نتطرَّق في هذا المقال إلى “القدِّيس شربل حياة في الرُّوح”، وهو محاولة قراءة في روحانيَّة القدِّيس شربل حبيس محبسة الرَّسولَين بطرس وبولس – عنّايا. يُشبه هذا الطرح مغامرة مركب صغير في إبحاره خضمّ المحيط. إنَّها معالجة شاقّة تلج إلى قدس أقداس قدِّيس “سَكِر باللّه”، كما كتب عنه الأب بولس ضاهر في كتابه الشَّهير والذائع الصِّيت “القدِّيس شربل إنسان سكران باللّه”.
“القدِّيس شربل حياة في الرُّوح”، موضوعٌ صعبُ المنال، فلم يكتب القدِّيس شربل مذكّرات اختباراته الرُّوحيَّة، كما القدِّيسة تريز الطِّفل يسوع، ولم يُمْلِها على أحد كما القدِّيسة رفقا، إنَّما بقي اختباره الرُّوحيّ شخصيًّا بينه وبين الربّ يسوع، فاختبار الحياة في الله يصعب الإفصاح عنه. عاش القدِّيس شربل اختباره الرُّوحيّ في صمت وسكينة، فأعماقه الدَّاخليَّة حصن يلفُّه الصَّمت، وفي موته دفن سرّه في قبره، لذا ليس بإمكاننا إختراق سرّه والولوج إلى حقيقة روحانيّته … لكنَّ القبر لم يحجب حقيقته، فأشعَّ نوره وعمّ المسكونة قاطبة، “كالقبر الفارغ”، الَّذي لم يحجب حقيقة قيامة يسوع من الموت …
عندما نتحدّث عن الرُّوحانيَّة، في حياة أحد “أصفياء الله ومحبِّيه” كالقدِّيس شربل، إنّما نركّز على الأسس والمبادئ المبنيَّة عليها الحياة، بحسب متطلِّبات الرُّوح والانقياد لإلهاماته، وما الرُّوحانيَّة إلَّا سُكنى روح الله القدُّوس في المؤمن، وتفاعل هذا المؤمن مع عمل الرُّوح.
حقَّق القدِّيس شربل الوصول “إلى قِمَمِ الرُّوح”، على ما كتب الأب روفائيل مطر، في زياح القدِّيس شربل (القدِّيس شربل، صلوات المساء والصباح ونصف النّهار والقدَّاس والزيّاح، الكسليك – لبنان، سنة 2008، ص 69)، بعد جهادٍ طويل بحسب متطلِّبات العيش في الرُّوح، أي بحياة من نُسكٍ، وزهدٍ، وتقشُّفٍ، وصومٍ، وصلاةٍ، وسهرٍ، وتطهيرٍ للذَّات من ميولِ الخطيئة الكامنة في النَّفْس البشريَّة، ومن كلّ عائق يعيقه عن تحقيق الخلاص، الَّذي أتمّه يسوع المسيح، وقبوله لهذا الخلاص مميتًا فيه إنسان الخطيئة والضعف، ومستعيدًا حالة الإنسان كما خرج من يد الله، مُرمِّمًا صورته في شخصه، على مثال صورة الابن يسوع (إيقونة الآب)، ومستعيدًا الفردوس المفقود.
يظهر هذا البُعد الفردوسيّ جليًّا في حياة القدِّيس شربل، من خلال سيطرته على قوى الشّرّ الكامنة في الخليقة، وفق ما تفيدنا بعض الشّهادات (التحقيق الإخباريّ في دعوى خادم الله الأب شربل بقاعكفرا الحبيس 28 كانون الثاني 1926- 20 حزيران 1928) ومنها:
- مباركة القدِّيس شربل للمياه الَّتي بواسطتها طُرد الجراد عن أرزاق دير عنَّايا وجواره.
- قوله للأفعى “إذهبي يا مباركي”، فذهبت دون أن تؤذي أحدًا من العاملين في كرم المحبسة.
- تركه الثعلب يأكل من عنب كرم المحبسة شفقةً عليه كونه خليقة الله.
- نزول الصَّاعقة على كنيسة المحبسة من دون أن تسبِّب له أيّ ضررٍ في جسمه …
كلّ هذا دلالة إلى استعادة القدِّيس شربل لذاك الفردوس المفقود، حيث كان الإنسان بعلاقة جيّدة مع الخليقة والمخلوقات، قبل السقوط في الخطيئة والخروج من الفردوس؛ عاد القدِّيس شربل إلى البدء، إلى السلام مع كلّ مخلوقات الله، وبذلك أصبح الظافر والمنتصر على الشرّ الَّذي فيه والمسيطر على العالم.
عاش القدِّيس شربل بعيدًا عنّا في الزمن، في القرن التاسع عشر، ومات قبل أُفُوله سنة 1898. يُعتبر النّمط الَّذي عاشه القدِّيس شربل، إلى حدٍّ ما، بعيدًا بطبيعته عن النّمط الَّذي نعيشه في زماننا الحاضر، وهذا يُشكّل هوّةً بيننا وبينه، إذا نظرنا إليه من ناحيةٍ سلبيّة ضيّقة. لكن ما يجمعنا مع القدِّيس شربل هو أهمّ من مظاهر الحياة الرهبانيَّة، أي المواطنيَّة ذاتها كلبنانيّين، وكنيسة المسيح “الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليَّة”، الحاضرة في العالم منذ ألفي سنة ونيّف، وإن أردنا أن نُضيِّق الحلقة الكنسيَّة، فالبعض منا كمسيحيّين شرقيّين ينتمي كما القدِّيس شربل إلى الكنيسة المارونيَّة، الَّتي بدورها تعود إلى العائلة السّريانيَّة في كنيسة أنطاكيَّة الرّسوليَّة، وما يجمعنا أيضًا معه هو شخص يسوع المسيح ذاته الَّذي هو “أمس واليوم وإلى الأبد” (عب 13/ 8). من هنا إنَّ تمركز الروحانيَّة على سرّ يسوع المسيح هو قاسمٌ مشترك كبير بين القدِّيس شربل وبيننا. يجمع المسيح يسوع في شخصه شتات الزمن ويوحّد في ذاته أنماط الحياة المختلفة والمتباعدة.
إنطلاقًا ممّا تقدّم يبقى المسيح يسوع المركز والمحور والوسط لكلِّ روحانيَّة، فيه تجتمع الرُّوحانيَّات المنقادة لإلهامات الروح القدس في الإنسان. هذا ما اكتشفه القدِّيس شربل، وبنى عليه كلّ مشروع حياته، أي “القداسة” – الوصول إلى ملء قامة المسيح، والثَّبات فيه كما الأغصان بالكرمة (يو 15/ 1-8)
هجر يوسف بن أنطون زعرور (مخلوف)، بلدته بقاعكفرا الوادعة على كتف وادي قنُّوبين العابق بصلوات النسَّاك والرهبان والأساقفة والبطاركة، تاركًا كلّ شيء ليتبع المسيح، وتطلّع إلى وجه الربّ من خلال انخراطه في الرَّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة، حيثُ دخل في مغامرة القدِّيسين، مختارًا الرّبّ يسوع كمطلوب أوحد، لا يثنيه عنه أيّ شيء.
مات القدِّيس شربلُ عن ذاته وعن الإنسانيّة المرتبطة بالعالم، وسعى إلى الغوص في سرّ الله، والانقياد لعمل الروح القدس، مُشرِّعًا قلبه وعقله (ذهنه) وذاته بجملتها لإلهاماته القدُّوسة ومواهبه المتنوِّعة. ترك القدِّيس شربل بلدته وأهله وأترابه كي لا يبقى أسير محدوديَّته، إنّما أراد البحث عن المطلق، وعاش حياته كلّها في شوقٍ دائمٍ نحو الكمال. إنّه على مثال إبراهيم خليل الله، الَّذي ترك بيته وأرضه وعشيرته وأتى إلى الأرض التي أراه إياها الرّبّ (تك 12/ 1)، أي إلى الدير، مُكرّسًا لله في السيرة الرهبانيَّة وأعمالها المتعبة. هذا التخلِّي رافقه طوال حياته، وبلغ ذروته بصعوده إلى المحبسة حوالى ربيع وصيف سنة 1875، حيث صلب جسده عن العالم، وكانت سعادة شربل في الترفّع عن امتلاك حطام الدنيا، ليمتلكه الربّ وحده. سعى وجاهد للتحرّر إلى أبعد الحدود، إلى أن تَحَرَّرَ من عبوديَّة الفساد تاركًا الربّ يغمره بنور مجده، لابسًا صورة عدم الفساد على مثال آدم السماويّ.
عاش القدِّيس شربل حياته الرهبانيَّة وفق روحانيَّة تراث الرهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة، العائدة في أصولها إلى جذرية الإنجيل، وإلى الأُسس الَّتي وضعها المؤسِّسون، وإلى اختبار الآباء الرهبان والنسَّاك، إلى روحانيَّة القدِّيس مارون وتلاميذه، ومَنْ جاء بعدهم عبر تعاقب الأجيال، وأصبحت حياته حالة صلاة دائمة، صلاة قوامها صمت واندهاش باللّه، وأخذًا به وانشدادًا إليه. وقد ولَّد هذا الصمت بعد ممات القدِّيس شربل الكثير من الكلام فأصبح عابرًا للقارَّات واسمٌ يردِّده العالم …
إِغْتَنَى القدِّيس شربل باللّه وأَغنى حقل التراث الرهبانيّ في الكنيسة المارونيَّة، ممَّا دفع بأحد العارفين في التراث النسكيّ الشرقيّ إلى القول إنّه “مِنْ أحد أواخر آباء الصحراء”. من هنا تتجمَّع في القدِّيس شربل كلّ الخبرات الروحيَّة الَّتي عاشها أولئك الآباء الروحيُّون القدّيسون.
وبعد أن أتمَّ القدِّيس شربل شوطه وجاهد الجهاد الحسن، عَبَرَ إلى عالم الله، بعد أن أصابه داء الفالج، وهو يحتفل بقداسه الأخير في 16 كانون الأوَّل 1898، وهو يردّد: “يا أبَا الحق هوذا ابنك ذبيحة ترضيك …”. لم يكن هوان الجسد وضعفه وداء الفالج الَّذي أسقطه أرضًا، إنمَّا كانت لحظة “الاتّحاد بالذّات الإلهيَّة”، ومشاهدة الحمل الإلهيّ، وذروة اللّقاء بالمسيح يسوع، ذاك الَّذي سعى وجاهد وصلَّى وصام وسجد من أجل أن يكون معه على الدوام. مات القدِّيس شربل ليلة عيد الميلاد في 24 كانون الأوَّل سنة 1898 ليولد الولادة الجديدة الحقّة في السّماء، وينتقل من غربة هذه الحياة إلى حياةٍ أزليّةٍ أبديّة لا تنتهي، يشترك فيها في سعادة القدِّيسين.
أشعَّ نور القدِّيس شربل في أرضنا من خلال جثمانه الطاهر، وظهرت قدرة الله فيه من خلال عجائبه الَّتي تدفّقت على كلّ طالب شفاء أو توبة، وذاع صيته في الأقطار الأربعة، وجذب إليه الناس من كلّ حدبٍ وصوب، من أيّ عِرقٍ أو لونٍ أو إلى أيّ دين انتمَوا. إنفجر ينبوع القدِّيس شربل في العالم فأروى الناس غفرانًا ورحمةً ومحبَّةً وسلامًا.