أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، صباح الخير!
كما هو الحال في كلّ سنة، إنَّا نلتقي معًا يومين قبل عيد الميلاد. إنّها طريقة لنعبّر بها ”بصوت عالٍ“ عن أخُوّتنا، من خلال تبادل التهاني بالأعياد الميلادية، ولكنّها أيضًا لحظة تفكير ومراجعة لكلّ واحد منا، حتّى يبيّن لنا نور الكلمة المتجسّد بشكلٍ أفضل من نحن وما هي رسالتنا.
كلّنا نعلم أنّ: سرّ الميلاد المجيد هو سرّ الله الذي جاء إلى العالم متَّخذًا طريق التواضع.الله تجسّد: هذا التّنازُل الكبير. وفي هذا الوقت يبدو أنّ التواضع قد نُسي، أو يبدو أنّه صار يُنظَر إليه كأنّه شكل من أشكال التزمت الأخلاقي، وقد أُفرغ من القوّة المدويّة التي فيه.
لكن إن أردنا أن نعبّر عن سرّ عيد الميلاد كلّه في كلمة واحدة، أعتقد أنّ كلمة التواضع هي الكلمة المناسبة التي تساعدنا على ذلك. تكلّمنا الأناجيل على مشهد فقير، زاهد، غير مناسب لاستقبال امرأة على وشك أن تلد. ومع ذلك، فإنّ ملك الملوك جاء إلى العالم لا بطريقة تلفت الانتباه، لكن فيه قوّة جذب غامضة تحرّك قلوب الذين يشعرون بالحضور المدوّي لأمر جديد على وشك أن يغيّر التاريخ. لهذا يعجبني أن أفكّر وأقول أنّ التواضع هو الباب الذي دخل منه ويدعونا، كلّنا، إلى دخوله. تتبادر إلى ذهني تلك المرحلة من الرّياضة الروحيّة: لا يمكننا أن نمضي قدمًا من دون تواضع، ولا يمكننا أن نمضي قدمًا في التواضع من دون الذّلّ. وقال لنا القدّيس أغناطيوس أن نطلب الذّلّ.
ليس من السهل أن نفهم ما هو التواضع. إنّه نتيجة التغيير الذي يحدثه الرّوح نفسه فينا من خلال التاريخ الذي نعيشه، كما حدث مثلًا لنعمان السوري (راجع الملوك الثاني 5). كان هذا الشخص ذا شهرة واسعة في زمن النبي إليشع. كان قائدًا شجاعًا في الجيش الآرامي، وقد أظهر بسالته وشجاعته في مناسبات عديدة. ولكن مع الشهرة والقوّة والاحترام والتكريم والمجد، كان هذا الرجل مجبرًا على أن يعيش مأساة مروعة: كان أبرص. درعه، أساس سمعته، كان يخفي فيه في الواقع إنسانية ضعيفة وجريحة ومريضة. غالبًا ما نجد هذا التناقض في حياتنا: المواهب الكثيرة فينا هي الدرع الذي يغطي نقاط ضعف كثيرة.
فهم نعمان حقيقة أساسيّة وهي: لا يمكن أن يقضي حياته وهو مختبئ وراء درع أو مهمة أو شهرة في المجتمع، لأنّه في النّهاية يسبّب الألم. تأتي لحظة، في حياة كلّ واحد، لا يريد فيها أن يعيش بعد مختبئًا خلف مجد هذا العالم، بل يريد أن يعيش حياته كاملة صادقة، دون الحاجة إلى دروع وأقنعة. دفعت هذه الرغبةهذا القائد الشجاع نعمان لينطلق ويبحث عن شخص يمكنه أن يساعده، وقد فعل ذلك بناءً على اقتراح من عبدة، عبرانية أسيرة حرب، روت له عن إله قادر أن يشفي مثل هذه التناقضات.
تزود بالفضة والذهب، وانطلق في رحلته حتى وصل أمام النبي أليشع. وطلب أليشع من نعمان، شرطًا وحيدًا لشفائه، فقط أن يخلع ثيابه ويغتسل سبع مرات في نهر الأردن. لا سمعة ولا شرف ولا ذهب ولا فضة! نعمة الخلاص مجانية، ولا يمكن حصرها في أي شيء ثمين في هذا العالم.
رفض نعمان هذا الطلب، وبدا له تافهًا للغاية، وبسيطًا للغاية، وسهل المنال جدًّا. يبدو أن قوّة البساطة لم يكن لها مكان في مخيلته. لكن كلمات عبيده جعلته يغيّر رأيه، إذ قالوا له: “لَو أَمَرَكَ النَّبِيُّ بِأَمرٍ عَظِيم، أَما كُنتَ تَفعَلُه؟ فكَيفَ بِالأَحْرى وقد قالَ لَك: اِغتسِلْ وآطهُرْ” (الملوك الثاني 5، 13). استسلم نعمان، وتواضع و”نزل“، وخلع درعه، ونزل في مياه الأردن، “فعادَ لَحمُه كَلَحمِ صَبِيِّ صَغيرٍ وطَهُر” (الملوك الثاني 5، 14). الدرس كبير! تواضَعَ فكشف عن إنسانيته، بحسب كلام الله، وهذا ما جعل نعمان ينال الشفاء.
تذكرنا قصة نعمان أنّ عيد الميلاد هو الوقت الذي يجب أن يتحلّى فيه كلّ واحد منا بالشجاعة لخلع درعه، وللتجرّد من لفائف المناصب والمهام، وصورته في المجتمع، وبريق مجد هذا العالم، وأن يقبل بنفسه كما هو في تواضعه. يمكننا أن نقوم بذلك بناءً على مثال أبلغ وأكثر إقناعًا، ومن صاحب سلطان، وهو مثال ابن الله، الذي لم يتهرّب من التواضع بـ”نزوله“ في تاريخنا، فأصبح إنسانًا، وأصبح طفلاً، ضعيفًا، ملفوفًا بقُمُط ومُضجَعًا في مذود (راجع لوقا 2، 16). بعد أن نخلع ثيابنا وامتيازاتنا وأدوارنا وألقابنا، نصبح جميعًا بُرصًا، جميعنا، وبحاجة إلى شفاء. عيد الميلاد هو الذكرى الحيّة لهذا الوعي، وهو يساعدنا على أن ندركه بشكلٍ أعمق.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، إذا نسينا إنسانيتنا، فإنّنا نعيش فقط من مجد ”دروعنا“، لكن يسوع يذكّرنا بحقيقة مزعجة ومقلقة وهي: ”ماذا يَنفَعُ أن تربح العالَمَ كُلَّه إذا خَسِرت نَفْسَك؟“ (راجع مرقس 8، 36).
هذه هي التجربة الخطيرة – التي ذكرتها في مناسبات أخرى – ”روحيّة دنيوية“، وهي، عكس كلّ التجارب الأخرى، يصعب كشفها، لأنّها مغطاة بكلّ ما يجب أن نقوم به عادة: وظيفتنا ودورنا، والليتورجيا، والعقيدة، والتديّن. كنت قد كتبت في الإرشاد الرسولي، فرح الانجيل: «في هذا السياق، يتغذّى المجد الباطل لهؤلاء الذين يكتفون ببعض السلطة ويفضّلون أن يكونوا قوّاد جيوش مهزومة، أكثر من أن يكونوا جنودًا بسطاء في فيلق يتابع المعركة. كم مرة حلمنا بخطط رسوليّة، توسُّعيّة، وُضِعت بدقة، على مثال خطط الجنرالات المهزومين! وهكذا ننكر تاريخنا الكنسي المجيد، أنّه تاريخ تضحيات ورجاء وجهاد يومي، وحياة مبذولة في الخدمة، ومثابرة على العمل الشاق، لأنّ كلّ عمل يُنجز بعرق الجبين. بدل ذلك، نقف مغرورين ونتكلّم على ”ما كان يجب أن يُعمل“ – هذه الخطيئة: ”ما كان يجب أن يُعمل“ – ونتكلّم كمعلمين روحيين ومختصين في العمل الراعوي، نوزع تعليماتنا فيما نبقى خارجًا. نغذّي مخيّلتنا، إلى ما لا نهاية، ونفقد التواصل مع الواقع الصّعب الذي يوجد فيه شعبنا الأمين” (رقم 96).
التواضع هو القدرة على المعرفة كيف نعيش إنسانيتنا دون يأس، وبواقعية وفرح ورجاء، أن نعيش إنسانيتا هذه التي أحبّها الله وباركها. التواضع هو أن نفهم أنّنا ينبغي ألّا نخجل من ضعفنا. علّمنا يسوع أن ننظر إلى بؤسنا بنفس الحبّ والحنان اللذَين ننظر بهما إلى طفل صغير ضعيف يحتاج إلى كلّ شيء. بدون التواضع سنبحث عن الطمأنينة، وربما سنجدها، لكنّنا بالتأكيد لن نجد ما يخلصنا، ما يمكن أن يشفينا. التطمينات هي أكثر الثمار فسادًا في ”روحيّة دنيويّة“، إنّها تكشف عن نقص في الإيمان والرجاء والمحبّة، وتصبح عجزًا فينا فلا نقدر أن نميّز حقيقة الأشياء. لو استمر نعمان في جمع الميداليات فقط ليضعها على درعه، لكان مرض البرص قد التهمه في النهاية: في الظاهر كان حيًّا، نعم، لكنّه كان منغلقًا ومعزولًا في مرضه. لكنّه بحث بشجاعة عما يمكن أن يخلصه وليس عما يزيد مجده الآني.
نَعلم جميعًا أنّ الكبرياء هي نقيض التواضع. آية النبي ملاخي، والتي أثّرت بي كثيرًا، تساعدنا لنفهم الفرق بين طريق التواضع وطريق الكبرياء: “فيَكونُ جَميع المُتَكَبِّرينَ وجَميعُ صانِعي الشَّرِّ قشّاً، فيُحرِقهمُ اليَومُ الآتي، قالَ رَبُّ القُوَّات، حتَّى لا يُبقِيَ لَهم أَصلاً ولا غُصناً” (3، 19).
استخدم النبي صورة ملهمة تصف الكبرياء جيدًّا: تقول الآية إنّ الكبرياء مثل القش. وعندما تأتي النار، يصبح القش رمادًا، ويحترق، ويختفي. وتقول لنا أيضًا إنّ الذين يعيشون معتمدين على الكبرياء يجدون أنفسهم محرومين من أهم الأشياء فيهم وهي: الجذور والبراعم. الجذور هي ارتباطنا الحيوي بالماضي الذي منه نأخذماوية الحياة لنكون قادرين أن نعيش في الحاضر. أمّا البراعم فهي الحاضر الذي لا يموت، بل تصبح الغد، وتصبح المستقبل. البقاء في حاضر لا جذور له ولا براعم يعني أنّنا نعيش النهاية. وهذا هو المتكبّر، المنغلق في عالمه الصغير، لم يعد له ماضٍ ولا مستقبل، ولم يعد له جذور ولا براعم ويعيش مرارة الحزن العقيم الذي يسيطر على القلب “وهو أفضل إكسير للشيطان” [1]. من ناحية أخرى، يعيش المتواضع مسترشدًا بصورة ثابتة من فعلين: يتذكّر – الجذور – ويلد، ثمار الجذور والبراعم، وبالتالي يعيش انفتاح الخصوبة الفرح.
أن نتذكّر: اللفظة الإيطالية ”Ricordare“ تعني ”العودة إلى القلب“، أن نتذكّر. إنّ الذاكرة الحية للتقليد والجذور، ليست عبادة للماضي، ولكنّها حركة في داخل النفس تعيد بصورة ثابتة إلى القلب ما سبقنا، وما مرَّ به تاريخنا، وما أتى بنا إلى هنا. أن نتذكّر لا يعني أن نكرّر، بل أن نثمِّن، ونُحيِي، وأن نسمح ونشكر لقوّة الرّوح القدس أن يضرم قلوبنا، كما أضرم قلوب التلاميذ الأوائل (راجع لوقا 24، 32).
وحتّى لا يصبح التذكّر سجنًا في الماضي، نحن بحاجة إلى فعل آخر وهو: وَلَدَ. المتواضع – الرجل المتواضع، والمرأة المتواضعة – يهتم أيضًا للمستقبل، وليس للماضي فقط، لأنّه يعرف أن ينظر إلى الأمام، ويعرف أن ينظر إلى البراعم، بذاكرة مليئة بالشكر. المتواضع يلِد ويدعو ويدفع نحو المجهول. عكس ذلك المتكبّر، فهو يكرّر ويتصلّب – التصلّب هو رذيلة، رذيلة آنية – وينغلق في تكراره، فهو يشعر بالاطمئنان والأمان في ما يعرفه، ويخشى الجديد لأنّه لا يستطيع أن يسيطر عليه، ويشعر بالاضطراب أمامه… لأنّه فقد ذاكرته.
المتواضع يقبل المناقشة، وينفتح على ما هو جديد ويفعل ذلك لأنّه يشعر بنفسه أنّه قويّ بما سبقه، بجذوره وانتمائه. حاضره يَسكُنُه ماضٍ يفتحه على المستقبل وعلى الرجاء. وعلى عكس المتكبّر، فهو يعرف أنّه لا استحقاقاته ولا ”عاداته الحسنة“ هي مبدأ حياته وأساسها، لذلك فهو قادر أن يثق، بينما المتكبّر غير قادر أن يثق.
نحن جميعًا مدعوون إلى التواضع لأنّنا مدعوون إلى أن نتذكّر وأن نلِد، ونحن مدعوون إلى أن نجد من جديد العلاقة الصحيحة مع الجذور والبراعم. وبدونها نحن مرضى ومصيرنا أن نختفي.
يسوع، الذي جاء إلى العالم بطريق التواضع، فتح لنا طريقًا، ودلَّنا على أسلوب حياة، وبيّن لنا هدفًا.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، إذا كان صحيحًا أنّه بدون التواضع لا يمكن أن نلتقي بالله، ولا يمكن أن نختبر الخلاص، فمن الصحيح أيضًا أنّه بدون التواضع لا يمكن حتى أن نلتقي بالقريب وبالأخ وبالأخت الذين يعيشون بجوارنا.
في 17 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، بدأنا المسيرة السينوديّة التي ستَشغَلُنا في السنتين القادمتين. في هذه الحالة أيضًا، يمكن أن يضعنا التواضع في الوضع المناسب لنكون قادرين على أن نلتقي ونصغي، وأن نتحاور ونميّز بين الأمور، وأن نصلّي معًا، مثلما أشار الكاردينال عميد مجمع الكرادلة. إن بقِيَ كلّ واحد منغلقًا في قناعاته الخاصة، وفي خبرته الخاصة، وفي ما يعيشه هو وحده، وفي غلاف إحساساته وتفكيره، فمن الصعب أن نفسح المجال لاختبار الرّوح المرتبط، بحسب قول الرسول، بقناعتنا بأنّنا جميعًا أبناء “إِلهٍ واحِدٍ أَبٍ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا” (أفسس 4، 6).
كلمة ”جميعًا“ ليست كلمة لا نقدر أن نفهمها! لكن روح التسلط الإكليريكي – الرّذيلة – التي تتغلغل فينا يوميًّا وتجرّبنا، تجعلنا نفكّر دائمًا في إلهٍ يتكلّم إلى بعض الأشخاص فقط، بينما يجب على الآخرين فقط الاستماع والتّنفيذ. يريد السّينودس أن يكون الخبرة التي تجعلنا نشعر بأنّنا جميعًا أعضاء في شعب أكبر: شعب الله المقدّس الأمين، ومن ثمّ تلاميذ يصغون، وبفضل هذا الإصغاء بالتّحديد، يمكنهم أيضًا أن يفهموا إرادة الله، التي تظهر دائمًا بطريقة غير متوقّعة. ولهذا، من الخطأ أن نعتقد أنّ السّينودس هو حدث مخصّص للكنيسة، باعتبارها شيئًا تجريديًا، وبعيدًا عنّا. السّينوديّة هي أسلوب يتطلب منا أن نبدّل أنفسنا ونجعله أسلوب حياتنا، خصوصًا نحن الموجودين هنا ونعيش خبرة الخدمة في الكنيسة الجامعة من خلال العمل في الكوريا الرومانية.
ولا ننسَ أنّ الكوريا ليست أداة لوجستيّة وبيروقراطيّة لاحتياجات الكنيسة الجامعة فقط، بل هي أوّل هيئة مدعوّة إلى الشهادة، ولهذا بالتّحديد تكتسب المزيد من السُّلطة والفعّاليّة، عندما تواجه شخصيًّا تحدّيات التحوّل السّينودي التي هي أيضًا مدعوّة إليه. المنظّمة التي علينا أن نحقّقها ليست ذات طبيعة تجاريّة، بل ذات طبيعة إنجيليّة.
لهذا، إن كانت كلمة الله تذكِّر العالم كلّه بقيمة الفقر، يجب علينا، نحن أعضاء الكوريا، أن نكون أوّل من يلتزم بالفقر والارتداد إلى حياة قانعة. وإن أعلن الإنجيل العدالة، فيجب علينا أن نكون أوّل من يحاول أن يعيشها بشفافيّة، من دون محسوبيّات وتجمُّعات. وإذا كانت الكنيسة تتبع طريق السّينوديّة، فيجب علينا أن نكون أوّل من يتحوّل إلى أسلوب مختلف من العمل، والتّعاون، والشّركة. وهذا ممكن فقط إن سلكنا طريق التّواضع. ومن دون التواضع لا يمكننا أن نفعل هذا.
خلال افتتاح السّينودس، استخدمت ثلاث كلمات-مفتاح للسّينودس وهي: شركة، ومشاركة، ورسالة. ونشأوا من قلب متواضع: فمن دون التواضع لا يمكننا أن نفعل شركة، ولا مشاركة ولا رسالة. هذه الكلمات هي أمور ثلاثة ضرورية أودّ أن أقدّمها لتكون نهجًا للتواضع الذي يجب أن نسعى إلى تحقيقه هنا في الكوريا. ثلاثة أساليب تجعل طريق التّواضع طريقًا عمليًّا يجب تطبيقه.
أوّلًا الشّركة. يجب أن نعبّر عنها من خلال أسلوب المسؤوليّة المشتركة. بالتّأكيد، تختلف المسؤوليّات بتنوّع الوظائف والخِدمات، لكن من المهمّ أن يشعر كلّ واحدٍ أنّه مشارك في المسؤوليّة عن العمل، لكن من دون أن نصل إلى خبرة إلغاء المسؤولية الشخصيّة في تنفيذ برنامج حدّده شخص آخر. أُفاجَأ دائمًا عندما أجد إبداعًا في الكوريا – يُعجبني جدًّا -، وليس من النادر أن يظهر ذلك، خصوصًا حيث يُترك المجال للجميع، ويوجد في الواقع مجال للجميع، حتّى للذين يبدو أنّهم يشغلون مكانًا هامشيًّا، بحسب الترتيب الوظيفي. أشكركم على هذه الأمثلة – أنا أجدها، وهي تُعجبني -، وأشجّعكم على العمل، حتّى نتمكّن من إيجاد ديناميّات عمليّة، فيها يشعر الجميع أنّهم مشاركون فاعلون في الرّسالة التي عليهم القيام بها. تصبح السُّلطة خدمة، عندما يكون فيها تقاسُم ومشاركة ومساعدة على النّمو.
الكلمة الثّانية هي المشاركة. ولا يُعبَّر عنها بالأكثريّة أو الأقلّيّة، فهي تولد أساسًا من العلاقة مع المسيح. لن يكون لدينا أبدًا أسلوب إنجيلي في كلّ أعمالنا، إن لم يكن المسيح هو محور كلّ شيء، وليس هذا الحزب أو ذاك، أو هذا الرّأي أو ذاك، بل المسيح هو محور كلّ شيء. يعمل كثيرون منّا معًا، ولكن ما يقوّي المشاركة هو أيضًا قدرتنا على أن نصلّي معًا، ونصغي إلى الكلمة معًا، ونبني علاقات تتجاوز العمل وحده وتقوّي أواصر الخير، أواصر الخير بيننا، بمساعدة بعضنا البعض. من دون هذا، نجازف أن نكون فقط غرباء يتعاونون، ومتنافسين يحاولون تثبيت أنفسهم بشكل أفضل، أو أسوأ من ذلك، إن نشأت علاقات تميل بالأحرى إلى التواطؤ من أجل المصالح الشّخصيّة، وننسى القضيّة المشتركة التي تجمعنا معًا. يخلق التواطؤ انقسامات، وتحزبات وأعداء. ويتطلّب التعاون أن نكون كبارًا في القلب فندرك التحيّز في أنفسنا ونتجاوزه بالانفتاح على العمل الجماعي، حتّى على الذين لا يفكّرون مثلنا. في التواطؤ نكون معًا حتّى نحصل على نتيجة خارجيّة. وفي التّعاون نكون معًا لأنّنا نهتمّ بخير الآخر، وبخير شعب الله كلّه الذي نحن مدعوّون إلى خدمته. لا ننسَ الوجه المحسوس للأشخاص، ولا ننسَ جذورنا، ولا الوجه المحسوس للذين كانوا أوّل معلّمين لنا في الإيمان.قال بولس الرّسول لطيموتاوس: ”تذكّر أمّكَ، وتذكّر جدّتك“.
يقتضي منظور المشاركة، في الوقت نفسه، أن نعترف بالتّنوع الذي فينا وهو هبة من الرّوح القدس. وفي كلّ مرّة نبتعد فيها عن هذا الطريق ونعيش المشاركة والتسوية (أي إزالة الفروق الشخصيّة) على أنّها مرادفات، فإنّنا نُضعف ونُسكِت قوّة الرّوح القدس المُحيي في وسطنا. موقف الخدمة يطلب منا، بل يفرض علينا، السّماحة والسّخاء فنعترف بِغِنَى شعب الله المتعدّد الأشكال ونعيش هذا التعدّد بفرح. وهذا غير ممكن من دون تواضع. يفيدني جدًّا أن أعيد قراءة بداية الدّستور العقائدي نور الأمم، من الفقرات 8، 12…: شعب الله المقدّس والأمين. إنّه أوكسجين للنّفس أن نستعيد هذه الحقائق.
الكلمة الثّالثة هي الرّسالة. إنّها الكلمة التي تخلصنا من الانطواء على أنفسنا. من ينطوي على نفسه “يتطلّع من علُ ومن بعيد، إنّه يرفض نبوءة الإخوة، ويزدري من يطرح عليه سؤالًا، ويركّز باستمرار على أخطاء الآخرين، وهو مهووس بالمظاهر. ولقد قلّص مرجعيّة القلب إلى أفق مغلقة لذاته ولمصالحه، وبالتّالي، فإنّه لا يتعلّم من خطاياه ولا ينفتح حقًّا على الغفران. هاتان هما العلامتان للشّخص المنغلق على نفسه: لا يتعلّم من خطاياه ولا ينفتح حقًّا على الغفران. إنّه فسادٌ كبير ظاهره صلاح. من الواجب تجنّب ذلك، بوضع الكنيسة في حركة خروج من الذات، وفي حركة إرساليّة مركّزة على يسوع المسيح، والتزام نحو الفقراء” (راجع الإرشاد الرّسولي، فرح الإنجيل، 97). القلب المنفتح على الرّسالة فقط، يجعل كلّ ما نعمله في الدّاخل وفي الخارج يتميّز دائمًا بالقوّة المتجدّدة لدعوة الرّبّ يسوع. وتتضمّن الرّسالة دائمًا حبًّا مندفعًا إلى الفقراء، أي الذين يفتقرون إلى شيء ما: ليس فقط من النّاحية الماديّة، ولكن أيضًا من النّاحية الرّوحيّة، والعاطفيّة، والأخلاقيّة. الجياع إلى الخبز والجياع إلى معنى الحياة هم فقراء على حدٍّ سواء. الكنيسة مدعوّة إلى الذهاب لملاقاة جميع أشكال الفقر، ومدعوّة إلى أن تعظ الجميع بالإنجيل، لأنّنا جميعًا فقراء بطريقة أو بأخرى، وينقصنا شيء ما. وتذهب الكنيسة أيضًا إلى لقائهم، لأنّنا نفتقدهم: نفتقد صوتهم، وحضورهم، وأسئلتهم ومناقشاتهم. الإنسان الذي يحمل الرسالة في قلبه يشعر بغياب أخيه، فيذهب إلى لقائه بموقف المتسوّل. الرّسالة تجعلنا ضعافًا – هذا جميل، الرّسالة تجعلنا ضعافًا -، وتساعدنا على أن نتذكّر حالتنا أنّنا تلاميذ، وتسمح لنا بأن نكتشف دائمًا فرح الإنجيل.
المشّاركة والرّسالة والشركة هي سمات كنيسة متواضعة، تصغي إلى الرّوح القدس، وتضع مركزها خارج ذاتها. قال هنري دي لوباك: “في نظر العالم، الكنيسة، مثل الرّبّ يسوع، لها دائمًا مظهر العبد. إنّها هنا على الأرض في هيئة خادم. […] وهي ليست أكاديميا للعلماء، ولا منتدىً لنخبة من الرّوحانيّين، ولا جمعيّة لأناس نوابغ. بل هي العكس تمامًا. يحتشد فيها المخلَّعون، والمشوّهون، والبائسون من كلّ الفئات، ويزدحم فيها الفاترون […]، من الصّعب، بل من المستحيل، للإنسان الطّبيعي، ما لم يَحدُث فيه تحوّل جذري، أن يرى أنّ هذا الواقع هو اكتمال لإخلاء الذّات الخلاصي (kenosi)، الأثر الرائع لتواضع الله” (تأمّلات في الكنيسة، 352).
أريد في الختام أن أتمنّى لكم ولي أوّلاً، أن نسمح لأنفسنا بأن نقبل إنجيل التواضع، تواضع عيد الميلاد المجيد، وتواضع المغارة، والفقر والصورة الجوهريّة التي بها دخل ابن الله إلى العالم. حتّى المجوس، الذين يمكننا أن نفكّر بالتّأكيد، أنّهم جاؤوا من حالة ميسورة أكثر من مريم ويوسف أو من رعاة بيت لحم، سجدوا عندما وجدوا أنفسهم في حضرة الطّفل (راجع متّى 2، 11). سجدوا. وليس سجودهم مجرّد فعل عبادة، بل هو فعل تواضع. وضع المجوس أنفسهم أمام الله فسجدوا على الأرض الجرداء. وإخلاء الذات هذا (kenosi)، وهذا النزول، هو نفسه الذي سيقوم به يسوع أيضًا في آخر ليلة من حياته على الأرض، عندما “قامَ عنِ العَشاءِ فخَلَعَ ثِيابَه، وأَخَذَ مِنديلاً فَائتَزَرَ بِه، ثُمَّ صَبَّ ماءً في مَطهَرَةٍ وأَخَذَ يَغسِلُ أَقدامَ التَّلاميذ، ويَمسَحُها بِالمِنديلِ الَّذي ائْتَزَرَ بِه” (يوحنّا 13، 4-5). الذهول الذي تثيره هذه الحركة أثار مقاومة بطرس، ولكن في النّهاية يسوع نفسه أعطى تلاميذه التّفسير الصحيح، قال: “أَنتُم تَدعونَني «المُعَلِّمَ والرَّبّ» وأَصَبتُم في ما تَقولون، فهكذا أَنا. فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضًا أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض. فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضًا ما صَنَعتُ إِلَيكم” (يوحنّا 13، 13-15).
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنتذكّرْ مرض البرص فينا، ولننبذ منطق العالم الذي يحرمنا من الجذور والبراعم، ولنسمح لأنفسنا بأن نقبل إنجيل تواضع الطفل يسوع. بالخدمة فقط، وبرؤيّة عملنا أنّه خدمة، يمكننا حقًا أن نكون مفيدين للجميع. نحن هنا – وأنا أوّلًا – لنتعلّم أن نركع ونسجد لله في تواضعه، وليس لأسياد آخرين في فخامتهم الفارغة. نحن مثل الرعاة، نحن مثل المجوس، نحن مثل يسوع. هذا هو درس عيد الميلاد: التواضع هو الشرط الأوّل للإيمان وللحياة الرّوحيّة وللقداسة. ليمنحنا إياه الله، وليمنحنا أوّل ظهور للرّوح فينا وهو: أن نريد. فما ليس لدينا، يمكننا على الأقل أن نبدأ فنريده ونرغب فيه. وأن نطلب من الرّبّ يسوع النّعمة لنستطيع أن نرغب، وأن نصير رجالًا ونساءً لديهم رغبات كبيرة. الرغبة هي حقًا الرّوح الذي يعمل في داخل كلّ واحد منا.
عيد ميلاد مجيد للجميع! وأطلب منكم أن تصلّوا من أجلي. شكرًا!
أودّ أن أترك لكم بعض الكتب، تذكارًا لعيد الميلاد المجيد… ولكن حتّى تقرأوهم، وليس لتتركوهم في المكتبة، للذين سيرثوننا! أوّلًا، الكتاب الأوّل هو للاهوتيّ كبير، وهو غير معروف لأنّه متواضع جدًّا، وهو وكيل في مجمع العقيدة والإيمان، المونسنيور أرماندو ماتّيو، الذي فكّر قليلًا في ظاهرة اجتماعيّة وكيف يمكنها أن تحرّض على الأمور الرعويّة. اسم الكتاب هو: اهتداء بيتر بان، في مصير الإيمان في هذا المجتمع من الشّباب الدائم. إنّه عنوان استفزازيّ، وهو جيّد.
P. Matteo, Convertire Peter Pan © Ancora
الكتاب الثّاني هو كتاب عن شخصيّات ثانويّة أو منسيّة في الكتاب المقدّس، وهو للأب لويجي ماريّا أبيكوكو. اسم الكتاب هو: الصخرة المهملة، والعنوان الثانوي هو: عندما يخلص المنسيّون. إنّه جميل. وهو للتأمّل، وللصّلاة. عندما كنتت أقرأ هذا الكتاب، تبادرت إلى ذهني قصّة نعمان السوري الذي تكلّمت عليه.
P. Epicoco, La Pietra scartata © San Paolo
والكتاب الثّالث هو للسّفير البابوي، سيادة المطران فورتوناتوس نواشوكوا، وأنتم تعرفونه جيّدًا. لقد قدّم تأمّلًا في موضوع الثّرثرة، وأعجبني ما قد وصفه، وهو: أنّ الثّرثرة تجعل الهويّة ”تنصهر“.
Mgr Nwachukwu, Parola abusata © Salle de Presse du Vatican
أترك لكم هذه الكتب الثّلاثة، وأتمنّى أن تساعدنا كلّنا في المضي قدمًا. شكرًا! شكرًا لعملكم ولتعاونكم. شكرًا.
ولنطلب من مريم أمّ التواضع أن تعلّمنا أن نكون متواضعين. ”السّلام عليكِ يا مريم…“
[البركة الختاميّة]
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021
[1]G. Bernanos, Journal d’un curé de campagne, Paris 1974, 135.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana