الثورة هي حركة سياسية في البلد حيث يحاول الشعب إخراج السلطة الحاكمة. تستخدم هذه المجموعات الثورية العنف في محاولة إسقاط حكوماتها. يؤسس الشعب حكومة جديدة في البلد بعد إسقاط الحكومة السابقة. ويسمى هذا التغيير في نظام الحكومة (أو في القادة الحاكمة) ”الثورة“ لأنه يصبح إلى السلطة الحاكمة الجديدة. شهد العالم الكثير من الثورات، ثورة فكرية، زراعية، رقمية وأحيانًا كثيرة ثورة سياسيّة مما بدّل الوجه العالمي للحكم في الدول، وآخر هذه الثورات شهدها لبنان، في السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019. في المقالة هذه سنأخذ الوجه الثورجي التي تطالب به الكنيسة وهو مختلف كليًّا عن الثورة التي يطالب بها أهل ساسة هذه الأرض.
لطالما كانت الكنيسة هي الثائرة الأولى على كل شي نمطي، هي ثائرة على الموت الروحي، على الظلم، على الفقر والجهل، على مثال عريسها السماوي، يسوع المسيح. يسوع هو ثائِر الحُبّ الأول الذي خرج من الثالوث ليخلِّصنا من الموت حسب رغبة الآب السماوي. ولكن كَكُل شيء هذه الكنيسة التي هي أيقونة الثالوث الأقدس تحمل جانب إنساني، ضعيف وهَشّ. هذا الجانب سَمح بدخول الفساد إلى بعض أعضاء هذه المؤسسة والتي سرعان ما أضاعت السبيل إلى الحقّ.
في كلّ مرّة كان الفساد والضياع يجد سبيله إلى هذه الكنيسة، الذي تحمل الطابع الإنساني في جزء منها والجزء الآخر إلهي. هذا الإلهي الذي يأتي في كلّ مرّة لإنقاذ هذه الكنيسة الضعيفة بشخصيات إستثنائية أدخلت الإصلاح إليها. ثارت على كل ما هو تقليدي خاطئ بعيد عن الإيمان القويم. أرسل إلينا الله الكثير من الشخصيات التي اتخذت من مبدأ الثورة منهج لها على سبيل المثال لا الحصر، في الألف الأول القديس فرنسيس الأسيزي (1181 – 1226) مؤسس الرهبنة الفرنسيسكانيّة. في أسيزي قاد القديس فرنسيس الثورة على الترف والفساد السائِد في الكنيسة يومها، فأخذ منطلق التقشفّ والصوم والعيش بين الفقراء وأخته الطبيعة. فيها سبّح وشكره على كل نعمه. قاد فرنسيس إحدى هذه الثورات السلمية داخل الكنيسة فكان طائعًا بكليّته للسلطة الكنسية. حاول القديس فرنسيس أن يكون تلميذ المعلّم. وفي عام 1219 م سافر فرنسيس إلى الأراضي المقدسة، وفي طريقه التقى في مدينة دمياط في مصر مع السلطان الأيوبي “الكامل الأيوبي” – الذي كان يحكم الأرض المقدسة – لقاء ملؤه الاحترام والمحبة، وأُعجب السلطان بشخصية القديس وبساطته وشجاعته فاستضافه بضعة أيام وقدم له الهدايا.
وكان لقاء القديس فرنسيس مع السلطان الملك الكامل، الأخ الأكبر لصلاح الدين الأيوبي، لقاءً سلمياً ورمزاً للحوار (الأول من نوعه في التاريخ) بين الأديان، وقد منحه السلطان تصريحًا كتابياً يخوّل له زيارة البلاد المقدسة والوعظ في مصر. كان قدوم القديس فرنسيس إلى القدس بداية وجود الفرنسيسكان في الأراضي المقدسة، ومع مرور الزمن انتشر الرهبان الفرنسيسكان وأسسوا أدْيِرة في معظم مدن بلاد الشام، أي في القدس ويافا وعكا وبيروت وإنطاكيا وصيدا وصور وطرابلس وطرطوس. ويسهر الفرنسيسكان على الأماكن المقدسة وقد أُعطوا لقب «حرّاس الأراضي المقدسة».
بعد سنوات عديدة عاد ودخل الفساد إلى الكنيسة عبر الرهبنة الكرملية، وكان الله يرسل لنا القديسة تريزيا الأفيلية (1515 – 1582). هذه القديسة التي عاشت سنوات جفاف روحي ولكن بعد أن انفتحت على الحبّ الإلهي وبموازاة نضج روحها، بدأت القدِّيسة بتنمية مثال إصلاح الرَّهبنة الكرمليَّة. خلال سنة 1562، استمرَّت في تأسيس أديرة كرمليّة أخرى بلغ عددها 17 ديرًا. ففي سنة 1582، خلال رحلة العودة إلى أفيلا، رقدت فى الرب ليل 15 تشرين الأول أكتوبر في ألبا دي تورميس مكرِّرة بتواضع هاتين الجملتين: “في النهاية، أموت كابنة الكنيسة”، “لقد آن الأوان الآن يا عريسي لنرى بعضنا”. إنّها حياة عاشتها في إسبانيا، لكنّها مكرسة للكنيسة جمعاء. ثارت ضمن الكنيسة وليس خارجها وعليها.
وفي المثل الأخير الذي نرى الثورة الكبيرة التي حدثت في قلب كنيستنا الأم، الكنيسة الكاثوليكية، حيث دخلت في ثورة فقبلها ليس كما بعدها. البابا يوحنا الثالث والعشرون هو بابا الكنيسة الكاثوليكية الحادي والستون بعد المائتان بين 28 أكتوبر 1958 و3 يونيو 1963 في أقصر بابويّة خلال القرن العشرين بعد يوحنا بولس الأول، غير أنها كانت حافلة سيّما بعد دعوة البابا لعقد المجمع الفاتيكاني الثاني؛ ويعتبر من البابوات الأكثر شعبيّة في التاريخ المعاصر. ولد باسم أنجيلو جيوسيبي رونكالي عام 1881 في إيطاليا وانخرط في سلك الكهنوت باكرًا وأصبح أسقفًا ثم زائرًا رسوليًا فبطريركًا للبندقية عام 1953. خلف البابا بيوس الثاني عشر في رئاسة الكنيسة الكاثوليكية عام 1958، وكتب خلال حبريته عدد كبير من الرسائل والدساتير العامّة وعمل إلى تغيير وانفتاح الكنيسة الكاثوليكية على العالم. غير أنه لم يعش لير ختام أعمال المجمع الذي دعا إليه بل توفي بعد ختام الدورة الأولى منه مباشرة، ليكمل خليفته بولس السادس سائر دورات المجمع. هذا المجمع الذي غيرّ وجه الكنيسة وهذه الثورة الدخلية للكنيسة.
يقول البابا فرنسيس: “ثورة الحب والحنان تبدأ في قلب العائلة”، وفي مكان آخر يقول للمسنين: “ستكون هذه مساهمتنا في ثورة الحنان وهي ثورة روحية وغير عنيفة أشجعكم فيها أيها الأجداد الأعزاء وكبار السن على القيام بدور نَشِط”. إنطلاقًا من كل ما سبق ومثال البابا يوحنا بولس الثاني الثائر على الشيوعية في بلده بالطرق السلمية كما نعرف جميعًا نستنتج بأن الثورة الحقيقيّة هي ثورة الحبّ والثورة على الذات تسمى بالثورة الروحيّة وعلى كلّ تخلّف. أختم في سؤال يسأله الكثير من المؤمنين متى سيكون لنا ثورتنا الخاصّة في لبنان تشبه ثورة المذكورين أعلاه، محرِّكها الأول الروح القدس؟