لقد رأينا هذا الشّاب، إسطفانوس، الذي طلب أن يتلقّى رُتبة خادم الهيكل، خلال مسيرته نحو الكهنوت. علينا أن نصلّي من أجله، حتّى يتقدّم في دعوته ويكون أمينًا، وعلينا أيضًا أن نصلّي من أجل كنيسة أستي هذه، حتّى يرسل الرّبّ يسوع دعوات كهنوتيّة، لأنّه كما تَرَون، الأغلبيّة هُم مسنّين، مِثلِي: لهذا نحن بحاجة إلى كهنة شباب، مثل البعض الموجودين هنا، الذين هُم رائعين. لنصلِّ إلى الرّبّ يسوع أن يبارك هذه الأرض.
ومن هذه الأراضي غادر والدي ليهاجر إلى الأرجنتين. وفي هذه الأراضي، التي صارت عزيزة بفضل منتجات التّربة الجيّدة، وقبلّ كل شيء بفضل جهود الناس العفويّة، جئت أُعيد تذوق طعم الجذور. ولكن اليوم، مرّة أخرى، الإنجيل هو الذي يعيدنا إلى جذور الإيمان. إنّها في تربة الجُلجُثَة القاحلة، حيث زرع يسوع، وهو يموت، وأنبت الرّجاء: زَرع في قلب الأرض، ففَتَحَ لنا الطّريق إلى السّماء. بموته منحنا الحياة الأبدية. وبخشبة الصّليب حمل لنا ثمار الخلاص. لذلك لننظر إليه، لننظر إلى المصلوب.
على الصّليب جملة واحدة فقط: “هذا مَلِكُ اليَهود” (لوقا 23، 38). هذا هو اللقب: ملك. ولكن عندما ننظر إلى يسوع، ينقلب مفهومنا عن الملك. لنحاول أن نتخيّل ملكًا في ذهننا: سنفكّر في رجل قوي يجلس على عرش، تبدو عليه علامات العِزة، صولجان بين يديه وخواتم متلألئة في أصابعه، وينطق بكلمات مهيبة لرعاياه. هذه هي، تقريبًا، الصّورة التي لدينا في رؤوسنا. لكن إن نظرنا إلى يسوع، نجد العكس تمامًا. فهو ليس جالسًا على عرش مريح، بل هو معلّق على مشنقة. الإله الذي “حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش” (لوقا 1، 52) صار خادمًا علّقه الأقوياء على الصّليب، زينته هي المسامير والأشواك فقط. معرّى من كلّ شيء، لكنّه غنيّ بالمحبّة. مِن عرش الصّليب لم يَعُدْ يُرشد الجموع بالكلام، ولم يَعُدْ يرفع يده ليعلّم، لكنّه يفعل أكثر من ذلك: لا يُشِيرْ بإصبع الاتهام إلى أحد، بل يفتح ذراعيه للجميع. هكذا أظهر ملكنا نفسه: بذراعَين مفتوحتَين.
إن عانقناه فقط، نحن نفهم: نفهم أنّ الله تنازل حتّى هذا الحد، حتّى تناقض الصّليب، ليعانقنا جميعًا، ليعانق كلّ ما كان بعيدًا عنه: ليعانق موتنا – هو عانقَ موتنا -، وآلامنا، وفقرنا، وضعفنا وبُؤسنا. وهو عانقَ كلّ ذلك. صار خادمًا حتى يشعر كلّ واحد منّا أنّه ابن: لقد دفع بخدمته ثمن بنوّتنا. وسمح لنفسه أن يتعرّض للإهانة والسّخريّة، حتّى لا يبقى أحدٌ منّا وحده في أيّة مذلة تصيبه. تركهم يعرّوه حتّى لا يشعر أحدٌ منّا أنّه معرّى من كرامته. وصعد على الصّليب، حتّى يكون الله حاضرًا في كلّ مصلوب في التاريخ. هذا هو ملكنا، ملك كلّ واحدٍ منّا، وملك الكون لأنّه عبر أبعد الحدود عن الإنسان، ودخل في مهاوي الكراهية السّوداء وفي مهاوي الخذلان السّوداء، ليُنير كلّ حياة وليعانق كلّ واقع. أيّها الإخوة والأخوات، هذا هو الملك الذي نحتفل به اليوم! ليس سهلًا أن نفهمه، لكنّه ملكنا. والسّؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، هو: هل ملك الكون هذا هو ملك حياتي؟ هل أنا أؤمن به؟ كيف يمكن أن أحتفل به ربًّا لكلّ شيء إن لم يكُنْ أيضًا ربّ حياتي؟ وأنت الذي تبدأ اليوم مسيرتك نحو الكهنوت، لا تنسَ أنّه هو مَثَلُكَ، ولا تتعلّق بكلّ ما يزيدك من سمعة، لا. هذا هو مَثَلُكَ، وإذا لم تفكّر في أن تكون كاهنًا مثل هذا الملك، فمن الأفضل أن تتوقّف عند هذا الحد.
لذلك لنركّز عيوننا مرّة أخرى على يسوع المصلوب. كما ترى، إنّه لا ينظر إليك للحظة فقط، لا ينظر إليك نظرة عابرة كما نفعل نحن غالبًا معه، بل هو هناك دائمًا، بذراعَين مفتوحتَين، ليقول لك في الصّمت أنّه لا شيء فيك غريب عنه، فهو يريد أن يعانقك، وأن يقيمك من جديد وأن يخلّصك كما أنت، بتاريخك وبؤسك وخطاياك. أيّها الرّبّ يسوع، هل هذا صحيح؟ هل تحبّني هكذا مع بؤسي؟ ليفكّر كلّ واحدٍ في هذه اللحظة بفقره، وليقُل: ”هل أنت تحبّني بفقري الرّوحي هذا، وبمحدوديّاتي هذه؟“. وهو يبتسم ويجعلنا نفهم أنّه يحبّنا وأنّه بذل حياته من أجلنا. لنفكّر قليلاً في محدوديّاتنا، وفي الأمور الجيّدة أيضًا: هو يحبّنا كما نحن، كما نحن الآن. هو يريد أن يمنحك الفرصة لتملك في الحياة، إن استسلمت لحبّه الوديع الذي يعرضه عليك ولا يفرضه – محبّة الله لا تُفرض أبدًا -، لحبّه الذي يغفر لك دائمًا. أحيانًا نحن نتعب من أن نغفر للنّاس، فنرسم عليهم إشارة الصّليب، ونقوم بدفنهم اجتماعيًّا. بينما هو لا يتعب أبدًا من أن يغفر، أبدًا، ويوقفك دائمًا على قدميك، ويعيد لك دائمًا كرامتك. نَعَم، من أين يأتي الخلاص؟ يأتي بأن نسمح لأنفسنا بأن يحبّنا، لأنّنا بهذه الطريقة فقط يمكننا أن نتحرّر من عبوديّة ”الأنا“، ومن الخوف من أن نكون وحدنا، ومن التّفكير في أنّنا لا نستطيع القيام بذلك. أيّها الإخوة والأخوات، لنضع أنفسنا مرارًا أمام الصّليب، ولنتركه يحبّنا، لأنّ هاتَين الذراعَين المفتوحتَين تفتح لنا الفردوس أيضًا، كما حدث مع ”لص اليمين“. لنصغِ إلى هذه العبارة الموجّهة إلينا، وهي العبارة الوحيدة التي قالها يسوع اليوم من على الصّليب: “سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس” (لوقا 23، 43). هذا ما يريد الله وما يريد أن يقوله لنا، لنا كلّنا، في كلّ مرّة نسمح له بأن ينظر إلينا. ثمّ نفهم أنّه ليس لدينا إله مجهول موجود فوق في السّماء، إله قدير وبعيد، لا، بل لدينا إله قريب، والقُرب هو أسلوب الله: القُرب بحنان ورحمة. هذا هو أسلوب الله، وليس لديه أسلوب آخر. إنّه قريب ورحيم وحنون. حنون ورحيم، تلاطفنا وتعزينا ذراعَاه المفتوحتَان. هذا هو ملكنا!
أيّها الإخوة والأخوات، بعد أن نظرنا إليه، ماذا يمكننا أن نعمل؟ الإنجيل يقدّم لنا اليوم طريقَين. أمام يسوع هناك من يقوم بدور المتفرّج أو من يقوم بدور المُشارك. المتفرّجون كثيرون، وهم الأغلبيّة. هُم ينظرون، إنّه عرض مدهش أن نرى أحدًا يموت على الصّليب. في الواقع – قال النصّ – “وقَفَ الشَّعْبُ هُناكَ يَنظُر” (الآية 35). لم يكونوا أناسًا سيّئين، وكثيرون منهم كانوا مؤمنين، لكنّهم بَقُوا متفرّجين عندما رَأُوا المصلوب: لم يَخطُوا خطوة إلى الأمام نحو يسوع، بل نظروا إليه من بعيد، مُستغربين وغير مُبالين، ومن دون أن يهتمّوا حقًّا، ومن دون أن يسألوا أنفسهم ماذا يمكنهم أن يفعلوا. قد يكونون علّقوا على الحدث، قائلين: ”انظر إلى هذا…“، وعبّروا عن أحكامهم وآرائهم، قائلين: ”إنّه بريء، انظر إلى هذا…“، وقد يكون أحدٌ منهم تذمّر أو شكا، لكن كلّهم بَقُوا واقفين ينظرون مكتوفي الأيدي. وبالقرب من الصّليب أيضًا هناك متفرّجون: قادة الشّعب، الذين أرادوا أن يشاهدوا العرض المروّع لنهاية المسيح المهزوم، والجنود الذين كانوا يأملون أن تنتهي عمليّة الصّلب بسرعة، لكي يذهبوا إلى بيوتهم، وأَحَد المجرمَين الذي أفرغ غضبه على يسوع. هَزِؤا به وأهانوه وأشبعوا سخطهم.
وكلّ هؤلاء المتفرّجين يكررِّون في ما بينهم “لازمة”، كرّرها النصّ ثلاث مرّات: “إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ” (راجع الآيات 35. 37. 39). أهانوه بهذه الطّريقة وتحدّوه! خَلِّصْ نَفْسَكَ، وهو عكس ما فعله يسوع تمامًا، الذي لم يفكّر في نفسه، بل في أن يخلّصهم، هُم الذين أهانوه. لكن عبارة خَلِّصْ نَفْسَكَ مُعدية: من القادة إلى الجنود وإلى النّاس، وصلت موجة الشّرّ إلى الجميع تقريبًا. لنفكّر أنّ الشّرّ معدٍ، وهو يعدينا: مثلما يحدث عندما نصاب بمرضٍ معدٍ، فهو يُعدينا مباشرة. وهؤلاء النّاس كانوا يتكلّمون على يسوع، لكنّهم لا يشعرون معه ولا حتّى لحظة واحدة. كانوا يأخذون مسافة منه ويتكلّمون. إنّها عدوى اللامبالاة القاتلة. اللامبالاة مرض سيّء. قد يقول قائلٌ: ”هذا الأمر لا يعنيني، لا يعنيني“. اللامبالاة تجاه يسوع واللامبالاة أيضًا تجاه المرضى، والفقراء، ومساكين الأرض. أُحبُّ أن أسأل النّاس، وأن أسأل كلّ واحدٍ منكم، وأعلم أنّ كلّ واحدٍ منكم يعطي صدقة للفقراء، وأنا أسألكم: ”عندما تعطي الصّدقة إلى الفقراء، هل تنظر في أعينهم؟ هل أنت قادر على أن تنظر في عَينَي ذلك الفقير أو تلك الفقيرة الذي يطلب منك الصّدقة؟ عندما تعطي الصّدقة إلى الفقراء، هل ترمي لهم النّقود أم تلمس أيديهم؟ هل أنت قادر على أن تلمس البؤس الإنساني؟“. ثمّ، لِيُعطِ كلّ واحدٍ الجواب لنفسه اليوم. هؤلاء النّاس كانوا في اللامبالاة. هؤلاء النّاس كانوا يتكلّمون على يسوع، لكنّهم لا يشعرون مع يسوع. وهذه هي عدوى اللامبالاة القاتلة: التي تخلق المسافات مع البؤس. موجة الشّرّ تنتشر دائمًا على هذا النحو: تبدأ بالابتعاد، ثمّ ننظر دون أن نفعل أيّ شيء، ثمّ عدم الاهتمام، ثمّ نفكّر فقط في ما يهمّنا، ونتعوّد أن نَلتَفِت إلى الجانب الآخر. إنّه خطر على إيماننا أيضًا، الذي قد يذبل إن بقي نظريّة ولم يصبح ممارسة، وإن لم يكن هناك إشراك للآخرين، وإن لم نبذل أنفسنا أوّلًا، وإن لم نلتزم. وهكذا نصير مسيحيّين بطعم ماء الورد – مثلما سمعته يُقال في بلدي -، يقولون إنّهم يؤمنون بالله ويريدون السّلام، لكنّهم لا يصلّون ولا يهتمّون بالقريب، وأيضًا، لا يهمّهم الله، ولا السّلام. هؤلاء هم مسيحيّون بالكلام فقط، وهم سطحيّون!
هذه كانت الموجة السيّئة، التي كانت هناك في الجُلجُثَة. هناك أيضًا موجة الخير الصّالحة. من بين المتفرّجين الكثيرين، واحدٌ اشترك، هو، ”لصّ اليمين“. ضَحِكَ الآخرون على الرّبّ يسوع، بينما هو كلّمه ودعاه باسمه: ”يسوع“. ألقى الكثيرون غضبهم على يسوع، أمّا هو فاعترف بأخطائه إلى المسيح. قال له الكثيرون ”خَلِّصْ نَفْسَكَ“، أمّا هو فصلّى قائلًا: “أُذكُرْني يا يسوع” (الآية 42). طلب هذا فقط من الرّبّ يسوع. إنّها صلاة جميلة. إن ردّدها كلّ واحدٍ منّا، كلّ يوم، ستكون طريقًا جيّدًا: طريقًا إلى القداسة: ”أُذكُرْني يا يسوع“. وهكذا أصبح المجرم أوّل قدّيس: اقترب من يسوع للحظة، فأبقاه الرّبّ يسوع معه إلى الأبد. الآن يتكلّم الإنجيل على لصّ اليمين، لكي يدعونا لأن نتغلّب على الشّرّ ونتوقّف عن أن نبقى متفرّجين. من فضلكم، اللامبالاة هي أسوأ من أن نعمل الشّرّ. من أين نبدأ؟ من الثّقة، ولننادِ الله باسمه، كما فعل لصّ اليمين، الذي وجد من جديد في نهاية حياته، ثقة الأطفال الشّجاعة، الذين يثقون ويسألون ويُصرّون. وبثقة اعترف بأخطائه، وبكى، لا على نفسه، بل أمام الرّبّ يسوع. ونحن، هل لدينا هذه الثّقة، وهل نقدّم ليسوع ما في داخلنا، أم نضع القناع أمام الله، ربّما بقليلٍ من التعبد والبخّور؟ من فضلكم، لا نعمل روحانيّة التنكّر: إنّها مُملّة. أمام الله: علينا أن نستخدم الماء والصّابون، فقط، من دون تنكّر، بل النّفس هكذا كما هي. ومن هناك يأتي الخلاص. مَن تعلّم الثّقة، مثل لصّ اليمين، تعلّم الشّفاعة، وتعلّم أن يقدّم لله ما يراه، وآلام العالم، والأشخاص الذين يقابلهم، وقال مثل لص اليمين: ”اذكرني يا ربّ!“. نحن لسنا في هذا العالم لنخلّص أنفسنا فقط، لا، بل لنحمل الإخوة والأخوات إلى عناق الملك. لنتشفّع، ولنذكّر الرّبّ يسوع بأن يفتح أبواب الفردوس. لكن نحن، عندما نصلّي، هل نتشفّع؟ ونقول: ”أيّها الرّبّ يسوع، اذكرني، واذكر عائلتي، واذكر هذه المشكلة، واذكر، واذكر…“ ونُلفت انتباه الرّبّ يسوع.
أيّها الإخوة والأخوات، اليوم ملكنا من على الصّليب ينظر إلينا بذراعَين مفتوحتَين. علينا نحن أن نختار أن نكون إمّا متفرّجين أو مشاركين. هل أنا متفرّج، أم أريد أن أكون مُشاركًا؟ نحن نرى أزمات اليوم، وتدهور الإيمان، وقلّة المشاركة… ماذا نفعل؟ هل نكتفي بأن نُطلق النظريّات، والانتقادات، أم نشمّر عن سواعدنا، ونأخذ حياتنا وقدرنا بيدنا، وننتقل من ”لو“ ومن الاعتذارات إلى قول ”نَعم“ وإلى الصّلاة والخدمة؟ كلّنا نفكّر أنّنا نعرف ما هو الأمر الذي لا يسير على ما يرام في المجتمع، كلّنا، ونتكلّم كلّ يوم على ما الذي لا يسير على ما يرام في العالم، وفي الكنيسة أيضًا: أمورٌ كثيرة لا تسير على ما يرام في الكنيسة. ولكن، بعد ذلك، هل نفعل شيئًا؟ هل نوسّخ أيدينا مثل إلهنا الذي سُمِّرَ على الخشبة، أم نقف وننظر وأيدينا في جيوبنا؟ اليوم، بينما يسوع، عاريًا على الصّليب، يزيل كلّ حجاب عن الله ويدمّر كلّ صورة زائفة عن ملوكيّته، لننظر إليه، حتّى نجد الشّجاعة لكي ننظر إلى أنفسنا، ولكي نسير في طُرُقِ الثّقة والشّفاعة، ونصير خدّامًا لكي نملك معه. لنقُل هذه الصّلاة مرارًا: ”اذكرني يا ربّ، اذكرني!“. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana