طعام الرحمة … طعام النكبة من يعلق الجرس؟؟

الزيت في العجين لا يضيع

Share this Entry

أرفق لكم مقالا نشرته في جريدة الرأي الغراء بتاريخ 7 شباط عام ألفين، وأرى أنه من الجدير تذكره بعد جائحة كورونا والأزمة التي نعيشها من البطالة والفقر وغير ذلك اقتصاديا واجتماعيا وأذكركم به:

جرت العادة عند العشائر الأردنية في البوادي والحواضر أن تُقيم الولائم في الأفراح والأتراح، وكانت تسير على نهج معيّن في هذه المناسبات. ففي حالة الموت كانوا “يفرقون بين موت الإنسان إن كان ذكراً أم أنثى، أم طفلاً، فإذا ماتت المرأة اكتفى أقاربها بالسير في جنازتها، وواروها في قبرها، وقبلوا التعازي فيها عند المقبرة. أما إذا كان المتوفى طفلاً أو طفلة فلا يُقام لهما مأتم بل تُقبَل عنهما التعزية في المقبرة، وبعد تناول طعام العزاء عند أحد الوجهاء ينصرف الرجال إلى أعمالهم، وتُقيم النساء مأتماً خاصاً، وهنّ في العادة يجمعن القهوة، والخبز، والحلاوة، والتمر، لتأكل النساء المجتمعات، لأن أهل البيت لا يجوز أن يخمّروا العجين لمدة سبعة أيام لاعتقادهم أن تخمير العجين في مثل هذه الحالة ينشر المرض والموت في أسرة البيت.

أما إذا كان المتوفى ذكراً، فقد جرت العادة أن تُذبَح في ليلة دفن الميت ذبيحة تُدعى– في مادبا وضواحيها وفي الكرك – (ذبيحة القبر)، وهذه الذبيحة لازمة لا فرق فيها بين غنيّ وفقير. وفي أمكنة أخرى تسمّى (الونيسة) وهي من (ونس) بِقَلب همزة (أنَس) واواً، وكأنهم يريدون بها طرد وحشة القبر عن المدفون. ويذبح الموسرون ذبيحة في اليوم الثالث يدعونها (ذبيحة فكّة الكفن)، وذبيحة في اليوم السابع تُدعى ذبيحة (السبوع)، وذبيحة في اليوم التاسع تُدعى ذبيحة (التاسع)، ويصنَع من هذه الذبائح طعام يُدعَى إليه عادة الذين دعوا أهل الميت في أيام التعزية.

وأما إذا كان الميت من الزعماء أو الوجهاء فإن العشيرة كلها تشترك في المأتم، وقد تشترك العشائر الأخرى التي تقدّر هذا الزعيم أو هذا الوجيه فتدعو أقارب المتوفي لولائم تُقام تكريماً لذكر فقيدهم وتعزية لهم، ويُدعَى معهم خلق كثير طوال أيام المأتم. ومن ذلك فإن عشيرة المجالي في الكرك تقف في عزاء رجالات السماكيّة، وتقدّم لهم طعام الرحمة والمجبرين، وكذلك تفعل عشيرة المعايطة في وفاء أحد رجالات عشيرة البقاعين في أدر.

وكـان المأتم قـديماً يمتـدّ أربـعـين يـومـاً، لأن الاعتقاد الشائع بينهم أن روح الميّت تظل حائرة إلى الأربعين، وأنها تُعاود زيارة الأهل إلى نهاية السنة،وهذا هو السرّ في كون الحداد عندهم سنة كاملة،وهي عادة جاهلية يلمح لها الشاعر لبيد بن ربيعة في وصيته لبنتيه:

إذا حان يوماً أن يموت أبوكُما

فلا تخمشا وجهاَ ولا تَحلِقَا شعر

إلى الحَول ثم اسم السلام عليكما

ومن يبكِ حَولاً كاملاً فقد اعتذر

ويغلب أن تكون هذه الولائـم مـن الـفـرائض الاجتماعية، لأنها تُعتَبر ديوناً اجتماعية يجب أن تُردّ في مثل مناسباتها، ومن الأقوال الشائعة (كل شيء قرضه ودين حتى دموع العين).

وفي حـالـة الـزواج كـان والـد الـعـريـس يـولم الولائم في النهار الـتـالي للزواج، ويسمّى الطعام (القرى)، ويدعو الوجهاء إليه، وقد كان العريس الموسـر يـذبـح مـا بين الخمس عشـرة والـعـشـريـن ذبيحة، بـعضـهـا مـن مـالـه الخاص، وبعضـهـا مساعدات من أقاربه وأصدقائه، وهو مسؤول عن رد المساعدات والنقوطات في مناسبة مماثلة لهذه المناسبة، أي عند زواج الذكور من الأبناء، وفي حالة تخلّفه عن ردّ ذلك فـيـحـقّ لـلـمـتبرع أن يُـطـالـبـه ويقاضيه عند القاضي المختص، فيحكم له القاضي بالذي تبرع به مهما كان زهيداً، لأنهم يقولون:”طُعمة الـرجـال لـلـرجـال قـرضـه ولـلـمسـتـحـقين إحسان”.

فإذا كانت هذه العادات التي ورثناها عن الآباء والأجداد عادات مُستحبة وحميدة لأنها تصدر عن مشاعر نبيلة، وأخوّة صادقة، وقلوب صافية تؤدي إلى تـقـويـة الـتـقـارب الأُسَري، وتوثيق الترابط العشائري وإيجـاد الـوحـدة الوطنية في المجتمع الأردني، إلا أننا في أيامنا هذه قد أفلحنا فقط في تقليص مدّة العَزاء لثلاثة أيام، وانحرفنا عن جادة الـطـريـق وعـن الـهـدف المنشـود وعـن المشـاركـة الجماعية في إقامة الولائم، ففي العزاء انحسرت العادة في أسرة المتوفى، وراحت السفينة المحمّلة بهذه العادات تتقاذفها الأمواج العاتية وتسوقها جانحة بها الشاطئ لترتطم بالصخور والحبائل، وتغرق بالأطيان والأوحال، ورُبّانها راضٍ عنها وهي تقض مضجعه، وتثقل كاهله بخسارة الأموال الـفـادحـة الـتـي لا طـائـل تحـتـهـا. فـمـن لا يملك إلا الكفاف ليومه يقيم الولائم كما يقيمها الغني أو الثري، لئلا يُنعَت بالبخل والتقتير فعندئذ يتحول طعام الرحمة في بيته إلى طعام نكبة، وتتحول النعمة إلى نقمة وإلى ديون ثقيلة لا يقدر على إيفائها إلا بشق الأنفس وعلى حساب معيشة عياله. وأما ولائم الأفراح، فَحَدِّث ولا حرج، فهي ذات تكاليف باهظة تقدّر عند بعضهم بآلاف الدنانير، ومما زاد الطين بلّه الولائم المبتكرة تحت عنوان (ما يستجد مـن أعـمـال). وهـي ولائـم الـطـبـقـة البرجوازية في مواسم الانتخابات النيابية، فالمُشاهِد لا يستطيع أن يحصي أعداد المدعوين،كما أنه لا يقدر أن يعدّ المناسف التي (تخز) من أمامه وتمر من السحاب، (متلّلة) بـالـرز الـرشـيـدي، و(مـكـلّـلـة) بـالـلـحـم الشيحاوي، و(مشرّبة) باللبن الكركي، و(مكفعة) بالسمن البلقاوي، وترافقها الأهازيج والزغاريد، والمهاهاه. ومن الغريب أن هذه العادة اسـتـفـحـل شـرهـا، وأصـبـحـت كـالمرض الساري، فـانـتـقـلت العدوى إلى فصول أخرى كالانتخابات البلدية، وانتخابات الغرف التجارية، وحتى انتخابات المجالس القروية، وأخشى أن تمتد إلى انتخابات النقابات المهنية، والأندية الرياضية والثقافية، والجمعيات الخيرية، وإلى المخاتير، ومن يريدون العضوية.

ليته كان لي أن أرى مسكينًا يقف على منسف! أو فقيرًا يـحـظى بما يُلقَى في أكياس القمامة! أو جائعًا يبتلع بالرماق من قحافة قدر! لكن الهدف غير ما نبتغي، والأجر غير ما نريد، إنه الافتخار، والزهو، والخلاء، والعلو، والمنافع الذاتية.

كنت أتمنى أن يـبـقـى طـعـام الـعـزاء رحـمـة للمتوفين، وبركة للفقراء والمعوزين وأن لا ينطبق المثل الشعبي (حـاسـا بـاسـا دامـا ديـه) على هذه الأموال المهدورة، ولكنني أتمنى أن تسير في طريق الخير: كأن نغيث بها مكروبًا، أو نُطعم بها يتيمًا، أو نأوي بها مسكينًا، أو نكسو بها عريانًا، أو نُشبع بها بائسًا فقيرًا، أو نودعها في الجمعيات الخيرية، أو المؤسسات الإنسانية.

إن المجتـمـع الأردني، وهـو يمرّ في مـرحـلـة اقـتصـاديـة صـعـبـة، يـُعـانـي مـن هـذه الـعـادات المُستَحدثة، ويئنّ متوجعاً، ويشكو متألماً، فلماذا الصمت وكـلـنـا يـتضـجّـر؟ ولماذا السكوت وكلنا يتأفّف؟ لماذا لا نسعى إلى تهذيب هذه العادات وتشذيبها فنبعث الراحة في نفوس الناس، ونخفف عنهم وزر الحياة، ولهذا فإنني أناشد كل عشيرة أردنية غيورة، وكل فرد من أبناء مجتمعنا الأردني الأبـيّ بأن يـبـادروا – جـادّيـن – إلى دراسـة هـذه العادات ووضعها في حكم المعقول، لتستقر بها النفوس، وتتلقاها الطبائع بالقبول، والزيت في العجين لا يضيع، فمن يعلق الجرس؟!

Share this Entry

الأب عماد طوال

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير