18. مَخَاضُ الخَلِيقَة
تاريخ الخليقة وسرُّ الحَمْلِ والمخاض
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
احتفلنا قبل أيام بعيد انتقال سيّدتنا مريم العذراء أمّ يسوع إلى السّماء. هذا السّرّ يلقي الضوء على كمال النّعمة التي صنعَتْ مصير مريم، والذي ينير أيضًا مصيرنا. ومصيرنا هو السّماء. مع هذه الصّورة لانتقال سيّدتنا مريم العذراء إلى السّماء، أودّ أن أختتم سلسلة التّعليم في الشّيخوخة. في الغرب، نتأمّل في مريم مرتفعة إلى العلى ومُحاطة بنور مجيد، وفي الشّرق، تُصَوَّرُ مستلقية، راقدة، يحيط بها الرّسل وهم يصلّون، بينما الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات يحملها بين يديه مثل طفلة.
تأمّلَ اللّاهوت دائمًا في علاقة هذا ”الانتقال“ الفريد مع الموت، التي لم تحدِّدْها العقيدة. أفكّر أنّه سيكون من المهمّ توضيح علاقة هذا السّرّ مع قيامة الابن من بين الأموات، والتي تفتح الطريق أمام ولادة الحياة لنا جميعًا. العمل الإلهيّ الذي جمع مريم مع المسيح القائم من بين الأموات، ليس فقط تجاوزًا للفساد الجسديّ الطّبيعيّ للموت البشري، ليس هذا فقط، بل هو استباق للانتقال الجسديّ إلى حياة الله. في الواقع، تمّ استباق مصير القيامة، التي هي قيامتنا: لأنّه بحسب الإيمان المسيحيّ، القائم من بين الأموات هو بِكْرٌ لكثير من الإخوة والأخوات. الرّبّ القائم من بين الأموات هو الذي ذهب أوّلًا، وهو الذي قام من بين الأموات قبل الجميع، وبعدها سنذهب نحن: هذا هو مصيرنا: القيامة.
يمكننا أن نقول – وفقًا لكلمة يسوع إلى نيقوديمُس- إنّها تشبه بعض الشيء ولادة ثانية (راجع يوحنّا 3، 3-8). إن كانت الولادة الأولى على الأرض، فالولادة الثّانية هي ولادة في السّماء. وليس صدفة أنّ الرّسول بولس، في النّصّ الذي قُرِئ في البداية، تكلّم عن مخاض الولادة (راجع رومة 8، 22). كما نكون نحن، حالما نخرج من رحم أمّنا، كذلك الإنسان نفسه، بعد الموت، يولد في السماء. في فضاء الله، ونكون نحن أنفسُنا أيضًا الذين سرنا على هذه الأرض. على مثال ما حدث ليسوع: القائم من بين الأموات هو دائمًا يسوع: فهو لم يَفقد إنسانيّته، ولا ما عاشه، ولا حتى شخصيّته الجسديّة، لا، لأنّه من دونها لن يكون هو، لن يكون يسوع، أي بإنسانيّته وبحياته التي عاشها.
خبرة التّلاميذ تُبيِّن لنا ذلك. ظهر لهم يسوع مدة أربعين يومًا بعد قيامته من بين الأموات. وأظهر الرّبّ يسوع لهم جراحه التي كانت بمثابة ختمٍ لذبيحته. لكنّها ليست بعد ذلك جراح المذلة والآلام، بل هي الدليل الذي لا يُمحى على حبّه الأمين حتّى النّهاية. يسوع القائم من بين الأموات بجسده يعيش في حياة الله الثّالوث! وفيها لا يفقد ذاكرته، ولا يتخلّى عن تاريخه، ولا تَبطُل العلاقات التي عاشها على الأرض. وقد وَعَدَ أصدقاءه قائلًا: “وإِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقامًا، أَرجِعُ فآخُذُكم إِلَيَّ، لِتَكونوا أَنتُم أَيضًا حَيثُ أَنا أَكون” (يوحنّا 14، 3). لقد ذهب ليعدّ مكانًا لنا جميعًا، ومتّى أعدّه سيرجع. لن يرجع فقط في النّهاية من أجل الجميع، بل سيرجع كلّ مرّة من أجل كلّ واحد منّا. سيرجع ليبحث عنّا ويأخذنا إليه. بهذا المعنى يكون الموت هو الخطوة نحو اللقاء مع يسوع الذي ينتظرني لكي يأخذني إليه.
يعيش القائم من بين الأموات في عالم الله، حيث يوجد مكان للجميع، وحيث تتكوَّن أرض جديدة وتُبنى المدينة السماويّة، موطن الإنسان النّهائي. لا يمكننا أن نتخيّل هذا التجلّي لجسدنا الفاني، لكنّنا على يقين أنّه سيُبقي وجوهنا معروفة، وسيسمح لنا بأن نبقى بشرًا في سماء الله. وسيسمح لنا بأن نشارك، بمشاعرَ سامية، في فَيضِ عمل الله الخالق السّعيد واللامتناهي، الذي سنعيش فيه بصورة شخصيّة كلّ المغامرات اللامتناهية.
عندما تكلّم يسوع على ملكوت الله، وصفه بأنّه وليمة عُرس، أو حفلة مع الأصدقاء، أو عمل يكمِّل البيت: إنّه المفاجئة التي تجعل الحَصاد أوفَرَ من البِذار. إن أخذنا كلمات الإنجيل عن ملكوت السّماوات على محمل الجدّ، ازدَدْنا كفاءة لنستمتع بحبّ الله الذي يعمل ويخلق، ودخلنا في انسجام مع مصير لا مثيل له، للحياة التي نزرعها. أعزائي رفقائي، وأنا أتكلّم مع ”كبار السّنّ“ ومع ”كبيرات السّنّ“، في شيخوختنا، كلّ ”التّفاصيل“ التي تتكوّن منها الحياة – ملاطفة، ابتسامة، حركة، إبداء التقدير لعمل ما، مفاجأة غير متوقّعة، فرح ضيافة، وعلاقة مُخلصة – كلّ هذا يزداد أثره حِدَّةً فينا. وأساسيّات الحياة، التي تعزّ علينا مع اقتراب رحيلنا، تظهر لنا واضحة تمامًا. حكمة الشّيخوخة هذه، هي مكان الحَمْلِ والمخاض، الذي ينير حياة الأطفال، والشّباب، والبالغين والجماعة بأكملها. نحن ”كبار السّنّ“ علينا أن نكون هذا من أجل الآخرين: أن نكون النّور من أجل الآخرين. تبدو حياتنا كلّها مثل بذرة يجب دفنها تحت التّراب، حتّى تولد الزهرة ثمّ الثمرة. وسوف تولد مع بقيّة العالم. ليس من دون مخاض، ولا من دون ألم، لكن ستولد (راجع يوحنّا 16، 21-23). وستكون حياة الجسَد القائم من بين الأموات حيّة مائة وألف مرة أكثر ممّا عشناه على هذه الأرض (راجع مرقس 10، 28-31).
ليس صدفة أنّ الرّبّ يسوع القائم من بين الأموات، بينما كان ينتظر الرّسل على شاطئ البحيرة، كان يشوي السّمك (راجع يوحنّا 21، 9) ثمّ قدّمه لهم. حركة المحبّة هذه المهتمة بتلاميذه تجعلنا نفهم ما الذي ينتظرنا بينما نعبر إلى الشّاطئ الآخر. نعم، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، وخاصّة أنتم كبار السّنّ، إنّ أفضل ما في الحياة لم نشاهده بعد. قد يقول قائلٌ: ”نحن كبارٌ في السّنّ، ماذا علينا أن نشاهد بعد؟“. ستشاهدون الأفضل، لأنّ أفضل ما في الحياة لم تشاهدونه بعد. لنتمنَّ ملئ الحياة هذه التي تنتظرنا كلّنا، عندما يدعونا الرّبّ يسوع إليه. مريم أمّ الرّبّ يسوع وأمّنا، التي سبقتنا إلى الفردوس، لتُعِدْ لنا دهشة الانتظار، لأنّه ليس انتظارًا مُخَدِّرًا، وليس انتظارًا مُمِلًّا، لا، إنّه انتظارٌ مع دهشة. قد يقول قائلٌ: ”متى سيأتي ربّيّ يسوع؟ ومتى سأستطيع أن أذهب إلى هناك؟“ هناك بعض الخوف، لأنّي لا أعرف ماذا يعني هذا العبور، وعبور هذا الباب يخيف قليلًا، لكن يوجد دائمًا يد الرّبّ يسوع التي تدفعك إلى الأمام، وما إن عبرت الباب ستجد الاحتفال. لنتنبّه، أعزّائي رفقائي، أنتم ”كبار السّنّ“ وأنتنّ ”كبيرات السّنّ“، لنتنبّه، يسوع ينتظرنا، أمامنا فقط معبر واحدٌ، ثمّ الاحتفال.
*******
قِراءَةٌ مِن رِسالَةِ القِدّيسِ بولس الرَّسول إلى أهلِ رُومَة (8، 22-24)
فإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ الخَليقَةَ جَمْعاءَ تَئِنُّ إِلى اليَومِ مِن آلامِ المَخاض، ولَيسَت وَحْدَها، بل نَحنُ الَّذينَ لَنا باكورةُ الرُّوحِ نَئِنُّ في الباطِن مُنتَظِرينَ التَّبَنِّي، أَيِ افتِداءَ أَجسادِنا، لأَنَّنا في الرَّجاءِ نِلْنا الخَلاص.
كلامُ الرَّبّ
*******
Speaker:
اختَتَمَ قَداسَةُ البابا اليَومَ سِلسِلَةَ التّعليمِ في موضوعِ الشَّيخوخة، وتكلَّمَ علَى خاتمةِ حياةِ سيّدَتِنا مريمَ العذراء. وقال: صَوّرَ الغربُ انتقالَ مريمَ العذراءِ إلى السَّماء، مُرتَفِعَةً إلى العُلَى ومُحاطةً بنورٍ مجيد. وصَوَّرَها الشَّرقُ مُستَلقِيَة، راقِدَة، يُحيطُ بها الرُّسلُ وهُم يُصَلُّون، بينما يسوعُ يَحمِلُها بَينَ يديهِ مِثْلَ طفلة. تأمَّلَ اللّاهوتُ دائمًا في عَلاقِةِ هذا ”الانتقالِ“ الفريدِ معَ الموت. والعقيدةُ لم تُحدِّدْهُ حتَّى اليوم. ومِن المُهِمِّ توضيحُ عَلاقةِ هذا السِّرِّ بقيامةِ الابنِ مِن بينِ الأموات، الّتي تَفتَحُ لنا جميعًا طريقَ الوِلادَةِ علَى الحياة. إنَّ العملَ الإلهيَّ الّذي جَمَعَ بَينَ مريمَ والمسيحَ القائمَ من بَينِ الأموات، لم يكنْ فقط تجاوُزًا للفسادِ الجسدِيّ الطّبيعيّ للموتِ البشريّ، بل هوَ استباقٌ لانتقالِ كلِّ جسدٍ إلى حياةِ الله. وكما أنَّ الإنسانَ هوَ هوَ نفسُهُ في الأحشاءِ الوالديَّة، ثمَّ بعد ذلك يَخرجُ مِن الرَّحمِ ويكبُر، كذلك نقولُ إنَّ الإنسانَ هوَ هوَ بعدَ موتِهِ. يُولَدُ الوِلادَةَ الأولَى علَى الأرض. ويُولَدُ الوِلادَةَ الثانيَّة في السَّماء. ويبقَى هوَ هوَ. نحن الّذين خرَجنا مِن رَحمِ الأمِّ إلى الحياةِ وَسِرنا علَى الأرض، بعدَ الموت، نُولَدُ في السَّماء، في فضاءِ الله. علَى مثالِ ما حدثَ ليسوع. فالقائمُ مِن بينِ الأمواتِ هو دائمًا يسوع: فهوَ لم يَفْقِدْ إنسانِيَّتَهُ، ولا خِبرةَ حياتِهِ الّتي عاشَها، ولا حتَّى شخصيَّتَهُ الجَسَدِيَّة، لأنَّه مِن دونِها لنْ يكونَ هوَ. هكذا ستكونُ حياةُ جسدِنا القائمِ مِن بينِ الأموات، حيّةً مائةً وألفَ مرّةٍ أكثرَ ممَّا عِشناها علَى هذهِ الأرض.
*******
Speaker:
أُحَيِّي المؤمِنينَ الناطِقينَ باللغَةِ العربِيَّة. حِكمَةُ الشَّيخوخةِ هيَ مكانُ الحَمْلِ والمَخاض، الّذي يُنيرُ حياةَ الأطفال، والشَّباب، والبالغينَ والجماعةَ بأكمَلِها، فَتَبدُو حياتُنا كلُّها مِثلَ بِذرَةٍ يجبُ دَفنُها تحتَ التُّراب، حتَّى تُعطِيَ الزهرةَ ثمَّ الثّمرة، لهذا أقولُ لكُم، أيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأعزّاء، وخاصّةً أنتم كبارُ السِّنّ، إنَّ أفضلَ ما في الحياةِ لم نُشاهِدْهُ بَعد. باركَكُم الرّبُّ جَميعًا وحَماكُم دائِمًا مِن كُلِّ شَرّ!
*******
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana