المقدّمة
قدّمنَّا في الأسابيع الأربعة السابقة أربعة كلمات رافقتنا من خلال قراءتنا لأناجيل زمن المجئ. والآن نحن أكثر قربًّا من الإحتفال بتجسد الكلمة الإلهية. نودّ أن نشارككم قراءة إشعيائيّة تحمل لنا الكثير من العمق وتَحِمِلُنَا للإحتفال بهذا “الوَلَدٌ الإلهي” بشكل يتناسب مع ألوهيته. قد تنبأ أشعيا منذ القرن الثامن ق. م. قائلاً: «قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام» (9: 5).
نحن اليوم أمام نبؤة سامية وعظيمة وفي الأساس نُطلق عليها كتابيًا النبؤة المسيانيّة. تضفي قوة هذه الوحي معنى جديد على إحتفالنا بميلاد “الوَلَدٌ الإلهي” في قرننا الواحد والعشرين فهو هدية الله الآب للبشرية، فهو المولود الّذي ينمو بقوة من العُلا على أرضنا. يتحاور النبي بصلابة بناء على الوضع التاريخي والّذي كان يتمثل في أزمة الحرب، والنسل الداوديّ، وولادة طفل. وأمام هذا النص علينا أن نُناقش اليوم قضية وأصل هذا الوَلَدٌ الإلهي!
- أسباب لاهوتية (أش8: 23ب- 9: 6)
يعلن النبي أشعيا أنّ هناك ثلاث أسباب خلاصية إذ يتمثل السبب الأول في المجد بعد المذلة، والثاني هو النور بعد الظلام، والثالث هو التمتع بملء الفرح بعد الألم (8: 23ب- 9: 2؛ 2). هذه الأسباب الثلاث تعلن لنا ثلاث تفاسير جُدد وهي نهاية الألم، نهاية الحرب، والخبر الجميل هو “ولادة وَلَدٌ”(9: 3- 4)، الذي هو محور نقاشنا. فالبُشرى النبوية بولادة وَلَد وإعطائه السمات الإلهية تساعد في تجسَّد ميلاده المستقبلي (9: 5- 6).
بدأ النبي بتقديم خلاصة مُتوسّعة بنهاية الإصحاح السابق، مُعلنًا بـ”إشراق النور” مباشرة في الآية الأوّلى من النص التاسع فقال: «الشَّعبُ السَّائِرُ في الظُّلمَةِ أَبصَرَ نوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقعَةِ الظَّلام أَشرَقَ علَيهم النُّور». موضحًا بأنّ الظلام، الذي يعني في المفهوم الكتابي اللاحياة أيّ الموت، ليس الكلمة الأخيرة إذ يظهر فجأة “نور عظيم” كاليوم الأوّل للخليقة وبشكل سري وفائق للطبيعة وبدون فهم أصله. فالنور هو مكان البداية وفيه يكتمل كل شيء ويلخّص أصل الخالق (راج أش 60). يٌتابع أشعيا قائلاً: أيّها الخالق البشريين «يَفرَحون أَمامَكَ كالفَرَحِ في الحِصاد كآبتِهاجِ الَّذينَ يَتَقاسَمونَ الغَنيمة» (9: 2). بشكل مُفاجىء يتغير سياق النبي بدون أيّ تمهيد إذ يتشابك فِكره النبوي مُعطيًا دفعة قوية ليجذبنا نحو النور أي سبب فرح البشرية.
يستمر النبي في سرده بأن قبلاً سادَ ثِقّل النير والكسر وحياة الشعب الـمُهينة مُعطيًا تفسيراً بالتناقض مؤكّداً ثلاثية مترادفة باستخدام ضمير الملكية. فالثلاث صفات يرتبطون بـ”يَومِ مِديَن” الذي يشير لإنتصار جدعون (راج قض 7: 16- 23)، بينما أنوار المشاعل تُنير الليل المخيف كالعدو. ونستنتج أنّ الفاعل وراء هذا التغيير للأفضل هو الله. مُعلنًا إنتهاء الحرب التي كان لها رؤية قوية بانتهاء القهر وإنتهاء الحرب والسبب هو ولادة طفل.
- ولادة وَلَدٌ (أش 9: 5- 6)
هذه هي البُشرى السّارة التي يحملها أشعيا لنا اليوم “ولادة” أي حياة مستقبلية مُنتظرة. فيصبح الوقت بطيئا والحياة أكثر لُطفًا. هذا الوَلَد الرائع يحمل معه التغيير لـمصير الشعوب والعالم وكل أسرة. وهنا يعود النبي إلى ما ذكره قبلاً في 7: 14-15. فهو يشير إلى أنّ أصل هذا المولود هو الله،فهو الذي أعطي البذرة لولادته. سيأخذ هذا الطفل بيد البشرية كلها في شموليتها ضامنّا خلاصها. أهمّ ملامح هذا الطفل هو إنه يحمل شارة الأمراء على كتفيه. يتلقى اسمًا رباعيًا ذو ملامح قضائية، فابتعد النبي عن لقب ملك فيقول إنه: «لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه» (9: 5أ). نحن هنا أمام جوهر النص هذا الطفل إذ إسمه «عَجيباً مُشيراً إِلهًا جَبَّاراً» هذه هي السمات الجديدة التي يتسم بها الطفل ذو الأصل الإلهي حاملاً التغيير والبُشرى السارة في هويته وواقعه البشري لعالمنا.
هذا الطفل الحامل النور سيصير المُحارب الباسل كلقب إلهي (راج مز 24: 8). ثم يأتي لقب “أب” (راج هو 22: 21). ثم يتوسع النبي في شرح الاسم بأفق لا حدود لها، مع المركز في السلالة الملكيّة. فالوعد الذي قطعه الرّبّ لداود يتم تحقيقها، ولكن بشكل يفوق المنطق البشري. فهذا التحقيق يتجاوز الرؤية العظيمة ما يمكن قوله عن الملوك الذين خلفوا داود: لا توجد فجوات أو حدود في هذا السلام والعدالة الّذي يتجاوز المكان والزمان. الله نفسه يجعل ولادة هذا الطفل ممكنة بشريًّا إلّا إنه سيصير خارقاً للطبيعة البشرية.
وعلى ضوى أحداث الميلاد وأناجيل الطفولة فقط يمكننا أن نفهم ما تحمله هذه النبؤة من الإشارة إلى المسيح “إبن مريم” فتُكسِب هذه الولادة إمتلاء لمعنى النبؤة. حتى ولادة الطفل الإلهي “يسوع” المولود بشريًّا كانت هذه النبؤة كلمات لم تتحقق بعد إلا إنّه بعد تجسده الفائق الفكر البشري تم إعلان إنتهاء الحرب ولكن بالعدالة والقانون (راج مز 45: 5). إنّ غيرة الرب أو عاطفته المُحبة هي التي حققت هذا الوعد في الإبن الإلهي.
الخلاصة
على ضوء هذه النبؤة يمكن لكلاً منّا أن يعترف بسر التجسد الذي تحقق في المسيح ويتحقق في كل ذبيحة إلهية إذ يصير الإله بداخلنا في الإفخارستيا. تترك كلمات أشعيا »قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ« (أش 9: 5أ) صدى لعالمنا اليوم إذ تدعونا لنصير شهود عيّان لميلاد يسوع مُعلنين بكلمات النبي إنه بالفعل قد تحقّق ميلاد الإبن الإلهي لأجلي ولأجلك ولأجلنا فصار الله أمينًا لوعده. اليوم تستمر ولادة يسوع فينا وفي حياتنا وفي أسرنا من خلال كل طفل يولد فيحمل التغيير لوالديه ويجلب معه الفرح والنور. ستستنير حياتنا وتتغير أحوالنا لأنّ في هذا الطفل الإلهي ستنمو «الرِّئاسة والسَلام لا آنقِضاءَ لَه على عَرًشِ داوُدَ ومَملَكَتِه لِيُقِرَّها ويُوَطِّدَها بِالحَقِّ والبِرّ مِنَ الآنَ وللأَبَد غَيرَةُ رَبِّ القُوَّات تَصنعُ هذا» (9: 6). نعم يمكننا القول اليوم إنّ عيد الميلاد هو الخبر الـمُفرح لكل إنسان، خُلق بيد الله. فكما تمتع إبن الله بالدخول في حياتنا البشرية والمعقّدة لنصير أبناء لله مرافقًا لأطفال أُسرنا أينما وجدوا. أعياد ميلادية مباركة تحمل النور بولادة الإبن الإلهي.