عُقد في العاشر من كانون الأول من العام 2022، بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، طاولة حوار في المركز الدولي لعلوم الإنسان اليونسكو بيبلوس حول “أخلاقيات وتحديات الجماعات السياسة: قراءات في كومبنديوم تعاليم الكنيسة الإجتماعي”، بحضور سيادة المطران يوسف سويف، رئيس أساقفة أبرشية طرابلس المارونية، وسماحة المفتي الدكتور مالك الشعّار (مفتي طرابلس والشمال سابقاً) والرئيسة العامة لراهبات العائلة المقدسة المارونية الأم ماري أنطوانيت سعادة. إنعقاد هذه الطاولة يُعدّ الأول من نوعه في لبنان والمشرق العربي، إن كان من ناحية المضمون أو الحضور. فهذه هي المرّة الأولى في لبنان التي يناقش فيها الكومبنديوم من الناحية السياسية، بهذه الطريقة وبحضور شركاء لنا في الوطن. أتينا في مقالتنا هذه لنعرض باختصار أخلاقيات العمل السياسي من النظرة المسيحيّة.
تُعرَّف كلمة السياسة لغويًا من مصدر على وزن فِعَالَة، كما أشار ابن سيده، قال: وساس الأمر سِياسة. وقبله الصاحب بن عباد والسياسة فعل السائس، والوالي يسوس رعيته، وسُوِّس فلانٌ أمر بني فلان؛ أي: كُلِّف سياستهم وبعدهما الفيروز آبادي: وسست الرعية سياسة: أُمرتها ونُهيتها. وهي مأخوذة من الفعل «ساس»، أو هو مأخوذ منها، على خلاف بين النحْويين، ومضارع الفعل «يسوس»؛ أي: إنَّ المادة واويَّة، كما نصَّ على ذلك السرقسطي. واصطلاحًا تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتعرف إجرائيًا حسب هارولد لاسويل بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا متى وكيف، أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة (ديفيد إيستون). إلى ذلك، عرّفها الشيوعيون بأنها دراسة العلاقات بين الطبقات، وعرّفها الواقعيون بأنها فن الممكن، أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيًا وليس الخطأ الشائع، وهو أن فن الممكن هو الخضوع للواقع السياسي وعدم تغييره بناء على حسابات القوة والمصلحة.
تحتاج كل جماعة بشرية الى سلطة تنظم شؤونها وتؤمن خيرها العام وتمارس العمل السياسي. تجد السلطة اساسها في صميم الطبيعة البشرية، وتخضع في الممارسة لنظام اخلاقي طَبَعه الله الخالق في قلب الانسان، اذ كونّه على صورته ومثاله. ويُعد هذا النظام بمثابة النور للعقل البشري، في ضوئه يعرف الانسان ما يجب ان يفعل من خير، وما يجب ان يتجنّب من شر .وضع الله للعالم نظاماً ليعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الارض، وينعموا بالخير والعدل. فكانت السلطة السياسية التي تطورت عبر مراحل انشائها وتكوينها وصلاحياتها. انها مدعوة دائماً لاستلهام مشيئة الله وتصميمه الخلاصي، فيكون على صاحب السلطة ان “يقضي بالبّر للشعب، وبالانصاف للضعفاء” (مز72/2). وانذر الله الملوك بلسان الانبياء، بسبب تقصيرهم وظلمهم للشعب: “ويل للذين يشترعون فرائض للاثم والظلم، ليسلبوا حق ضعفاء شعبي” (اشعيا10/1-2).
على السلطة السياسيّة إذًا أن تضمن للجماعة حياة منتظمة وقويمة لا عبر الحلول محلّ النشاط الحرّ للأفراد والجماعات، بل عبر ضبطه وتوجيهه نحو تحقيق الخير العامّ في إحترام وصون لاستقلالية أفرقاء المجتمع أفراداً وهيئات. ولا بد من التشديد على أن الشعب هو مصدر هذه السلطة، لذلك على السلطة أن تنقاد لهديِ الشريعة الأخلاقيّة، فكرامتها كلّها تنشأ عن أنّها تزاوَل في نطاق النظام الأخلاقي، “الذي يجد بدوره في الله منبعه وغايته”. وعلى هذه السلطة أن تُصدر قوانين عادلة، أي متوافقة مع كرامة الإنسان وإملاءات العقل القويم.
العمل السياسي هو “الطريق الصعب لعيش الالتزام المسيحي في خدمة الآخرين”، على ما قال البابا بولس السادس. فهو يقتضي الوحدة في حياة رجل السياسة المسيحي بحيث يجمع بين الايمان والحياة، بين الثقافة والوحي، ويتمّم واجباته الدنيوية منقاداً لروح الانجيل”. يزخر التاريخ بوجوه سياسية مسيحية تقدّست من خلال العمل السياسي. وقد رفعت الكنيسة عدداً منهم على المذابح ومن بينهم معاصرون شهدوا لحقيقة المسيح وطبعوا الشؤون الزمنية بقيم الانجيل. ولقد اعلن البابا يوحنا بولس الثاني بارادة رسولية القديس الشهيد توماس مور Thomas More، رجل الدولة البريطاني (1478-1534)، مثالاً أعلى للمسؤولين عن الحكومات وأهل السياسة، بسبب حياته وممارسته السياسة المثالية، وبخاصة حماية حقوق الضمير الادبي، والانسجام الكامل بين الطبيعي والفائق الطبيعة، بين الايمان والاعمال.
ينبغي أن تتصف ممارسة المسيحيين للسلطة السياسية على سبيل المثال لا الحصر: الشهادة للقيم الانسانية والانجيلية المرتبطة بالنشاط السياسي. التضامن كنهج ووسيلة لتحقيق سياسة تهدف الى تنمية بشرية صحيحة بالإضافة إلى الالتزام بقضية السلام القائم على العدالة، كثمرة للنشاط السياسي، والسعي لازالة ما يعرّض السلام للخطر، وأخيرًا المصالحة والغفران وهما نقطة الانطلاق نحو مستقبل جديد أفضل. فمع المصالحة تنتهي حرب المصالح الشخصية التي هي أخطر من الحرب المسلّحة. وبالمصالحة، تُخمَد الخلافات، وتزول العداوات وتتبدّل الذهنيات. في هذا الصدد يقول البابا فرنسيس في إحدى عظاته الّتي حازت على اهتمام واسع من الصحافة العالميّة، أنّه “لا يمكن للمسيحي أن يتجاهل السياسة. على المسيحي الصالح أن يتدخّل في السياسة ويقدّم أفضل ما لديه ليسهم بإنجاح مهمّة الحاكم”. ويبقى هنا السؤال، هل نحن كمسيحيّين نقدّم النموذج الإنجيلي الذي يريده المسيح منّا أم أننا نضيّع البوصلة؟
المراجع:
كومبنديوم عقيدة الكنيسة الإجتماعية، منشورات المكتبة البولسية، ط 1، 2018، عدد 396 – 398.
فؤاد مطران، الكنيسة والعمل السياسي، 3 تموز 2017.