في مقالنا السابق، تناولنا الحياة الرهبانيّة والنسكيّة في الشرق كما طرحنا مسألة الحياة الرهبانيّة وقيامها والمرحلة التكوينية لها. وقد سبق وأن أوردناتأتتبابل أننا نجد في القرن الرابع فقط بعض المؤمنين يجتمعون بطريقةٍ ثابتة ليعملوا معاً للبلوغ إلى الكمال الرهباني. فنرى من ذلك أن الحياة الرهبانية الجماعية تعقب حياة النسك والتوحّد. وكان أول من شجّع الحياة الرهبانية الجماعية القديس انطونيوس الكبير. فالنساك المصريون الذين تمركزوا في البرية كانوا يعيشون حياة الوحدة. أما في هذا المقال، فسنتطرّق إلى الحياة النسكيّة في الغرب.
قليلة في الواقع هي الوثائق التي تتكلّم عن الحياة النسكية في الغرب قبل منتصف القرن الرابع، بينما كانت مزدهرة في الشرق. وما لبث أن تُرجم كتاب القدّيس أثناسيوس عن حياة القديس أنطونيوس لأجل مسيحيّي الغرب بسرعة إلى اللاتينيّة. ولكن، يورد بعض الباحثين بإمكانيّة نموّ الحياة النسكيّة في الغرب بمعزل عن أي تأثير من الشرق، إلا أن ما يميّز الزهّاد الأوّلين في الغرب هو أنهم يفضلون العيش في جماعة على عيش حياةٍ توحّديّة منفصلة عن العالم. ومع أنّنا لا نقول بيقينٍ إن الحياة الرهبانية في الغرب كانت استيرادًا صرفًا من الشرق، فإنّ تطوّر الجماعات الرهبانيّة النسكيّة في الغرب تأثّرت تأثّرًا شديدًا وطوال القرنين الرابع والخامس، بالترهّب النسكي الشرقيّ.
نعرف من خلال كتابات القديس هيرونيموس (+380) أن اسم “راهب” يعتبر إزدراءًا، ربّما بسبب بعض الزهّاد الذين كانوا مواهبيّين بطريقةٍ مفرطة، ولم يلتزموا بالنظام. وتكلّم في الوقت نفسه إيجابًا على الحياة النسكية بسبب مرافقته الروحيّة كمرشد لبعض الفتيات في روما. وبالرغم من بعض المعارضة لحركة الزهد، شجّع القديس هذا النمط من الحياة طوال سنواته الثلاث في روما.
أما القديس بولينوس أسقف نولا (+431م)، والذي توفي إبنه الوحيد وهو طفل، فقرَّر هو وزوجته التقية تيرازيا أن يكرسا حياتهما في الزهد والتعفّف والصلاة. وفي نابولي، نظّما دير الأخوّة الذي ضمّ أقارب وأصدقاء، وكلّهم من الطبقة العليا. وقد أتى العديد من الأشخاص الذين كانوا نماذج للحياة النسكيّة في الغرب، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، القديس مرتينُس التوريّ (+397)، القديس هونوراتُس (+542)، القديس هيرونيمُس (+420)، والقديس كسيانُس (+435).
ثم أتى غريغوريوس الكبير الذي ولد حوالي سنة 450 م. في روما من أسرة أرستقراطية متدينة. ولربما كان تعليم غريغوريوس أفضل تعليم ممكن في روما في القرن السادس حيث نشأ ميالًا للتقوى ونبغ في المنطق والبلاغة والنحو، ودرس القانون. وفي عام 573، اختاره الإمبراطور قاضيًا للقضاة في روما. بعد فترة قصيرة توفى والده، فباع باتفاق مع والدته التي اختارت الحياة النسكية بعد ترملها ومعا إخوته ما ورثوه من ممتلكات واسعة، ووزع ثمنها على الفقراء وبالأعمال الخيرية وعبر تأسيس سبعة أديرة. استقال غريغوريوس من عمله وترهب، وازداد في التقشف إلى حد كاد يؤذيه لولا تدخل أصدقائه ليخففوا من شدته. وكان وكل ذلك ربما من أهم أسباب اعتلال صحته باقي أيام حياته. وبفضله، تمّ إرشاد الحياة الروحيّة للإكليريوس وحمايتها طوال فترة الغموض والتكيّف. وظهر تدريجيًا تجمّع الكهنة الأبرشيّين حول أسقفهم من أجل العمل الراعويّ والاحتفال بالذبيحة الإلهيّة. وتمّ التشجيع على الحياة الجماعيّة للحفاظ على التعفّف والصلاة المشتركة في حياة الكاهن. دُعي “أب الحياة الباطنية”، كتب عن البتولية، وعن اسم المسيحي وعمله، عن الكمال، حياة ماكرينا الخ.
بعد أن استعرضنا بشكل سريع أبرز الشخصيات التي أثّرت في الحياة النسكيّة في الغرب، تجدر الإشارة إلى وجود نمطان من حياة الترهّب، الرهبان الحبساء والمبشّرون الجوّالون. فالحياة المسيحّية في الغرب لمختلف الطبقات كانت تتغذّى من القدّاس، وصلوات الفرض الإلهيّة، والعظات، وقراءة الكتاب المقدّس، وتعاليم عظات آباء الكنيسة. في هذا الصدد، يقول الدوم لوكلير: “على الرغم ممّا كان ناقصًا، فإنّ الفترة كانت تكوينية حقًا ومثمرة لمسيحيّة الغرب، وتركت أثرًا نهائيًا في القرون اللاحقة”. إنطلاقًا من ما سبق نتساءل هل بإمكان مسيحيي اليوم العيش على القدّاسات وتعاليم الكنيسة والكتاب المقدّس وأن يصلوا إلى ما تصبو إليه رغبة المسيحي الحقيقي؟
لقراءة المقالة السابقة، أنقر هنا: