أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير وأهلًا وسهلًا بكم!
نستأنف اليوم دروسنا في موضوع التّمييز. رأينا كم هو مهمّ أن نفهم ما يتحرّك في داخلنا، حتى لا نتّخذ قرارات متسرّعة، تحت تأثير انفعال اللحظة، ثمّ نندم، ولاتَ ساعةَ مَندَمٍ. أي أن نفهم ما يحدث لنا، ثمّ نتّخذ القرارات.
بهذا المعنى، حتّى الحالة الرّوحيّة التي نسمّيها الكآبة، عندما يكون كلّ شيء في قلبنا مُظلم وحزين، هذه الحالة هي الكآبة، يمكن أن تكون مناسَبة لكي ننمو. في الواقع، إن لم يكن فينا شيء من عدم الرضا، والحزن الخلاصي، والقدرة السّليمة على العيش في عزلة والبقاء مع أنفسنا دون أن نهرب، فإنّنا نوشك أن نبقى دائمًا على السّطح، عند الأمور الخارجيّة، ولا نتواصل أبدًا مع مركز حياتنا. الكآبة تُحدِث ”انتفاضة في النّفس“: عندما نكون في حالة حُزنٍ، تكون نَفسُنا كما لو أنّها تنتفض، وتبقينا واعين، وتعزّز فينا اليقظة والتّواضع، وتحمينا من رياح التقلُّب. إنّها شروط لا غِنى عنها للتقدّم في الحياة، وبالتالي في الحياة الرّوحيّة أيضًا. الطّمأنينة الكاملة، ولكن ”العقيمة“، ومن دون إحساس وشعور، عندما تصبح معيارًا للخيارات والسّلوكيات، فإنّها تجعلنا غير إنسانيّين. نحن لا يمكننا أن نتجاهل الإحساس: نحن بشر، والإحساس هو جزءٌ من إنسانيّتنا، ومن دون أن نفهم الإحساس سنكون غير إنسانيّين، ومن دون أن نعيش الإحساس سنكون أيضًا غير مبالين لآلام الآخرين، وغير قادرين على قبول آلامنا. هذا، ولا نقول إنّ هذه ”الطّمأنينة الكاملة“ لا يمكن بلوغها من خلال طريق اللامبالاة هذه. هذه المسافة العقيمة: ”أنا لا أتدخّل في أمورٍ لا تعنيني، وأنا آخذ مسافة من الآخرين“: هذه ليست حياة، بل كما لو أنّنا نعيش في مُختبر، ومنغلقين، حتّى لا تُصيبنا الجراثيم والأمراض. بالنسبة لقدّيسين وقدّيسات كثيرين، كان القلق دافعًا حاسمًا لتغيير حياتهم. هذه الطّمأنينة المُصطنعة ليست جيّدة، بينما القلق السّليم هو جيّد، وكذلك القلب القَلِق، والقلب الذي يسعى إلى البحث عن الطّريق. هذه كانت مثلًا حالة أغسطينس أسقف عنابة، أو إديث شتاين (Edith Stein)، أو جوزيبي بينيديتو كوتولينغو (Giuseppe Benedetto Cottolengo)، أو شارل دي فوكو (Charles de Foucauld). الخيارات المهمّة لها ثمنها في الحياة، وهو ثمن في متناول الجميع: أي أنّ الخيارات المهمّة لا تأتي من سحب القُرعة، لا، بل لها ثمن وأنت عليك أن تدفع هذا الثّمن. إنّه ثمن عليك أن تدفعه من قلبك، إنّه ثمن القرار، وثمن لبذل القليل من الجُهد. هو ليس مجّانيًّا، لكنّه ثمن في مُتناول الجميع. علينا كلّنا أن ندفع ثمن هذا القرار، لكي نخرج من حالة اللامبالاة، التي تُحبطنا دائمًا.
الكآبة هي أيضًا دعوة إلى المجّانيّة، حتى لا نعمل دائمًا وفقط من أجل مكافأة عاطفيّة. أن نكون مكتئبين ذلك يمنحنا إمكانيّة لكي ننمو، ونبدأ علاقة ناضجة أكثر، وأجمل، مع الرّبّ يسوع ومع الأشخاص الأعزّاء علينا، علاقة لا تنحصر في مجرّد تبادل الأخذ والعطاء. لنفكّر في طفولتنا. مثلًا، لنفكّر: يحدث مرارًا للأطفال أن يبحثوا عن والديهم لكي يحصلوا على شيء منهم، على لعبة، وعلى نقود لشراء المثلجات (البوظة)، أو للحصول على إِذِن… وهكذا، فهُم لا يبحثون عنهم لأنفسهم، بل من أجل مصلحة. ومع هذا فهما، الوالدان، هما العطيّة الكبرى، وهذا نفهمه شيئًا فشيئًا عندما نكبر.
كثير من صلواتنا هي أيضًا شيء من هذا النّوع، هي طلبات نِعم موجّهة إلى الرّبّ يسوع، ومن دون اهتمام حقيقيّ به. نذهب لنطلب، ونطلب، ونطلب من الرّبّ يسوع. الإنجيل يلاحظ أنّ يسوع كان غالبًا مُحاطًا بأناسٍ كثيرين، كانوا يبحثون عنه لكي يحصلوا على شيء ما، شفاءات، مساعدات ماديّة، لكن لا ليكونوا معه، ببساطة. كانت تزحمه الجموع، ومع ذلك كان وحيدًا. تأمّل بعض القدّيسين، وبعض الفنّانين أيضًا، في حالة يسوع هذه. قد يبدو غريبًا وخارج الواقع أن نسأل الرّبّ يسوع: ”كيف حالك؟“. بينما هي طريقة جميلة جدًّا للدّخول في علاقة حقيقيّة وصادقة، مع إنسانيّته، ومع آلامه، وحتّى مع وَحدته الفرديّة. معه، مع الرّبّ يسوع، هو الذي أراد أن يشاركنا حياته حتّى النهاية.
من المفيد جدًّا لنا أن نتعلّم أن نكون معه، مع الرّبّ يسوع، من دون أيّ هدف آخر، تمامًا مثلما يحدث لنا مع الأشخاص الذين نحبّهم: نريد أن نعرفهم أكثر وأكثر، لأنّه جميلٌ أن نكون معهم.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، الحياة الرّوحيّة ليست أسلوبًا تَقَنِيًّا نستخدمه كما نشاء، وليست برنامجَ ”رَفاهٍ“ داخليّ نبرمجه. لا. الحياة الرّوحيّة هي علاقة مع الإله الحَيّ، مع الله، الحيّ، ولا يمكن تحجيمها بحسب قوالبنا. في هذه الحال، الكآبة هي الجواب الواضح على الاعتراض القائل إنّ خبرة الله هي شكلٌ من أشكال الإيحاء الذاتي، وانعكاس بسيط لرغباتنا. الكآبة هي أنّنا لا نشعر بشيء، وكلّ شيء مُظلم، وأنت تبحث عن الله في الكآبة. في هذه الحالة، إن اعتقدنا أنّ الكآبة هي انعكاس لرغباتنا، سنكون نحن دائمًا الذين نبرمجها، وسنكون دائمًا فرحين وسُعداء، مثل الأسطوانة التي تكرّر الموسيقى نفسها. بينما، الذي يصلّي يُدرك أنّه لا يمكن التنبّؤ بالنتائج: الخبرات والمقاطع من الكتاب المقدّس التي أثارت مرارًا إعجابنا، اليوم، وبشكل غريب، لا تثير فينا أيّة رغبة. وأيضًا وبشكل غير متوقّع، الخبرات واللّقاءات والقراءات التي لم نجد فيها شيئًا من قبل ولم نهتمّ لها، أو التي فضّلنا أن نتجنّبها – مثل خبرة الصّليب – تجلب لنا الآن سلامًا كبيرًا. لا تخافوا من الكآبة، وامضوا قدمًا بها مع مثابرة، ولا تهربوا. وفي الكآبة اسعوا لتجدوا قلب المسيح، ولتجدوا الرّبّ يسوع. والجواب سيصل، دائمًا.
لذلك، أمام الصّعوبات يجب ألّا نصاب أبدًا بالإحباط، من فضلكم، بل يجب أن نواجه المحنة بعزم، بمساعدة نعمة الله التي لا تخذلنا أبدًا. وإن سمعنا صوتًا مُلِحًّا في داخلنا يريد أن يشتّت انتباهنا عن الصّلاة، لنتعلّم أن نزيل القناع عنه فهو صوت المجرّب، فلا نتأثّرْ به: ببساطة، لنفعل عكس ما يقوله لنا! شكرًا.
*******
قِراءَةٌ مِن سِفرِ المزامير (30، 7-9. 12)
في طُمَأنينَتي قُلتُ: لنْ أَتَزَعزَعَ لِلأبَد. بِرِضاكَ ثَبَّتَّني، يا رَبُّ، في جِبالِ عِزِّي. ثُمَّ حَجَبتَ وَجهَكَ فنالَ الرَّوعُ مِنِّي. إِلَيكَ يا ربِّ أَصرُخُ وإِلى الرَّبِّ أَتَضَرَّع. […]. إِلى رقصٍ حَوَّلتَ نَدْبي، وخَلَعتَ مِسْحي وبِالسُّرورِ زنَرتَني.
كلامُ الرَّبّ
*******
Speaker:
استمّرَ قَداسَةُ البابا اليَومَ في التكلُّمِ علَى الكآبةِ الّتي هيَ مِنَ العناصِرِ الّتي تَحمِلُ على التَّمييز. وقال: الكآبةُ يمكنُ أنْ تكونَ مناسَبَةً لكي ننمُوَ في حياتِنا. فهيَ تُحدِثُ فينا ”انتفاضةً في النفس“، وتُبقينا واعين، وتُعَزِّزُ فينا اليقظةَ والتَّواضع، وَتَحمِينا مِن رياحِ التَقَلُّبات. وكُلُّها شروطٌ لا غِنى عنها للتقدُّمِ في الحياة، وفي الحياةِ الرُّوحيّةِ أيضًا. بينما الطُّمأنينةُ الكاملةُ والعقيمةُ إنْ أصبحتْ معيارًا لخياراتِنا وسلوكياتِنا، فإنَّها تجعَلُنا غيرَ إنسانيِّين وغيرَ مبالين لآلامِ الآخرين، وغيرَ قادرين علَى قبولِ آلامِنا. وقالَ قداستُهُ: الكآبةُ هي أيضًا دعوةٌ إلى المجّانِيَّة، حتَّى لا نعملَ دائمًا وفقط من أجلِ مكافآتٍ عاطفيَّة. أنْ نكونَ مُكتَئِبِينَ ذلك يَمنَحُنا إمكانيَّةً لكي نَنمُوَ، ونبدأَ علاقةً أكثرَ نضوجًا، وأجملَ معَ الرّبِّ يسوعَ ومعَ الأشخاصِ الأعزّاءِ علينا، علاقةً لا تَنحَصِرُ في مجرَّدِ تبادلِ الأخذِ والعطاء. وأكَّدَ قداسَتُهُ أنَّ الكآبةَ هي الجوابُ الواضحُ علَى أنَّ علاقَتَنا الرُّوحِيَّةَ معَ اللهِ لا تسيرُ دائمًا بحسبِ رغباتِنا. فالمؤمنُ يعرفُ جيّدًا أنَّه لا يمكنُ التَنَبُّؤُ بالنتائِج. فكثيرًا مِن الخِبراتِ والمقاطعِ مِن الكتابِ المقدَّس الّتي أثارتْ إعجابَنا مراتٍ كثيرة، يمكنُ ألَّا تُثيرَ فينا اليومَ أيَّةَ رغبة. والخِبراتُ والقِراءاتُ الّتي لم نَجِدْ فيها شيئًا مِن قَبلُ ولم نَهتَمّْ لها، أو الّتي فَضَّلْنا أنْ نَتَجَنَّبَها، مثلُ خِبرةِ الصَّليب، قد تَجلِبُ لنا سلامًا غيرَ متوقَّع. علينا أنْ نواجِهَ الصُّعوباتِ في حياتِنا بعزمٍ ونحن واثقونَ أنَّ اللهَ لا يترُكُنا أبدًا.
Speaker:
أُحَيِّي المؤمِنينَ الناطِقينَ باللّغَةِ العربِيَّة. أمامَ الصُّعوباتِ يجبُ ألَّا نُصابَ أبدًا بالإحباط، بل يجبُ أنْ نُواجِهَ المِحنَةَ بعزمٍ، بِمُساعَدَةِ نِعمَةِ اللهِ الّتي لا تَخذِلُنا أبدًا. باركَكُم الرّبُّ جَميعًا وحَماكُم دائِمًا مِن كُلِّ شَرّ!
*******
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022