vatican media

دعوة كازاخستان الخاصة

كلمة البابا فرنسيس في اللقاء مع السُّلُطات والمجتمع المدنيّ والسّلك الدبلوماسيّ

Share this Entry

السّيّد رئيس الجمهوريّة،

أعضاء الحكومة والسّلك الدبلوماسيّ المحترمين،

السّلطات الدينيّة والمدنيّة المحترمين،

ممثليّ المجتمع المدنيّ وعالم الثّقافة الكرام،

سيداتي سادتي،

أُحيّيكم تحية قلبيّة. وأشكّر السّيّد الرّئيس على الكلمات التي وجَّهها إليّ. يشرّفني أن أكون هنا معكم، في هذه الأرض العريقة بقدر ما هي شاسعة، والتي أتيت إليها حاجَّ سلام، ساعيًا إلى الحوار والوَحدة. عالمنا بحاجة ماسّة إلى هذا، بحاجة إلى أن يجد الانسجام. الانسجام الذي يمكن أن تكون رمزًا جيّدًا له، في هذا البلد، آلة موسيقيّة تقليديّة ومميّزة، تعرّفت عليها وهي: الدومبرا. إنّها شعار ثقافيّ وأحد أهمّ رموز كازاخستان، لدرجة أنّه خُصِّصَ لها مؤخرًا يوم خاص. أودّ أن أستعين بآلة الدومبرا لتكون العنصر، الذي أبني عليه ما أرغب في أن أشارككم فيه.

  لما كنت أستعدّ لهذه الزّيارة، علمت أنّ بعض المقطوعات على آلة الدومبرا كانت تُعزَفُ في العصور الوسطى وأنّها، على مرّ القرون، رافقت الحكايات والملاحم الملَحَّنة والأعمال الشّعريّة، وقد ربطت الماضيّ بالحاضر. إنّها رمزٌ للاستمراريّة في التنوّع، وتَعزِف على إيقاع ذاكرة البلد، وتذكِّر وتنبِّه إلى أهميّة عدم إهمال الصّلة مع حياة الذين سبقونا، أمام التغيّرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة السّريعة الحاليّة، وبالتّقاليد التي تسمح لنا بأن نقدّر الماضيّ ونقيّم ما ورثناه. أفكّر، على سبيل المثال، في العادة الجميلة المنتشرة هنا، وهي خَبْزُ سَبْعَةِ أرغفةٍ، في صباح يوم الجمعة، تكريمًا للأجداد.

البابا يوحنّا بولس الثّاني، الذي جاء هو أيضًا حاجًّا إلى هنا، عرَّف ذاكرة الكازاخستان بأنّها “أرض الشّهداء والمؤمنين، وأرض المَجلُوِّين والأبطال، وأرض المفكّرين والفنّانين” (كلمة البابا خلال الاستقبال الرّسمي، 22 أيلول/سبتمبر 2001). إنّها تحمل منطبعًا فيها تاريخًا مجيدًا من الثّقافة، والإنسانيّة والمعاناة. كيف لا نتذكّر، خاصّة، معسكرات الاعتقال وإجلاء الجماهير، التي شهدت في المدن وفي سُهوب الصّحراء التي لا حد لها في هذه المناطق، ظلم شعوبٍ كثيرة؟ لكن أهل الكازاخستان لم يسمحوا بأن يبقوا أسرَى هذه الانتهاكات: من ذكرى السّجون أزهرت العناية بالتّرحيب والاندماج. في هذه الأرض، التي عَبَرَها منذ العصور القديمة شعوب كثيرة مرتحلة، لتكن ذكرى المعاناة والمحن التي عرفتها، مخزونًا لا بدَّ منه للانطلاق نحو المستقبل، ولتُوضَع في المقام الأوّل كرامة الإنسان، كلِّ إنسان، وكلّ مجموعة عرقيّة، واجتماعيّة ودينيّة.

  ولنعد إلى ”الدومبرا“. يتمّ العزف عليها بالضّرب على وَتَرَيْن فيها. تتميّز كازاخستان أيضًا بقدرتها على المضيّ قُدُمًا بخلق الانسجام بين ”وَتَرَيْن متوازيَين“ فيها، هما: مناخ بارد قاس في الشّتاء، وحرارة مرتفعة جدًّا في الصّيف، تقليد وتقدّم، يَرمُز إلى ذلك لقاء المدن التاريخيّة مع المدن الحديثة الأخرى، مثل هذه العاصمة. وفي هذا، يُسمَعُ عزفٌ يعبِّر عن روحَين، الآسيويّة والأوروبيّة، ويجعلان منها “رسالة تواصلٍ دائمة بين قارّتَين” (كلمة البابا إلى الشّباب، 23 أيلول/سبتمبر 2001)، و”جسرٍ بين أوروبا وآسيا”، و “حلقةِ ربط بين الشّرق والغرب” (كلمة البابا خلال مراسم الوداع، 25 أيلول/سبتمبر 2001). يتردّد صدى أوتار ”الدومبرا“ عادة مع آلات وتريّة أخرى خاصّة بهذه الأماكن، فينضج الانسجام وينمو في العزف الجماعيّ، في الجوقة التي تُكسِب الحياة الاجتماعيّة انسجامًا. مثلٌ محلّيّ جميل يقول: “مصدر النّجاح هو الوَحدة”. إن كان هذا يصحّ في كلّ مكان، فإنّه يصح هنا بصورةٍ خاصّة: ما يقارب المائة وخمسين مجموعة عرقيّة وأكثر من ثمانين لغة موجودة في البلاد، ولكلّ واحد رواياته، وتقاليده الثقافيّة والدينيّة المتنوّعة، فتؤلّف سيمفونيّة غير عاديّة، وتجعل من كازاخستان مُختَبَرًا فريدًا متعدّد الأعراق، ومتعدّد الثّقافات ومتعدّد الأديان، فتظهر دعوتها الخاصّة، أن تكون بلد اللقاء.

أنا هنا لكي أؤكّد على أهميّة وضرورة هذا الجانب، والضّرورة المُلِحّة لمثل هذه المِيزة، التي تُدعَى الأديان بصورة خاصّة إلى المساهمة فيها. لذلك، سأتشرّف بأن أشارك في المؤتمر السّابع لقادة الديانات العالميّة والتّقليديّة. إنّ دستور كازاخستان، الذي يقول إنّه علمانيّ، يفترض حريّة الدين والمعتقد. هذه هي العلمانيّة السّليمة، التي تعترف بالدّور المهِمّ جدًّا للدّين والذي لا بديل له، وتعارض التطرّف الذي يقوّضه، تمثّل شرطًا أساسيًّا للمساواة في التعامل مع كلّ مواطن، فضلًا عن تعزيز الشّعور بالانتماء إلى الوطن من قِبَلِ جميع مكوّناته العرقيّة، واللغويّة، والثقافيّة والدينيّة. في الواقع، بينما تلعب الأديان دورًا لا بديل له في البحث عن المطلق والشهّادة له، فإنّها تحتاج إلى حريّة التّعبير عن نفسها. وبالتّالي، فإنّ الحريّة الدينيّة تشكّل أفضل قاعدة للعيش معًا.

إنّه احتياجٌ منقوش في اسم هذا الشّعب، في كلمة ”كازاخ“، التي تعني بالتّحديد السّير بحريّة واستقلاليّة. حماية الحريّة، التي هي طموح مكتوب في قلب كلّ إنسان، وهي الشّرط الوحيد لكي يكون اللقاء بين الأشخاص والجماعات حقيقيًّا لا مُصطنعًا، تُترجم في المجتمع المدنيّ، بالاعتراف بالحقوق، وترافقها الواجبات. أودّ أن أُعرب عن تقديري، من وجهة النّظر هذه، لتأكيد قيمة الحياة البشريّة هنا بإلغاء عقوبة الإعدام، باسم الحقّ في أملٍ جديد لكلّ إنسان. إلى جانب ذلك، من المهمّ ضمان حريّة الفكر، والضّمير والتّعبير، لفسح المجال للدّور الفريد والمتساوي الذي يقوم به كلّ واحدٍ من أجل الجميع.

في هذا أيضًا، يمكن أن تكون ”الدومبرا“ محفّزًا لنا. فهي في الأساس آلة موسيقيّة شعبيّة، وبهذه الصّفة، تنقل لنا جمال الحفاظ على عبقريّة الشّعب وحيويته. هذا الأمر موكول أوّلًا إلى السُّلطات المدنيّة، المسؤولة في المقام الأوّل عن تعزيز الخير العام، ويظهر ذلك خصّوصًا بدعم الديمقراطيّة، التي تقدِّم أفضلَ الطّرق لممارسة السّلطة فتكون خدمة للشّعب بأكمله، وليس للبعض فقط. أعلم أنّه تمّ، في الأشهر الأخيرة خصّوصًا، إطلاق عمليّة تعزيز للديمقراطيّة، تهدف إلى تقوية صلاحيّات البرلمان والسُّلطات المحليّة، وبشكل أعمّ، إلى توزيعٍ أكبر للسُّلطة. إنّها مسيرةٌ جديرة بالتّقدير وتتطلّب جهدًا، وبالتأكيد ليست قصيرة، وتتطلّب منّا أن نستمرّ في السّعي نحو الهدف، دون أن ننظر إلى الوراء. في الواقع، تزداد الثقة في الذين يحكمون، عندما لا تكون الوعود مجرّد وسائل، بل يتمّ تنفيذها فعليًّا.

من الضّروري، في كلّ مكان، ألّا تنحصر الديمقراطيّة والتّحديث في التّصريحات، بل تؤدي إلى خدمة عمليّة للشّعب. ما يصنع السّياسة الجيّدة هو الاستماع إلى النّاس والإستجابة لاحتياجاتهم المشروعة، والمشاركة المستمرّة للمجتمع المدني والمنظّمات غير الحكوميّة والإنسانيّة، والاهتمام الخاصّ بالعمّال، والشّباب والفئات الضّعيفة. وأيضًا، التّدابير المناسبة لمكافحة الفساد – كلّ بلد في العالم بحاجة إلى هذا الأمر -. هذا الأسلوب السّياسيّ والدّيمقراطيّ حقًّا، هو الرّدّ الأنسب على التطرّفات والشّخصنيّات والشّعبويّات المُحتملة، التي تهدّد استقرار ورفاهيّة الشّعوب. أفكّر أيضًا في الحاجة إلى بعض الأمن الاقتصاديّ، الذي تمّ تطبيقه هنا في بداية السّنة، وفي مناطق غنيّة بموارد الطّاقة، لكن الصّعوبات فيها كثيرة. إنّه تحدٍّ، ليس فقط في كازاخستان، بل في العالم بأسره، الذي أصبحت تنميته المتكاملة رهينة ظلم منتشر، ولهذا يتمّ توزيع الموارد بشكلٍ غير متساوٍ. ومن واجب الدّولة، والقطاع الخاصّ أيضًا، أن يتعاملوا مع جميع مكوّنات السكّان بعدالة ومساواة في الحقوق والواجبات، وتعزيز التّنمية الاقتصاديّة، لا على أساس مكاسب عدد قليل، بل على أساس كرامة كلّ عامل.

لِنَعُد إلى ”الدومبرا“ للمرّة الأخيرة – سيقولون إنّ هذا البابا موسيقيّ-. إنّها توحّد كازاخستان مع العديد من البلدان المجاورة، وتساهم في نشر ثقافتها في العالم. وبالمِثل، آمُل أن يظلّ اسم هذا البلد الكبير مرادفًا للانسجام والسّلام. يقف كازاخستان على مفترق طرق لمحاور جيوسياسيّة مهمّة، وبالتّالي، له دور أساسيّ في التّخفيف من حدّة النّزاعات. جاء يوحنّا بولس الثّاني إلى هنا ليزرع الرّجاء، مباشرة بعد الهجمات المأساويّة في سنة 2001. وأنا آتي إليكم في سياق الحرب المجنونة والمأساويّة التي نشأت عن غزو أوكرانيا، بينما تهدّد زمننا اشتباكات وتهديدات أخرى. جِئتُ لكي أعلّي وأُسمِع صرخة الكثيرين الذين يَنشُدون السّلام، الذي هو طريق التّنمية الأساسيّ لعالمنا المعولم. والسّلام هو هذا: طريق التّنمية الأساسيّ لعالمنا المعولم.

  لذلك، أصبحت الحاجة إلى توسيع نطاق الالتزام الدبّلوماسي لصالح الحوار واللقاء، ملحّة بشكل متزايد، لأنّ مشكلة الواحد هي اليوم مشكلة الجميع، والذين تزيد سلطتهم في العالم، تزيد مسؤوليّتهم تجاه الآخرين، وخاصّة البلدان التي تتعرّض أكثر من غيرها لحالة الصّراعات. يجب النظر ليس فقط إلى المصالح التي تعود علينا بالفائدة. حان الوقت لكي نتجنّب تفاقم المنافسة وتجنّب تقوية الكتل المتعارضة. نحن بحاجة إلى قادة، على المستوى الدولي، يسمحون للشّعوب بأن تفهم بعضها بعضًا وتتحاور، فيلدون ”روح هلسنكي“ جديدة، والإرادة لتعزيز التعدّديّة، وبناء عالم فيه المزيد من الاستقرار والسّلام، ويجب التفكير في الأجيال الجديدة. ولكي نفعل هذا الأمر، نحن بحاجة إلى تفاهم، وصبر وحوار مع الجميع. وأكرّر، مع الجميع.

  وإذ أفكّر في الالتزام العالمي بالسّلام، أُعرب عن تقديري العميق لاتخاذ هذا البلد قرار التخلّي عن الأسلحة النوويّة. وكذلك تطوير سياسة الطّاقة والبيئة المركزة على إزالة الكربون والاستثمار في المصادر النّظيفة، التي أظهرها المعرض الدّولي قبل خمس سنوات. إلى جانب الاهتمام بالحوار بين الأديان، كلّ هذا بذار أملٍ عملية، تُلقَى في أرض الإنسانيّة المشتركة، التي علينا نحن أن نزرعها للأجيال القادمة، وللشّباب، الذين يجب النظر إلى رغباتهم، لكي نتّخذ خيارات اليوم والغد. الكرسيّ الرّسوليّ قريب منكم في هذه المسيرة، بعد استقلال البلاد مباشرة، قبل ثلاثين سنة، أقيمت العلاقات الدبلوماسيّة بيننا، ويسعدني أن أزور البلاد في الفترة التي تسبق هذه الذّكرى. أؤكّد أنّ الكاثوليك، الموجودين في آسيا الوسطى منذ العصور القديمة، يرغبون في الاستمرار في الشّهادة لروح الانفتاح والحوار المحترم اللذَين يميّزان هذه الأرض. وهم يفعلون ذلك بدون روح البحث عن أتباعٍ لنا.

  السّيّد الرّئيس، أيّها الأصدقاء الأعزّاء، أشكركم على ترحيبكم بي، إنّه يُظهِر روح الضّيافة المعروف لديكم، وأشكركم أيضًا على الفرصة لقضاء هذه الأيّام من الحوار الأخويّ مع قادة أديان كثيرة. ليبارك الله العليّ دعوة السّلام والوَحدة في كازاخستان، بلد اللقاء. لكم، أنتم الذين تتحمّلون المسؤوليّة الأساسيّة عن الخير العام، وعن كلّ سكّانه، أعبّر عن فرحي في أن أكون هنا، وإرادتي في أن أرافق بالصّلاة وبقربي، كلّ جَهدٍ من أجل مستقبلٍ مزدهر ومتناغم في هذا البلد الكبير. Raqmét! [شكرًا!]

بارك الله كازاخستان!

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير