Soeurs bénédictines © Vatican Media

هل المسيحيّة تتفلسف في الحياة الروحيّة؟ (7)

الجزء السابع من سلسلة مقالات حول الفلسفة الروحية

Share this Entry

في مقالنا السابق، تناولنا الحياة الرهبانيّة والنسكيّة في الغرب، كما طرحنا مسألة الحياة الرهبانيّة وقيامها والمرحلة التكوينية لها. أما في هذا المقال، فسنتطرّق إلى الروحانيّة البندكتيّة، المؤسَّسة على فكر القديس بنديكت نورتشا (480 – 543)، قدّسته الكنيسة الكاثوليكية كشفيع لأوروبا وللطلّاب. ولكن قبلاً، علينا خوض ببعض النقاط.

ظلّت الكنيسة في القرنين السادس والسابع تنجرف بالزخم الذي نالته من حبرّية القديس غريغوريوس الكبير. ومنح مجمع أورانج (+529) الكرسيّ الرسوليّ مكانة مرموقة، وأكّد سلطة القديس أوغسطينُس العقائديّة. وبواكير هذه السلطة كتابات بوثيوس Boethius (توفي عام 524) التي ساعدت في إنتشار العقيدىة الأوغسطنيّة. ومع ذلك، كان التأثير السائد والقوّة الموحِّدة هما ركيزتي الحياة الرهبانيّة، وخصوصًا الترهّب البندكتيّ.

في طليطلة بإسبانيا، اعتنقت كلّ أمّة الفيزيغوت – هم شعب من الشعوب المستطوطنة أتوا من  شمال إسبانيا – الديانة المسيحيّة، وظهر القدّيس إيزيدورس الإشبيليّ (توفي عام 636) لاهوتيًّا له تأثيره ومؤازرًا للترهّب. وفي إيطاليا، اندمج اللومبارديّون الذين اصطبغوا بالآريسيّة، تدريجيًّا مع المسيحيّة القويمة في حين أنّ الأنغلوساكسون، الذين وصلوا وثنيّين إلى إنكلترا، بدأوا  يرسلون رهبانًا مرسلين إلى القارّة في ذلك الوقت. ففي الواقع، بشّر ويلّي برورد Willi Brord البلدات المنخفضة (هولندا)، وناضل القديس بونيفافيوس St. Boniface من العام 718 حتّى استشهاده في العام 754، بمعونة رهبانٍ وراهباتٍ وإكليرس من انكلترا، لتأسيس الكنيسة في ألمانيا وإصلاح إمبراطوريّة الفرنكيّين. هذا ووعظ خليفة القديّس بونيفافيوس الإنجيل في هنغاريا والبلاد اللإسكندينافيّة.

ومع اعتلاء شارلمان العرش في العام 768، أتمّ بطريقةٍ مسالمة ما أخفق فيه من سبقوه في تحقيه بالحرب والسلب. ولم يكن هذا التوحيد تجسّدًا للإمبراطوريّة الرومانيّة القديمة، إلا أن  شارلمان نجح في جعل الشعب الرومانيّ والجرمانيّ تحت سلطة إمبراطورٍ واحدٍ، وأعطى السلطة العالميّة للكرسيّ الرسوليّ.

         نورد في ما يلي أبرز الأحداث التي حصلت  في تلك الفترة. أما عن القديس بنديكت فسيرته كالتالي: وُلِدَ “بندكتُس” لأب هو أحد نبلاء (نورشا) وهي مدينة تقع جنوب إيطاليا، وكانت له شقيقة توأم هي القديسة “سكولستيكا” التي ترهّبت أيضاً وصارت رئيسة لدير قريب من مونتي كاسين وقبل انتقالها وإعلان قداستها. عاش بندكتس طفولته وصباه في رفاهية لثراء أسرته، وكان يُعَدّ لأن يرث أملاك أبيه ويكون نبيلاً جديداً في العائلة، وقد أرسلته أسرته لدراسة الأدب والفلسفة في روما وهو في الثامنة عشر من عمره. لاحظ وقتها أن حياة الترف كانت عامل مساعد على تدليل الحواس والنَهم والميل للرذيلة التي كان يعيشها معظم أقرانه ويدعونه إليها والتي كانوا يخلطوا بينها وبين مفهوم الحب (حُبّ الرجل للمرأة) دون التفكير في إتمام سِرّ الزيجة! وبينما كان فكر بندكتس ينمو وفي طريق التعفف حتى عن الزواج من فتاة كان قد تعلَّق بها أثناء دراسته في روما، أصبحت هذه الأفكار مُلازمة لعقل  وقلب الشاب “بندكتُس” إلى أن قرر وهو في العشرين من عمره (تقريباً في عام 500م) أن يترك دراسته في روما ويترك بيت أبيه في نورشا ويذهب لبلدة نائية تسمى (إنفيده) – (أفيلي) حالياً – بحثاً عن السلام النفسي في العُزلة والهدوء.

ولا يمكن القول بأن هذا السعي للهدوء كان بقصد التحول للحياة النُسكية، لأن دعوته لم تكن قد تبلورت بعد. لذلك بحث عن أكثر الأماكن هدوءاً وهي منطقة (سوبياكو) الجبلية، وتسلق الجبل إلى أن وصل لمكان هو عبارة عن كهف عمقه 10 أقدام، والتقى بجوار الكهف مع ناسِكٍ هو القديس “رومانوس” قديس سوبياكو. سأله هذا الناسك القديس عن أسباب بحثه عن الهدوء والعزلة وبدأ يرشده لأفكار التنسُّك وبعض عادات النُسك من الإقلال في الحديث والطعام والإكثار من الصلاة وتأمل الكتاب المقدس. فتأثر بندكتس بهذه الأفكار وقرر اختبار حياة النُسك، فاستقر في كهف جبل سوبياك ولمدة ثلاث أعوام كاملة لم يكن له إتصال مع العالم. وكان مصدره الوحيد في الإرشاد وفي جلب الطعام هو القديس “رومانوس”. وخلال هذه الأعوام الثلاث نضج بندكتس ونمىَ في القامة والمعرفة، وفي نهاية العام الثالث لعزلة بندكتس بدأ ينتشر خبر وجود ناسك جديد مع القديس “رومانوس” يمتاز بالحكمة ويعيش حياة تقشفية وعزلة إختيارية تامة. فحدث أن رئيس لأحد الجماعات الديرية القريبة من جبل سوبياك وقد توفىَ، فتوسَّل نُسَّاك هذا الدير لبندكتس الناسك المُنعزل أن يصبح رئيساً لديرهم.

عَلِمَ القديس بندكتس بالروح موعد انتقاله، وإذ أصيب بإرتفاع في درجة الحرارة توفي بالفعل في الموعد الذي علمه يوم الأحد 21 مارس عام 547م في كنيسة دير مونتي كاسين وبعد تناوله الأسرار المقدسة بدقائق. كما أرادت المشيئة الإلهية أن يكون ذلك بعد انتقال توأمته القديسة سكولستيكا بأيام. هذا وكان قد اشتهر بين تلاميذه ببعض العبارات الاستغاثية ضد التجارب ومؤامرات الشرير الخطيرة على المسيرة الروحية للنُسّاك، والتي حفظها تلاميذه ودوَّنوها وتناقلوها من جيل إلى جيل وردّدوها بإيمان كما كان يفعل هو، لينالوا الحماية الإلهية من هجمات الشرير على حياتهم الروحية.

وفي مسألة تطويبه،  أعلنه طيب الذكر البابا بولس السادس طوباوياً عام 1964 فيما أعلنه القديس البابا يوحنا بولس الثاني قديساً عام 1980. ويُعد القديس بندكتس من أندَر القديسين الذين يكرَّمون ليس من الكنيسة الكاثوليكية فقط بل من الكنيسة الأنجليكانية والكنيسة الأرثودكسية في شرق أوروبا، إذ أن قوانينه الرهبانية معمول بها في الثلاث كنائس. وتعيِّد له الكنيسة الأرثودكسية في 14 مارس بينما تعيّد له الكنيسة الكاثوليكية في 21 مارس (تذكار انتقاله) وإن كانت قد نقلت الاحتفال به إلى يوم 11 يوليو ولفترة من الزمن نظراً لانغماس عيده الأصلي أي 21 مارس في أسبوع الرماد السابق للصوم الكبير حيث كان يوافق يوم 11 يوليو وذكرى انتهاء الرهبان من ترجمة كتاب قانونه لمعظم اللغات الأوروبية، إلا أن اشتهار يوم انتقاله كعيد له جعل الكنيسة الجامعة تعود لوضع عيده في التقويم القديسين يوم 21 مارس.

يتبع

لقراءة المقالة السابقة، أنقر على الرابط الآتي:

هل المسيحية تتفلسف في الحياة الروحية؟ (6)

Share this Entry

سليمان فرنجيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير