27).

لهذا، أيّها الأعزّاء، أودّ أن أقول لكم: باركوا الصِّغَر ورحِّبوا به. فإنّه يهيؤُكم للثقة بالله وبالله وحده. أن تكونوا أقلية – والكنيسة أقلية في العالم كلّه – لا يعني أن تكونوا غير مهمين، بل يعني أن تسيروا في الطريق الذي فتحه الله، وهو طريق الصِّغَر: ”الكينوزس“، التجرُّد من الذات، والاتضاع، والتنازل، تنازل الله (الذي سكن بيننا) في يسوع المسيح. هو في الواقع تنازَلَ حتى اختفى في ثنايا بشريتنا وفي جراح جسدنا. وخلَّصنا بأن صار خادمًا لنا. يؤكِّد بولس أنّه “تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد” (فيلبي 2، 7). في كثير من الأحيان نكون مهووسين بالمظاهر، ونريد أن نكون مرئيين، ولنا حضور أمام الناس، لكن “ملكوت الله لا يأتي على وَجهٍ يُراقَب” (لوقا 17، 20). يأتي سرًّا، مثل المطر، ببطء، على الأرض. لنساعد بعضنا بعضًا لتجديد هذه الثقة بعمل الله، وحتى لا نفقد حماس الخدمة. تشجعوا وتقدموا في طريق التواضع والصّغر هذا!

أودّ الآن أن أؤكد الموقف الثاني لبولس في الأريوباغس في أثينا: وهو الترحيب والقبول. إنّه الاستعداد الداخلي الضروري للبشارة بالإنجيل: عدم الرغبة في اتخاذ محل الآخر وفرض النفس على حياته، بل هو زَرعُ البشارة السارة في تربة وجوده. وقبل ذلك، نتعلَّم أن نقبل ونعترف بالبذور التي وضعها الله من قبل في قلبه، قبل مجيئنا. لنتذكر: الله يسبقنا دائمًا، الله يسبق دائمًا عملنا. ليست البشارة تعبئة وعاءٍ فارغ، بل هي تسليط الضوء على ما بدأ الله وحققه. وهذه هي الطريقة الخارقة التي أظهرها الرسول أمام أَهل أثينا. إنّه لا يقول لهم ”إنّكم مخطئون في كلّ شيء“ أو ”الآن أنا أعلِّمكم الحقيقة“، لكنّه بدأ بالترحيب بروحهم الدينية وقال: “يا أَهلَ أثينا، أَراكُم شَديدي التَّدَيُّنِ مِن كُلِّ وَجْه. فإِنِّي وأَنا سائِرٌ أَنظُرُ إِلى أَنصابِكُم وَجَدتُ هَيكَلاً كُتِبَ علَيه: إِلى الإِلهِ المَجْهول” (أعمال الرسل 17، 22-23). أخذ شيئًا مهمًا من أَهل أثينا. يعترف الرسول بالكرامة لمن يخاطبهم، ويرحب ويحترم حساسيتهم الدينية. حتى لو كانت شوارع أثينا مليئة بالأصنام، الأمر الذي من أجله ”ثار ثائره“ (راجع الآية 16). رأى بولس طلب الله الخفيّ في قلوب هؤلاء الأشخاص، وأراد أن يقدّم لهم بوداعة ولطف دهشة الإيمان. أسلوبه لا يفرض، بل يعرض. وليس مراده البحث عن أتباع –أبدًا-، لكنّه يتكلّم بوداعة يسوع. وهذا ممكن لأنّ بولس لديه نظرة روحية إلى الواقع. إنّه يؤمن بأنّ الرّوح القدس يعمل في قلب الإنسان، ما وراء التسميات الدينية. سمعنا هذا من شهادة روكوس. في مرحلة معينة، يبتعد الأبناء قليلاً عن الممارسة الدينية، لكن الرّوح القدس الذي كان يعمل يستمر في العمل، ولذا فهم يؤمنون بقوّة الوَحدة والأخُوّة مع القريب. يعمل الرّوح دائمًا بشكل يتجاوز ما يُرى من الخارج. لنتذكر ذلك! لذلك يبدأ موقف الرسول، رسول جميع الأزمنة، بالترحيب بالآخر: لا ننسى أنّ “النعمة تفترض الثقافة، وهبة الله تتجسّد في ثقافة الذين يقبلونها” (الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل، 115). لا توجد نعمة مجردة تدور في رؤوسنا. النعمة تتجسّد دائمًا في الثقافة، تتجسّد هناك.

قال البابا بنديكتس السادس عشر عن زيارة بولس إلى الأريوباغوس، إنّنا يجب أن نتقبَّل بمودة خاصة الأشخاص الملحدين أو اللاأدريين، ويجب أن ننتبه لأنّه “عندما نتكلّم على بشارة جديدة قد يخاف هؤلاء الأشخاص. إنّهم لا يريدون أن يروا أنفسهم هدفًا للرسالة، ولا يريدون التخلي عن حريتهم في فكرهم وفي إرادتهم” (خطاب إلى الكوريا الرومانية، 21 كانون الأوّل/ديسمبر 2009). نحن أيضًا مطالبون اليوم بأن يكون لدينا موقف ترحيب، وأسلوب ضيافة، وقلب تحركه الرغبة في خلق شركة بين الاختلافات الإنسانية والثقافية أو الدينية. التحدي هو إيجاد ”ولع بأن نكون جماعة“، الذي يقودنا – الكاثوليك والأرثوذكس والإخوة والأخوات من المعتقدات الأخرى، وحتى الإخوة اللاأدريين، جميعنا – إلى الاستماع بعضنا لبعض، وإلى أن نحلم ونعمل معًا، وأن نُنَمِّيَ ”روحانية“ الأخُوّة (راجع الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل، 87). ما زال التاريخ الماضي جُرحًا مفتوحًا على طريق هذا الحوار المرحِّب، لكن لنقبل تحدِّيَ اليوم بشجاعة!

 أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أظهر القديس بولس، هنا على الأراضي اليونانية، ثقته الهادئة بالله، وهذا جعله يرحب بجماعة الأريوباغوس الذين اشتبهوا به. بهذَين الموقفَين بشَّر مخاطبيه بالإله المجهول. وقد قدَّم وجه إلَهٍ زرع في قلب العالم، بيسوع المسيح، بذور القيامة، وحقَّ الجميع في الرجاء، الذي هو حقّ من حقوق الإنسان، الحقّ في الرجاء. عندما أعلن بولس هذه الأخبار السارة، استخف به معظمهم وتركوه. “غَيرَ أَنَّ بَعضَ الرّجالِ انضَمُّوا إِلَيه وآمنوا، ومِنهم دِيونيسيوسُ الأَرْيُوباغيّ، وامرَأَةٌ اسمُها دامَرِيس وآخَرونَ معَهُما” (أعمال الرسل 17، 34). الأكثرية انسحبت. بقية صغيرة انضمت إلى بولس، منهم دِيونيسيوس، الذي سميت هذه الكاتدرائية باسمه! إنّهم بقية صغيرة، لكن هكذا ينسج الله خيوط التاريخ، منذ ذلك الزمن وحتى اليوم. أتمنى لكم من كلّ قلبي أن تتابعوا عملكم في مختبركم التاريخي للإيمان، واعملوا بهذَين المكوِّنَيْن، الثقة والترحيب، لتتذوقوا الإنجيل فيكون لكم اختبارَ فرحٍ واختبارَ أخُوّة أيضًا. أحمِلُكم في قلبي في المودّة والصّلاة. وأنتم من فضلكم لا تنسَوا أن تصلُّوا من أجلي.

O Theós na sas evloghi!  [بارككم الله!]

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Cathédrale catholique, Athènes © Vatican Media

Cathédrale Catholique, Athènes © Vatican Media

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير