مقدّمة
القراء الأفاضل، شخصية مريم البتول والأمّ، من الشخصيات الكتابية التي نطلق عليها على عتبة العهدين. لذا بمناسبة احتفال كنيستنا الكاثوليكية بالعيد المريمي “انتقال مريم بالنفس والجسد” ننشر هذا المقال، هادفين لتفسير نصيين متوازيين يقدما لنا معنى جديد كتابي لمريم أمّ الله وأمنّا. استلهمنا هذا المقال من فكر أباء الكنيسة الّذي يقدم مريم كأيقونة لحواء الجديدة. بحسب رواية الخلق بسفر التكوين، نعلم أن المرأة الأوّلى وهي حواء الّتي تعني أم كل حيّ (راج تك 3: 20)، خٌلقت بيد الرّبّ، كمعين وسند لرجلها آدم (راج تك 2: 18). منطلقين من هذه الفكرة، سنتوقف أمام وضعين متناقضتين لامرأتين، الأوّلى بالعهد الأوّل، والّتي بسبب إغراء الحيّة خرجت من جنَّة عدن (تك 3: 1- 15). أما المرأة الثّانية، وهي مريم المنتقلة إلى السماء. الثانية صارت على العكس الأوّلى بقولها وبحياتها مما جعلها سبب لاستعادة ليس فقط العدن بل الحياة الأبدية. لذا من خلال نصيّ سفر التكوين والإنجيل بحسب لوقا سنقرأ معًا دور كِلّا المرأتين لنتعرف على مخطط الله وكيف أن عصيان الأوّلى تحول إلى نعمة في طاعة الثّانية.. يساعدنا الكاتبين، في كِلّا النصين، بسماع صوت المرأتين، وتتبع عمل كلاً منهن في الحياة العملية الّتي نتج عن الأوّلى الخروج من العدن بينما الثانية دخلت بالنفس والجسد وحملت كل البشرية بأجيالها المستقبلية بأمومتها. هذا هو سرّ الانتقال المريمي الذّي نهدف إليه في مقالنا هذا، مريم المنتقلة إلى السماء هي أم لكل الكنيسة والبشرية.
- جهل حواء (تك 3: 1- 15)
حواء، لم تكن خُلقت بعد حينما سرد كاتب سفر التكوين حوار الله المشروط مع أدم: «أَمَرَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ قائلاً: “مِن جَميعِ أشْجارِ الجَنَّةِ تأكُل، وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا”» (تك 2: 16- 17). يأتي الأمر للإنسان الأوّل بصوت الله، بعدم الأكل من شجرة محددة بالجنّة. ونجد رواية خلق حواء في الإصحاح التالي لهذا الحوار. إذن نستنتج أن حواء لم تكن بعد طرف في هذا الحوار المباشر، الّذي كان مع رجلها أدم فقط. إلّا أن! حيلة الشيطان دخلت العالم من خلال الحيّة مُقتربًا من الطرف الّذي لم يكن موجود في هذا الاتفاق بين الله وأدم. ومن خلال الخدعة الماكرة الّتي نعلمها من خلال الحوار، الّذي دار بين حواء والحيّة، المليء بالكذب عن حقيقة الله (راج تك 3: 1- 6) يتضح أن حواء استخدمت حواسها لاتخاذ قرارها بالعصيان، وعن جهل للشرط الـمنعقد بين الله والإنسان. في المرحلة الأوّلى يتبين ظاهريًا نجاح خطة الشرير إذ تم خروج أوّل زوجين من جنّة عدن الّتي أعدّها الله كمكان لخطته مع الإنسان.
وفي مرحلة أخرى يشير كاتب سفر التكوين مستخدمًا بعض الأفعال الّتي تشير لعصيان الأمر الإلهي من قبل أوّل زوجين. بعد أن تحاورت حواء مع الحيّة، ورؤيتها اختلفت، إذ أغرتها ثمار تلك الشجرة بالتحديد. مما جعلها تأكل منها وتعطي لرجلها. وهنا الزلّة الأوّلى تعني عصيان الأمر الإلهي بعدم طاعة أوّل زوجين.
- التدَّخل الإلهي (تك 3: 8- 15)
من خلال مبادرة الله بالحوار مع أوّل زوجين نتج اعترافهما باللاطاعة أيّ عصيان الشرط الـمُتفق عليه بين الإنسان والرّبّ. نجد شعورهم بالعُري هو نتيجة زلّة الإنسان وطاعته للحيّة رمز عدو الله. وها هي المرة الوحيدة الّتي نسمع فيها صوت حواء في حوار مباشر مع الرّبّ: «”ماذا فَعَلتِ؟” فقالَتِ المَرأَة: “الحَيَّةُ أَغوَتْني فأَكَلتُ”. فقالَ الرَّبُّ الإِلهُ لِلحيَّة: “لأَنَّكِ صَنَعتِ هذا فأَنتِ مَلْعونةٌ مِن بَينِ جَميعِ البَهائِم وجَميعِ وحُوشِ الحَقْل. على بَطنِكِ تَسلُكين وتُرابًا تَأكُلين طَوالَ أيام حَياتِكِ. وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه”» (تك 3: 13- 15). إعتراف حواء بما اختبرته وهو خارج عن العلاقة بالله، بدون تمييز، تسَّبب في نوالهم العقاب الإلهي وهو خروجهم من جنّة العدن الإلهي كزوجين وبذرة للبشرية المستقبلية. وبذلك الفعل فقدت حواء معنى اسمها، فهي بالعصيان لم تصير بعد أم كل حيّ!
لذا كان على التدبير الإلهي أن يمنح الخلاص لكل البشرية، بالرغم من خطأ الإنسان، حتى لا يستمر مكر عدو الخير بخداعه للإنسان ويستعيد الانسجام وعلاقة الحب مع الإنسان كما كان بحسب مشروعه الخلاصي. لذا استمر الله في مبادراته الخلاصية بنداءات مختلفة لبطاركة، وملوك، وأنبياء، … إلخ بالعهد الأوّل. وعندما حان موعد تجسد ابنه يسوع، مهدّ له باختياره، مريم، الّتي ستصير أمّه وأمّ كل البشرية المستقبلية. وها نحن بعد إنتهاء العهد الأوّل وعلى أعتاب العهد الثاني يقدم الإنجيليين متى (1-2) ولوقا (1-2) روايات الطفولة منطلقين من أيقونة مريم البتول. لذا إخترنا نص لوقا (1: 39- 56) الذي يشمل النداء الإلهي لمريم، كحواء الجديدة بنشيدها، فصارت أمّ الله باختياره وحملتنا للعودة لمخطط الآب الأوّليّ والدخول في عدن الملكوت الإلهي بعد أن قرر الرّبّ فرادتها بانتقالها بالنفس والجسد. إذن ما هو الانتقال المريمي اليوم؟
- اختيار الله الجديد (لو 1: 39-56)
سلكت مريم، منذ نداء الله لها مسيرة خاصة بشكل مختلفًا تمامًا عن مسيرة حواء. مريم المرأة اليهودية الّتي نمت في بيئة تحفظ الشريعة اليهودية وتهتم بكل ما هو للرّبّ بحسب التقاليد العبرية دينيًاً واجتماعيًا. هذا يتضح من خلال الآيات الواردة بحسب لوقا 1: 39- 45 وكيف طَّرق الله على حياتها بنداء خاص لتُعطي للبشرية وجه جديد للدخول في مخططه الإلهي. بعد أن اُختيرت من قِبل الرّبّ بدأت بحياتها العملية تعطي إجابة عن رسالتها وهذا نتبيّنه من زيارتها لأليصابات، فهي بادرت بالتحية العبرية “شالوم”. وسريعًا ما يكشف لوقا الكثير من ملامح المرأة التي قلبت الموازين، مريم، من خلال كلمات نسيبتُها الّتي هتفت بأعلى صوتها: «مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي؟ فما إِن وَقَعَ صَوتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ حتَّى ارتَكَضَ الجَنينُ ابتِهاجاً في بَطْني فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ» (42- 45). من خلال هذه الكلمات كشف الوحي الإلهي عن سمات مريميّة هيأتها للإحتفال الّذي تتكرم فيه من كل الأجيال السابقة والحالية والمستقبلية.
مريم هي «أمّ الرّبّ» (لو 1: 43)، هذا هو سر مريم التي حملت ابن الله الـ كيريوس Kyrios في أحشائها وبدوره عند انتقالها حملها ابنها إلى ملكوته، الّذي افتتحه بتجسده. هما الملكوت الّذي افتتحه يسوع يحمل رمزاً لجنّة العدن الإلهية الّتي أعدها الآب لنا منذ إنساء العالم.. من خلال هذه الكلمات قدّم لوقا صورة انعكاسية لدور حواء، الّتي خرجت من العدن بسبب طاعتها للحيّة. إلّا إنّه من الآن تأخذنا مريم في مسيرة جديدة، تطابق المخطط الإلهي. مريم أم الله وأمنا تحمل في الابن الإلهي كل البشر. تطويب أليصابات قائلة: «فَطوبى لِمَن آمَنَت» (لو 1: 44) مريم هي الـمُطوبة والمختارة بين النساء، كلمات أليصابات الّتي من أصل كهنوتي، رسم مستقبل مريم فهي مُطوبة منذ بدء قبولها لمخطط الله في حياتها الشخصية. وكم بالأحرى بعد إتمام ابنها رسالته العظيمة، فصارت أم الحي الّتي تستحق كل حياة طوباويّة.
- إعتراف مريم باصغريتها (لو 1: 46- 53)
في النشيد المريمي الّذي يقتصر فقط على الإنجيل الثالث، نسمع مريم تقرأ حياتها على ضوء عمل الله فيها قائلة: «أَنَّه [القدوس] نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة» (لو 1: 48). تعترف مريم أنّ اختيار الله لها أعظم بكثير من توقعاتها. وهي بذلك تُنسب كل خير وصلاح تمَّ في حياتها إلى الله بحسب رحمته: «لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة» (لو 1: 49). وها نحن أبناء لمريم ببنوتها ليسوع، مدعوين أن نتعلم من مريم أمّنا العرفان بالجميل وعدم استحقاقنا لغزير النِعم الإلهية. فهي بتجاوبها على النداء الإلهي تجاوزت تحديات فتيات عصرها بل تحملت الكثير دون أن تتفوه ببنت شفة. رسالة الطوباوية مريم المنتقلة إلى السماء أن نتجاوب مع نداءات الرّبّ عبر حياتنا البشرية. وبنهاية حياتنا سينعم علنيا الرّب بسخائه كما أنعم على أمّ يسوع بالتمتع بعدن الأبدية الّتي أعدها في سر يسوع الفصحي.
الخلّاصة
القُراء الأفاضل، إخترنا عنوانًا كتابيًا جديداً لنُسلط الضوء الكتابي على شخصية “مريم سيدة الانتقال” من خلال هذا المقال. قد يتيح لكم، مقالنا هذا، قراءة جديدة لعقيدة الانتقال المريميّة. وقد قرأناها من خلال نصين، الأوّل على ضوء نص سفر التكوين (3: 1- 15) حينما خرج أوّل زوجين من العدن والثاني على ضوء الإنجيل الثالث (لو 1: 39- 53). مما يساعدنا على التعرف عن استعادة جنة عدن بحسب خطة الرّبّ من خلال مريم الّتي ساهمت بقبولها النداء الإلهي أن تصير أم يسوع، بتهيئة العدن الأبدي. واكتشفنا أنّ تطويب مريم هو تطويب امرأة عاشت بالكامل للرّبّ وعرفت كيف تُجسد السعادة لإتمام المخطط الإلهي لكل البشرية. صورة الحياة الّتي رغب الله فيها منذ الخلق أكملها في مريم، حيث تم انتقال مريم بنفسها وجسدها، لفظ انتقال يشير للفظ الأخذ (من اللغة اللاتينية sumo– أخذ) فقد أخذ الله مريم بانتقالها ليكمل ما بدأه الله في حواء الأوّلى في مريم. حقق الرّبّ، ملء الحياة للبشرية في مريم، الّذي أراد منحه لأوّل زوجين وللبشرية ككل. في مريم يمكننا أن نستعيد دعوتنا للدخول ليس فقط إلى جنّة عدن بل إلى الملكوت الّذي حمله يسوع ابنها للبشرية. بناء على صورة حواء الأوّلى وعصيانها الّذي تسبب في الخروج من جنّة عدن، رأينا أن حضور مريم الجوهري قلب الموازين. نعم فقد فتح الله الآب، من خلال استجابتها للنداء الإلهي، باب جنّة عدن بملء بعد تجسد يسوع الابن منها. كل عيد انتقال لمريم وأنتم في مسيرة للعبور نحو العدن الأبدي.