أربعة أشياء يبحث الإنسان دائماً عن كيّفيّة التحكم بها: الموت، الصحّة والسلطة والمال. فيبحث دائماً عن حقيقتهم، عن معرفتهم، عن الضمانات. ولأنه لا يستطيع التحكم بهم، يبحث دائماً عن الأقوى، عَنْ مَنْ يستطيع السّيطرة عليهم، على من يملك حقيقتهم. ويبني الإنسان إيمانه على هذا “القوي”، لذلك ليس هناك إنسان غير مؤمن، كل إنسان يؤمن ب”القوي”، وهذا “القوي” يختلف من إنسان إلى آخر، قد يكون الله أو العلم أو شخص ما، أو ذاته، أو فكرة، إلخ… وحسب إيمانه يكون في دائرة من الدوائر الثلاث للحياة.
الحياة تتألف من ثلاث دوائر في بعضها البعض:
– الدائرة الأصغر: وهذه الدائرة تمثل إنسان ما، أو الذات. ويُلَقّبْ الإنسان الذي يعيش بها بالأعمى. هناك كثير من الناس يعيشون في هذه الدائرة، فيكون إيمانهم كله “بإنسان ما”، تبنى حياتهم كلها على فكر “إنسان ما”. لا يتصرفون إلا حسب ما يقول “هذا الإنسان”، لا يفعلون شيء إلا بعد “الرجوع إليه”. مثلاً كالأشخاص الذين يؤمنون بالمبصرين أو غيرهم (الحبيب، رئيس الحزب،…)، يعتقدون بأن هذا الإنسان يملك الحقيقة ولا يوجد حقيقة خارج عنه، هو يملك القدرة على التحكم بالأشياء الأربعة، ولأنهم يؤمنون بهذا، يحبسون ذاتهم “داخله”. أو منهم من يعتقد بأنه هو يعرف كلّ شيء ولا يوجد حقيقة “خارج عنه” وهو القادر على التحكم بكلّ شيء، فيحبس ذاته “داخل ذاته” ويرفض أفكار كلّ الناس. الأعمى سيأتي يوم ويسقط في الحفرة ويكتشف بأنه كان مغشوش.
– الدائرة الأوسط: وهذه الدائرة تمثل “فئة ما من المجتمع”. ويُلَقّبْ الإنسان الذي يعيش بها بالمُتَعَصِّبْ. هناك كثير من الناس يعيشون في هذه الدائرة، فيكون ركيزتهم كلّها على “فئة معينة بالمجتمع”، تبنى حياتهم كلها على فكر “فئة معينة”. لا يتصّرفون إلا حَسب مَا تقوله “هذه الفئة”، لا يفعلون شيء إلا بعد الرجوع إليها. مثلاً كالإنتماء العائلي أو الحزبي أو الطائفي أو… فنسمع مثلاً بعض الناس يقولون لا خلاص لهذا الوطن إلا إذا حكم حزبي، إذا لم تستلم عائلتي الحكم فلا خلاص لهذه الضيعة، ليس هناك خلاص إلا في هذه الطائفة، كل الأحزاب على خطىء إلا حزبي. فيحبس الإنسان ذاته داخل هذه الفئة ويرفض أفكار كل الفئات الأخرى، ليس هناك حقيقة خارج عن طائفتي أو حزبي أو عائلتي، إلى درجة يدافع عن أخطائهم ويبررها ليقول دائماً بأنهم على حق…. المتعصب سيأتي يوم ويقتل ذاته ويكتشف بأنه كان يشرب سموم وليس الحياة.
– الدائرة الكبرى: وهذه الدائرة تمثل الله. ويُلَقّبْ الإنسان الذي يعيش بها بالمُتّزن والناضج والمؤمن الحقيقي. هناك كثير من الناس يعيشون في هذه الدائرة، فتكون ركيزتهم كلها على الله، تبنى حياتهم كلها على “فكر الله”. لا يتصّرفون إلا حسب ما يقوله الله، لا يفعلون شيء إلا بعد الرجوع إليه. هؤولاء يدركون بأن كل حقيقة خارج الله هي مزيفة، كل حقيقة من دون الله هي وَهِمْ. يشبه هؤولاء كأناس يعيشون في غرفة غير محدودة لا بالطول أو بالعرض، مهما أرادوا التقدم هناك دائماً مجالاً لذلك، هم المحدودون بغير المحدود أي الله، حدودهم هي اللانهاية، ومهما شربوا من هذه الحقيقة فإنها لن تتنهي أبداً، عكس تلك الدوائر التي يوماً ما تنتهي الحقيقة بها.
أخي الإنسان لا تقبل أبداً أن تكون محدود إلا بغير المحدود.
تذكر دائماً، الإنسان هو مثل وعاء يبحث دائماً على أن يملء ذاته من الحقيقة، فلا تقبل أن تملء ذاتك إلا من الينبوع الحقيقي أي الله. “الأشخاص أو الفئات” هم لا يجب أن يكونوا إلا تلك “القناة” التي يمر بها المياه (الحقيقة) من الينبوع الأساسي الذي هو الله إلى ذاتك. فلا تجعل من تلك الأشخاص أو الفئات “ينبوع” وإلا عندئذ تملء ذاتك من سموم وليس من المياه العذبة، ولا تسمح لهم أن يجعلوا ذاتهم “الينبوع في حياتك”. وكل من يقول لك: “الله يقول أما أنا أقول” يكون كافراً لأنه يجعل ذاته الينبوع، وكأن الله على خطأ وهو على حق. تذكّر مهما عظمة قوّة الإنسان وذكائه، يبقى تلك الخليقة المجبولة من تراب، تلك الخليقة المحدودة، فلا تختار المحدود بل غير المحدود. فليباركك الرب ويملء حياتك دائماً من ينبوعه. آمين.