قول يسوع هذا، في وسط إنجيل لوقا، يصيبنا مثل السّهم: “جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!” (12، 49).
بينما كان الرّبّ يسوع متوجهًا مع التلاميذ في طريقه إلى أورشليم، تكلّم بأسلوب نبويّ خاصّ، واستخدم صورتَين: النار والمعموديّة (راجع 12، 49-50). يجب أن يلقي النار في العالم، وهو نفسه يجب أن يقبل المعموديّة. أتوقف فقط عند صورة النار، فهي هنا شعلة روح الله القديرة، هي الله نفسه مثلُ “نار آكِلَة” (تثنية الاشتراع 4، 24؛ عبرانيين 12، 29)، هي المحبّة الشّديدة التي تنقي وتجدّد وتغيّر كلّ شيء. هذه النار – كذلك ”المعمودية“ أيضًا – تظهر كاملةً في سرّ المسيح الفصحيّ، عندما يفتح هو نفسه، مثل عمود من نار، طريق الحياة عبر بحر الظلام، بحر الخطيئة والموت.
ومع ذلك هناك نار أخرى، نار الجمر. التي نجدها في إنجيل يوحنا، في رواية الظهور الثالث والأخير ليسوع القائم من بين الأموات لتلاميذه عند بحيرة الجليل (راجع 21، 9-14). أشعل يسوع بنفسه نار الجمر هذه بالقرب من الشاطئ، بينما كان التلاميذ على متن القوارب وكانوا يسحبون الشبكة المليئة بالأسماك. وقد وصل سمعان بطرس أوّلًا وهو يسبح، فَرِحًا (راجع الآية 7). نار الجمر خفيفة ومخفية ولكنّها تدوم لفترة طويلة وتُستخدم للطبخ. وهناك، على شاطئ البحيرة، أوجد يسوع القائم من بين الأموات جوًّا وِدِّيًّا، استمتع التلاميذ فيه مندهشين ومتأثّرين بالمودّة الحميمة التي تربطهم بيسوع.
من المفيد لنا، أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، في هذا اليوم، أن نتأمّل معًا في صورة النار، في صورتها المزدوجة، وفي ضوئها نصلّي من أجل الكرادلة، وبشكل خاص من أجلكم، أنتم الذين تنالون في هذا الاحتفال الشّرف والتكليف.
مع الكلمات التي وردت في إنجيل لوقا، الرّبّ يسوع يدعونا مرة أخرى إلى أن نسير خلفه، ونتبعه في طريق رسالته. رسالة من نار – مثل رسالة إيليا – سواء مثل الرّسالة التي أتى يحملها هو، أو بالطريقة التي جاء يحملها. ونحن الذين في الكنيسة أُخِذنا من بين الشعب من أجل رسالة خدمة خاصّة، فنحن مثل مَن يسلِّمنا يسوع الشّعلة المتقدّة قائلًا: خذوا، “كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضًا” (يوحنا 20، 21). هكذا يريد الرّبّ يسوع أن ينقل إلينا شجاعته الرّسوليّة، وغيرته لخلاص كلّ إنسان، لا أحد مستثنى. أراد أن ينقل إلينا شهامته، وحبه بدون حدود، وبدون تحفظات، وبدون شروط، لأنّ رحمة الآب متقدة في قلبه. هذا ما يتّقد في قلب يسوع: رحمة الآب. وداخل هذه النار يوجد أيضًا توتر خفِيٌّ خاصٌّ برسالة المسيح، توتر بين الأمانة لشعبه، ولأرض المواعيد، وللذين سلَّمَهم الآب له، وفي الوقت نفسه، بين الانفتاح على جميع الشّعوب – ذلك التوتر العام -، وعلى أفق العالم، وعلى السّاكنين على الأطراف التي ما زالت غير معروفة.
هذه النار القدّيرة هي التي أنعشت الرّسول بولس في خدمته التي لم تكِلّ للإنجيل، وفي ”جريه“ ورسالته، التي كان يَهدِيها ويدفعها دائمًا إلى الأمام الرّوح والكلمة. وكذلك نار الكثيرين من المرسلين والمرسلات الذين اختبروا فرح البشّارة المتعبة والعذبة، والذين أصبحت حياتهم بالذات هي الإنجيل، لأنّهم كانوا قبل كلّ شيء شهودًا.
أيّها الإخوة والأخوات، هذه هي النار التي أتى بها يسوع ”ليلقيها على الأرض“، والتي يُشعلها الرّوح القدس أيضًا في قلوب وأيدي وأقدام الذين يتبعونه. إنّها نار يسوع، النّار التي أتى بها يسوع.
وهناك نارٌ أخرى أيضًا، هي نار الجَمر. يريد الرّبّ يسوع أن يسلِّمنا هذه النار، حتى نتمكّن مثله، بوداعة وأمانة وقرب من الناس وحنان، من أن نجعل الكثيرين يتذوّقون حضور يسوع الحيّ في وسطنا. إنّه حضور واضح جدًّا، ولو في السِرّ، ولا حاجة لنسأل: ”من أنت؟“، لأنّ قلبنا نفسه يقول لنا إنّه هو، هو الرّبّ يسوع. تتّقد هذه النّار بصورة خاصّة في صلاة السّجود، عندما نكون حاضرين بصمت أمام الإفخارستيا، ونتذوّق حضور الرّبّ يسوع المتواضع، والهادئ، والخفي، مثل نار الجمر، فيصبح هذا الحضور نفسه غِذاء حياتنا اليوميّة.
تذكّرنا نار الجمر، على سبيل المثال، بالقدّيس شارل دي فوكو: وببقائه فترةً طويلة في بيئة غير مسيحيّة، وفي عزلة الصّحراء، موجّهًا كلّ تركيزه على الحضور: حضور يسوع الحيّ، في الكلمة وفي الإفخارستيا، وفي حضوره الأخويّ والودّيّ والمُحِبّ. تذكّرنا أيضًا بالإخوة والأخوات الذين يعيشون تكريس أنفسهم لله في العالم، ويغذّون النّار الهادئة والدّائمة في أماكن العمل، وفي العلاقات بين الأشخاص، وفي اجتماعات الجماعات الأخويّة الصغيرة، أو مثل الكهنة، في خدمتهم المثابرة والسخيّة، ومن دون صخب، بين أبناء الرعيّة. قال لي كاهن مسؤول عن ثلاثة رعايا، هنا في إيطاليا، إنّه كان لديه عمل كثير في رعاياه. فقلت له: ”هل تستطيع أن تزور كلّ النّاس في الرعايا؟“ أجاب: ”نعم، أنا أعرف الجميع!“ – سألته: ”هل تعرف أسماء الجميع؟“ – أجاب: ”نعم، أعرف حتّى أسماء كلاب العائلات“. هذه هي النّار الوديعة التي تحمل الرّسالة إلى نور يسوع. ثمّ، أليست نار الجمر هي التي تدفئ حياة الكثير من الأزواج المسيحيّين كلّ يوم؟ القداسة الزوجيّة! تُحييها صلاة بسيطة، ”في البيت“، بحركات ونظرات حنونة، ومحبّة ترافق الأبناء بصبر في مسيرة نموّهم. ولا ننسَ نار الجمر التي يحرسها كبار السّنّ – إنّهم كنز، كنز الكنيسة -، مَوقِد الذّاكرة، سواء في المجال العائليّ أو في المجال الاجتماعيّ والمدنيّ. كم هو مهمّ مَوقِد كبار السّنّ هذا! تتجمّع العائلات حوله، ويمكّن من قراءة الحاضر في ضوء الخبرات السّابقة، واتخاذ القرارات الحكيمة.
أيّها الإخوة الكرادلة الأعزّاء، في نور هذه النّار وقوّتها، يسير الشّعب المقدّس والمؤمن، الذي أُخِذْنا منه نحن، من شعب الله ذلك، والذي أُرسِلنا إليه خدّامًا للمسيح الرّبّ. ماذا تقول بصورة خاصّة لِي ولكم نار يسوع هذه المزدوجة، هذه النّار المستعرّة والنّار الوديعة؟ يبدو أنّها تذكّرنا أنّ رجلًا ذا غيرة رسوليّة هو رجل تحرّكه نار الرّوح القدس لكي يهتمّ بشجاعة بالأمور الكبيرة والصّغيرة على حدٍّ سواء، لأنّه ”عدم الاهتمام للأمور الكبيرة فقط، والاهتمام بالأمور الصّغيرة، هو موقف إلهيّ“. لا تنسوا: هذا ما قاله القدّيس توما: عدم الاهتمام للأمور الكبيرة فقط: أي أن يكون لدينا آفاق واسعة ورغبة كبيرة لأمور كبيرة، والاهتمام بالأمور الصّغيرة، هو موقف إلهيّ.
الكاردينال يحب الكنيسة، دائمًا بنفس النّار الروحيّة، سواء تعامل مع المسائل الكبيرة أو انشغل في المسائل الصّغيرة، وسواء التقى مع كبار هذا العالم – يجب عليه أن يفعل ذلك، ومرّات عديدة -، أو مع الصّغار، الذين هم كبار أمام الله. أفكّر، على سبيل المثال، في الكاردينال كازارولي، المشهور بموقفه المنفتح والمؤيِّد، بحوار حكيم وصابر، لآفاق أوروبا الجديدة بعد الحرب الباردة – ولا يَسمَحْ الله أن يغلق مرة أخرى قِصَرُ نظر البشر تلك الآفاق التي فتحها هو! لكن في نظر الله، كانت الزّيارات التي كان يقوم بها بانتظام للشّباب المحتجزين في سجن الأحداث في روما لها أهمّيّة أيضًا، حيث كانوا ينادونه باسم ”دون أغوستينو“. كان يتعامل بدبلوماسيّة كبيرة – شهادة الصّبر، هكذا كانت حياته -، بالإضافة إلى زيارته الأسبوعيّة إلى ”كازال دي مارمو“ مع الشّباب. وكم من الأمثلة من هذا النوع يمكننا أن نقدّم! أتذكّر الكاردينال فان ثوان، الذي دُعي ليرعى شعب الله في مشهد حاسم آخر من القرن العشرين، وملأته في الوقت نفسه نار محبّة المسيح لكي يعتني بروح السّجّان الذي كان يحرس باب زنزانته. لم يَخَف هؤلاء النّاس من ”الكبير“، ومن ”من هم الأكثر“، وكانوا يأخذون أيضًا ”الصّغير“ كلّ يوم. بعد الاجتماع الذي فيه أبلغ الكاردينال كازارولي القدّيس يوحنّا بولس الثاني برسالته الأخيرة – لا أعرف إن كانت في سلوفاكيا أو في التشيك، أحد هذين البلدين، كان الأمر يتعلّق بسياسة على مستوى عالٍ – وبينما كان يغادر ناداه البابا وقال له: ”نيافة الكاردينال، أمرٌ آخر: هل ما زلت تذهب إلى هؤلاء السّجناء الشّباب؟“ – أجاب: ”نعم“ – فقال له: ”لا تتركهم أبدًا!“. الدبلوماسيّة الكبرى والأمر الرّعوي الصّغير. هذا هو قلب الكاهن، وقلب الكاردينال.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنعُد بنظرنا نحو يسوع: هو وحده يعرف سرّ هذه العظمة المتواضعة، وهذه القوّة الوديعة، وهذه الشموليّة التي تهتمّ بالتّفاصيل. سرّ نار الله التي تنزل من السّماء وتنيرها من أقصاها إلى أقصاها، والتي تُنَضِّجُ ببطء طعام العائلات الفقيرة، والأشخاص المهجّرين أو المشرّدين. يسوع يريد أن يُلقي هذه النّار على الأرض اليوم أيضًا، ويريد أن يشعلها على شواطئ قصصنا اليوميّة أيضًا. إنّه يدعونا بأسمائنا، يدعو كلّ واحدٍ منّا، يدعونا بأسمائنا: فنحن لسنا أرقامًا، يحدِّق إلينا وينظر في أعيننا، في كلّ واحدٍ منّا – لننظر إلى أعين بعضنا البعض -، ويسألنا: أنت، أيّها الكاردينال الجديد – وأنتم جميعًا، أيّها الإخوة الكرادلة – هل يمكن أن أعتمد عليك؟ إنّه سؤال الرّبّ يسوع.
ولا أريد أن أُنهي كلامي من دون أن أذكر الكاردينال ريتشارد كويا باووبر، أسقف ”Wa“، الذي شعر بالأمس، عند وصوله إلى روما، بالمرض وتمّ نقله إلى المستشفى بسبب مشكلة في القلب، وأعتقد أنّهم أَجروا له عمليّة جراحيّة، شيء من هذا القبيل. لنصلِّ من أجل هذا الأخ الذي كان من المفترض أن يكون هنا، وهو الآن في المستشفى. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana