سبق وأعلن الرب يسوع أنّ “الصليب” هو طريق الملكوت ، ويجب على ابن الإنسان أن يتألم ويموت ويقوم من بين الأموات ليخلصنا من خطايانا ويدعونا لنملك معه في الملكوت السماويّ .
هكذا يجب أن تتألم كنيسته وتحمل صليبه وتنتظر مجيئهُ الثاني .
ربما نتسأل : كيف يمكننا أن نحمل الصليب ونقبل الآلام بفرح من أجل الملكوت ؟
لقد جاءت الإجابة من السيد المسيح نفْسَهُ عندما قال : ” صَلُّوا ولا تَملّوا، اسألوا تُعطوا، أُطلبوا تَجِدوا ، إقراعوا يُفتح لكم ، لأنَّ كُلّ من يسأل ينال ، ومن يَطلُبُ يَجِد ، ومن يَقرَع يُفتَحَ لَهُ “( لوقا ١١: ٩-١٠).
في إنجيل اليوم ، قدم لنا السيد المسيح مثل الأرملة والقاضي الظالم ليحثنا على الصلاة الدائمة بثقةٍ وإيمان وبدون ملل ،
قال : ” كان في إحدى المدن قاضٍ لا يخافُ الله، ولا يهاب الناس .
وكان في تلك المدينة أرملة تأتيه فتقول له : انصفني من خصمي .
فأبى عليها ذلك مدةً طويلة ، ثمَّ قال في نفسه : أنا لا أخاف الله، ولا أهاب الناس . ولكن هذه الأرملة تزعجني ، فأنصفها لئلا تظلَّ تأتي وتصدع رأسي .
وقال الرب: اسمعوا ما قال القاضي الظالم . أفما ينصف الله مختاريه الذين يُنادونه نهاراً وليلاً وهو يَتَمٓهّلُ في أمرهم ؟! أقول لكم ، إنه يُسرعُ إلى إنصافهم ،
ولكن ، متى جاء ابْنُ الإنسان ، أفَتُراه يجدُ الإيمان على الأرض ؟ ” ( لوقا ١٨ : ٨) .
يشرح لنا القديس اوغسطينوس هذا المثل قائلاً : ” هكذا يحثنا السيد المسيح على الصلاة الدائمة بلا ملل ، النابعة عن الإيمان بالله مستجيب الصلوات والطلبات ، لذا يعلن أنه في أواخر الدهور إذ يجحد الكثيرون الإيمان وتبرد المحبة تتوقف أيضا الصلاة ، فيفقد الإنسان صلته وصداقته مع الله وحتى مع القريب . هذا هو ما عناه بقوله : ” ألعله يجد الإيمان على الأرض ؟! “، معلنًا حزنه على البشرية المحرومة من الصداقة الإلهية .
هذا الفصل من الإنجيل المقدس يعلّمنا الإلتزام بالصلاة والإيمان ، وبعدم اتكالنا على ذواتنا بل على الرب . أي تشجيع على الصلاة أكثر من مثل القاضي الظالم المُقدم لنا ؟
فإن القاضي الظالم وهو لا يخاف الله ولا يهاب الناس ، إلا أنه يصغي إلي الأرملة التي تسأله ، مغلوباً بلجاجتها وليس باللطف . إن كان قد سمع طلبتها ذاك الذي يكره أن يسأله أحد، فكم يسمع لنا نحن ذاك الذي يحثنا أن نسأله ؟!
يُعلمنا الرب أنه ” ينبغي أن نُصلي كل حين وبلا ملل ” ويُضيفُ قائلاً : ” ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض ؟! ” . إن سقط الإيمان بطلت الصلاة ، لأنه من يصلي لمن لا يؤمن به ؟ لذلك عندما حثَّ الرسول بولس على الصلاة ، قال : ” لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص ” (رومة ١٠: ١٣). ولكي يظهر أن الإيمان هو ينبوع الصلاة أكمل قائلاً : ” فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به ؟! ” (رومة ١٠: ١٤).
كي نصلي يلزمنا أن نؤمن ولكي لا يضعف ذلك الإيمان الذي به نصلي فلنصلِ . الإيمان يفيض الصلاة ، وفيض الصلاة يقوي الإيمان . أقول ، إن الإيمان يفيض الصلاة ، وفيض الصلاة يهب قوة الإيمان عينه . فلكي لا يضعف الإيمان أثناء التجربة قال الرب : ” اسهروا (قوموا، انهضوا) وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة ” …
ماذا يعني : ” تدخلوا في تجربة ” ؟ أي أن لا نترك الإيمان . فالتجربة تشتد برحيل الإيمان ، وتنتهي بنمو الإيمان … ولكي تعرفوا ، أيها الأحباء ، أكثر وضوحاً ماذا كان الرب يريد عندما قال : “اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة ” ؟ يقصد ألا يضعف الإيمان ويهلك، يقول في نفس الموضع في الإنجيل : ” هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك ” . ذاك الذي يحمي إيماننا يصلي ، أفلا يصلي ذاك الذي يتعرض للخطر ؟
في كلمات الرب يسوع : ” ولكن ، متى جاء ابن الإنسان ، أفتراه يجدُ الإيمان على الأرض ؟!، هنا يتحدث يسوع عن الإيمان الكامل، إذ يكون نادراً على الأرض بسبب فتور المحبّة .
تُبنى الحياة الروحيّة على الصلاة ، وتنطلق منها، كما توصل المؤمن إلى عيش حياة روحيّة مُفعمة بالطهارة ونقاوة القلب واللقاء المباشر مع الله .
لا يمكننا أن ننسى بأنّ يسوع المسيح ، كان يصلّي ، لأنّ الصلاة كانت محور حياته . كان يصلّي لأبيه في الإصغاء والعزلة . كان يحيي الليل كلّه في الصلاة . واتّسمت صلاته بطابع الحمد والشكر والثقة ، وتسليم الذات . ” ذهب إلى الجبل ليصلّي ، فأحيا الليل كلّه في الصلاة لله ” (لوقا ١٢ : ٦) . كان السيد المسيح يعمل إرادة أبيه ” إنّني أعمل أعمال مَن أرسلني ” (يوحنا ٩: ٤) . كانت صلاة يسوع، مشاهدة للآب وجهاً لوجه. من هنا، دعا يسوع إلى ضرورة ممارسة الصلاة ، بإيمانٍ وتواضعٍ ، وبثقةٍ وبساطة، وربطها بالعمل ، وبتتميم إرادة أبيه وتعاليمه ” ليس مَن يقول لي : ” يا ربّ، يا ربّ ” يدخل ملكوت السموات. بل مَن يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات” وأكّد يسوع على أهميّة الصلاة المشتركة ، وعمق فعاليتها . ” إنّ الصلاة علاقة محبّة بين الإنسان والله . إنّها حوار محبّة . إنّها تلبية محبّة لنداء الله المحبّ … وايضاً هي أن نكون مع الله “.
يحتاج المؤمن في حياته اليوميّة والمسيحيّة خاصةً ، إلى اللقاء بالربّ يسوع ، من خلال الصلاة . فهي التواصل المستمرّ، مع الخالق والدخول في حياة السيّد المسيح ، من خلال الحوار المباشر معه ، المُعبَّر عنها بالتأمّل والتسابيح والصمت والتراتيل ، والمناجاة والعبارات، والألحان والسجود، والطلب والشكر والتمجيد . فالصلاة تعبير عن الإيمان والمحبّة والرجاء ، أي أن نقبل عطيّة الله ونعمهُ .
تساعد الصلاة المؤمن، على التعبير عن حياته ، برغباتها وصعوباتها وأفراحها ، كما على شكره لحضور الله في داخله .” ليست الصلاة في الأساس تمريناً ، بل هي روح ، وديناميّة حياة أساسيّة ، ومناخ معيّن للنفس” .” ففي التأمّل، وفي كلّ صلاة أخرى ، نحن مدعوّون إلى أن ندع الله يحبّنا، وإلى أن نختبر محبّته ونتذوّقها، كما أنّنا مدعوّون إلى أن نعبّر له عن محبّتنا “.
الحياة الروحيّة هي إنسجام بين الصلاة والحياة اليوميّة . فهي ترفض الازدواجيّة بين ما يصلّيه الإنسان وما يعيشه .
هل هذه الازدواجيّة متأتيّة بسبب عدم الوضوح والضعف البشريّ ؟ أم بسبب قلّة الإيمان والشكّ والقناعة ؟
” أيّها الربّ يسوع المسيح ، ارحمني أنا الخاطئ ” . تدفع الحياة الروحيّة المؤمن، إلى أن تُصبح حياته صلاة عميقة وثابتة ، وصلاته حياة مقدّسة وطاهرة . ” نحن نحتاج وقتًا لنكون وحدنا مع الله … إنّ الصلاة يجب أن تكون نوعيّة حياة ، تتيح لنا أن نجد الله في كلّ شيء وفِي كلّ زمانِ ومكان “.
تجعلنا الحياة الروحيّة ، على مثال الربّ يسوع ، من خلال الروح القدس ، وبواسطة الصلاة ، كما في شهادة الحياة ، أبناء لله بالتبنيّ فننادي بثقة كاملة :” أبّا “، يا أبتِ ” والدليل على كونكم أبناء أنّ الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي “أبّا”، “يا أبتِ” (غلاطية ٤: ٤-٦).
إنّ الروح، وهو مرسل كالآب ، بالصلاة يثبّت وضعنا، في صميم كيانه ، ويثبّت حياتتنا الجديدة بالمسيح يسوع .