عظمة الإنسان وشقاؤه يشكّلان المفارقة التي يتمحور حولها فكر بليز باسكال ورسالته، الذي وُلِدَ قبل أربعة قرون، في 19 حزيران/يونيو 1623 في كليرمون، في أواسط فرنسا. مُذ كان طفلًا وطوال حياته كان يبحث عن الحقيقة. وبعقله، تتبّع آثارها، وما يدلّ عليها، ولا سيّما في مجال الريّاضيّات والهندسة والفيزياء والفلسفة. قام باكتشافات خارقة في سِنٍّ مبكِّرة، حتّى طار صيته. ولم يتوقَّف عند هذا الحدّ. في قَرنٍ تمَّ فيه تقدّم كبير في مجال العِلم، رافقه روحٌ متزايدة من التّشكيك الفلسفيّ والدّيني، أظهر بليز باسكال نفسه باحثًا عن الحقيقة لا يعرف الكلل، الذي يبقى دائمًا ”قلقًا“، تَجذِبُه آفاق بعيدة جديدة.
هذا العقل الحَادّ جدًّا والمنفتح في الوقت نفسه، لم يُسكت قطّ في نفسه السّؤال القديم والجديد دائمًا، الذي يتردّد في النَّفس البشريّة: “ما الإنْسانُ حَتَّى تَذكُرَه، وابنُ آدَمَ حَتَّى تَفتَقِدَه؟” (المزامير 8، 5). هذا السّؤال مطبوع في قلب كلّ كائن بشريّ، في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ حضارة ولغة، وفي كلّ دين. تساءل باسكال: “ما هو الإنسان في الطّبيعة؟ وأجاب: هو لا شيء أمام اللامتناهي، وهو كلّ شيء أمام اللا شيء” [1] . وفي الوقت نفسه السّؤال موجود هناك، في ذلك المزمور، وفي قلب قصّة الحبّ بين الله وشعبه، القصّة التي تحقّقت في جسد ”ابن الإنسان“ يسوع المسيح، الذي أعطانا إيّاه الآب حتّى تخلّى عنه لكي يكلّله بالمجد والكرامة فوق كلّ مخلوق (راجع الآية 6). أمام هذا السّؤال، المطروح بلغة تختلف كثيرًا عن لغة الرّياضيّات والهندسة، لم يُغلِق باسكال نفسه قطّ.
على هذا، أعتقد أنّه يمكننا أن نرى فيه باحثًا في الأعماق، ويمكن أقول إنّ فيه ”انفتاحًا مذهلًا على الواقع“. انفتاح على سائر أبعاد المعرفة والوجود، وانفتاح على الآخرين، وانفتاح على المجتمع. هو الذي أنشأ، على سبيل المثال، سنة 1661، في باريس، أوّل شبكة مواصلات عامّة في التّاريخ، ”العربات ذات الاتّجاهات الخمسة“. أذكر هذا في بداية هذه الرّسالة لأقول، إنّ باسكال، بعد اهتدائه إلى المسيح، ولا سيّما بعد ”ليلة النّار“ في 23 تشرين الثّاني/نوفمبر 1654، ومع جهده الفكريّ الخارق للدّفاع عن إيمانه المسيحيّ، لم يكن إنسانًا منقطعًا عن شؤون عصره. بل كان متنبِّهًا لأهمّ قضايا أهل زمانه، بما فيها الاحتياجات الماديّة لجميع مكوِّنات المجتمع الذي كان يعيش فيه.
الانفتاح على الواقع يعني له عدم الانغلاق على الآخرين، ولا حتّى في فترة مرضه الأخير. في تلك الفترة، عندما كان في التّاسعة والثّلاثين من عمره، نُقِلَتْ عنه هذه الكلمات التي تعبِّر عن الخطوة الأخيرة في مسيرته الإنجيليّة: “إنْ صَدَقَ الأطباء، وسَمَحَ لي الله بأن أتعافى من هذا المرض، فأنا عازم على ألّا يكون لي أيُّ عمل أو أيُّ مسعَى، في بقيّة حياتي، سوى خدمة الفقراء” [2] . إنّه لأمر مؤثّر أن نرى مفكِّرًا كبيرًا مثل بليز باسكال، لا يفكِّر في أيّامه الأخيرة في أمرٍ أهمَّ من أن يبذل كلّ طاقته في أعمال الرّحمة: “الهدف الوحيد للكتاب المقدّس هو المحبّة” [3] .
لذلك، يَسُرُّني أنْ أتاحت لي العناية الإلهيّة هذه الفرصة، في الذّكرى المئويّة الرابعة لميلاده، لأن أُظهِرَ ما يوجد في فكره وفي حياته، ما يبدو لي أنّه يحفِّز للمسيحيّين في عصرنا وجميع معاصرينا ذوي النّوايا الحسنة، للبحث عن السّعادة الحقيقيّة: “كلّ النّاس، بدون استثناء، يريدون أن يكونوا سعداء، مهما اختلفت الوسائل التي يستخدمونها. الجميع يريدون أن يصِلوا إلى هذا الهدف” [4] . بعد أربعة قرون بعد ولادته، يبقى لنا باسكال رفيق درب، يرافقنا في بحثنا عن السّعادة الحقيقيّة، ويرافق، وفقًا لهبة الإيمان، اعترافنا المتواضع، والمليئ بالفرح، بيسوع القائم من بين الأموات.
عاشق للمسيح يخاطب الجميع
إذا استطاع بليز باسكال أن يؤثّر بكلامه في الجميع، فهذا لأنّه تكلّم عن وضع الإنسان بصورة عجيبة. ومع ذلك، من الخطإ أن ترى فيه فقط متخصِّصًا في الأخلاق البشريّة، مهما كانت عبقريّته. الأثر الكبير الذي تركه، أي ”الأفكار“، والتي بقي منها بعض الأقوال الشّهيرة، لا يمكن أن تُفهَم حقًّا، إن جَهَلْنا أنّ يسوع المسيح والكتاب المقدّس هما جوهرها ومفتاح فهمها. إذا أراد باسكال أن يتحدّث عن الإنسان وعن الله، فذلك لأنّه توصّل إلى اليقين بأنّنا “ليس فقط، لا نعرف الله إلّا بيسوع المسيح، بل ولا نعرف أنفسنا أيضًا إلّا بيسوع المسيح. وإنّا لا نعرف الحياة والموت إلّا بيسوع المسيح. من دون يسوع المسيح، لا نعرف ما هي حياتنا ولا ما هو موتنا، ولا نعرف الله ولا أنفسنا. لذلك بدون الكتاب المقدّس، الذي موضوعه هو يسوع المسيح فقط، لا نعرف شيئًا ولا نرى سوى الظّلام” [5] . هذا الإثبات القاطع يحتاج إلى مزيد من الإيضاح، إن أردنا أن يفهمه الجميع، فلا يُعتبَر إثباتًا عقائديًّا لا يمكن أن يصل إليه الذين لا يشاركون في إيمان الكنيسة، ولا انحدارًا بكفاءات العقل الطّبيعي المشروعة.
الايمان والمحبّة والحرّيّة
يجب علينا، كمسيحيّين، أن نتجنَّبَ التّجربة التي تحملنا على تقديم إيماننا بمثابة يقين لا جدال فيه مفروض على الجميع. من المؤكّد أنّ باسكال كان حريصًا على أن يعلن لجميع النّاس أنّ “الله والحقيقة لا ينفصلان” [6] . لكنّه كان يعلَم أنّ المؤمن يعمل فقط بنعمة الله، التي يقبلها في قلب حرّ. فبالإيمان التقى هو، شخصيًّا مع “إله إبراهيم، وإله إسحق، وإله يعقوب، وليس مع إله الفلاسفة والعلماء” [7] ، وأدرك أنّ يسوع المسيح هو “الطّريق والحقّ والحياة” (يوحنّا 14، 6). لهذا أقترح على كلّ الذين يريدون الاستمرار في البحث عن الحقيقة – وهي مهمّة لا نهاية لها في هذه الحياة – أن يستمعوا إلى بليز باسكال، وهو رجل صاحب ذكاء خارق، أراد أن يذكِّر أنّه لا توجد حقيقة جديرة بالاهتمام، خارج مساعي الحبّ: “قد نصنع من الحقيقة نفسها صنمًا، لأنّ الحقيقة خارج المحبّة ليست الله، هي صورته، وهي صنم يجب ألّا نحبَّه ولا نسجد له” [8] .
وهكذا يحمينا باسكال من التّعاليم الكاذبة أو الخرافات أو السّلوك المتحرِّر الذي يُبعد الكثيرين عن السّلام والفرح الباقي، سلام وفرح الذي يريدنا أن نختار ”الحياة والخَير“ وليس ”الموت والشَّرّ“ (تثنية الاشتِراع 30، 15. 19). لكن مأساة حياتنا هي أنّنا لا نرى أحيانًا الرّؤية الصّحيحة، ومن ثَمَّ فإننا نُسِيءُ الاختيار. في الواقع، لا يمكننا أن نتذوَّق سعادة الإنجيل إلّا “إذا غمَرَنا الرّوح القدس بكلّ قدرته، وحرَّرنا من ضعف الأنانيّة، ومن الخمول، ومن الكبرياء” [9] . علاوة على ذلك، “بدون حكمة التّمييز، يمكن أن نصير بسهولة ألعوبة بين نزعات اللحظة” [10] . لهذا فإنّ ذكاء بليز باسكال وإيمانه الحيّ، الذي أراد أن يُظهر لنا أنّ الدّين المسيحيّ “جليل لأنّه يعرف الإنسان جيّدًا” و”محبوب لأنّه يَعِدُ بالخير الحقيقي” [11] ، يمكن أن يساعدنا في التّقدّم عبر الظلام وعبر شدائد هذا العالم.
عقل علميّ خارق
توفّيت والدته سنة 1626، وكان بليز باسكال في الثّالثة من عمره. كان والده إتيان (Etienne)، رجل قانون شهير، عُرِف أيضًا بمهاراته العلميّة الكبيرة، لا سيّما في الرّياضيّات والهندسة. عزم إتيان على القيام بنفسه بتربية أبنائه الثّلاثة: جاكلين وبليز وجيلبيرت (Jacqueline, Blaise, Gilberte). فاستقرّ في باريس سنة 1632. وأظهر بليز في وقت مبكِّر جدًّا عقلًا خارقًا وتشدُّدًا في البحث عن الحقيقة، كما تقول أخته جيلبيرت: “منذ مرحلة الطّفولة، كان لا يقبل إلّا بما يبدو واضحًا. وعندما لم يبيِّنوا له السّبب، كان يبحث عنه هو بنفسه” [12] . فاجأ الأب ابنه يومًا وهو يقوم بأبحاث هندسيّة، وسرعان ما أدرك أنّ ابنه، دون أن يعرف أنّ هذه النّظريّات موجودة في كتب تحت أسماء أخرى، كان بليز، البالغ من العمر 12 سنة، قد عرفها بمفرده، وكان يرسمها في التّراب، وهي الفرضيّات الاثنتان والثّلاثون لإقليدس [13] . وتذكّرت جيلبيرت أنّ والدها “أصيب بالفزع أمام عظمة ومقدرة هذه العبقريّة” [14] .
في السّنوات التّالية، بذل بليز باسكال كلّ طاقته في العمل لكي يطوِّر موهبته الفريدة. منذ سنّ السّابعة عشرة، أخذ يتردّد على كبار العلماء في عصره. ثمّ تتابعت الاكتشافات والمنشورات بسرعة كبيرة. سنة 1642، كان عمره تسعة عشر سنة، اخترع آلة حاسبة، هي أولى آلاتنا الحاسبة. ما يحفِّزنا في بليز باسكال هو أنّه يذكِّرنا بعظمة العقل البشري، ويدعونا إلى استخدامه لفكّ رموز العالم من حولنا. روح الهندسة فيه، منحته قدرة على الفهم الكامل لكيفيّة عمل دقائق الأشياء، ستفيده طوال حياته، كما أشار إلى ذلك اللاهوتيّ الشّهير، هانز أورس فون بالتازار: “بفضل دقّة الهندسة والعلوم الطّبيعيّة، استطاع أن يبلغ عِلمًا مختلفًا تمامًا، في مجال الوجود والحياة المسيحيّة” [15] . موقفه الواثق من العقل الطّبيعي، جعله متضامنًا مع جميع إخوته البشر الباحثين عن الحقيقة، وسيسمح له بالاعتراف بحدود العقل نفسه، وفي الوقت نفسه، بالانفتاح على العلل الفائقة الطّبيعة التي نجدها في الوحي. بحسب منطق المفارقات الذي هو السّمة المميّزة في فلسفته والسّحر الخاصّ في ”أفكاره“. يقول: “واجهت الكنيسة صعوبة في إثبات أنّ يسوع المسيح هو إنسان، أمام الذين كانوا ينكرون ذلك، كما واجهت صعوبة في إثبات أنّه إله. وكانت المظاهر رائعة أيضًا” [16] .
الفلاسفة
كتابات كثيرة لباسكال لها طابع فلسفي، ولا سيّما ”الأفكار“، وهي مجموعة منشورة بعد موته، وهي ملاحظات أو مسودّات فيلسوف كان يحمل في فكره مشروعًا لاهوتيًّا، ويسعى البحَّاثة اليوم، ولو بطرق مختلفة، لإعادة تنظيمه وإظهار انسجامه الأصلي. لم يكن حبّه الهائم بالمسيح وخدمة الفقراء، الذين ذكرتهم في البداية، علامة قطيعة في روح هذا التّلميذ الجريء، بل كان يتعمَّق ويسير نحو راديكاليّة الإنجيل، ويتقدّم نحو حقيقة المسيح الحيّة، بمعونة النّعمة. كان إيمانه يرتكز على يقين فائق الطّبيعة، وكان يراه متطابقًا مع العقل، ولو كان يفوقه إلى ما لا نهاية. وقد أراد أن يدفع المناقشة إلى أقصى حدّ ممكن مع الذين لم يشاركوه إيمانه، لأنّ “الذين ليس لديهم الإيمان، لا يمكننا أن نعطيهم إيّاه إلّا عن طريق العقل، ثمّ ننتظر أن يعطيه الله لهم بمشاعر القلب” [17] . إنّها طريقة من البشارة مليئة بالاحترام والصّبر، ويحسن لجيلنا أن يأخذ بها.
لذلك، من أجل فهم خطاب باسكال عن المسيحيّة فهمًا كاملًا، لا بدّ من الانتباه إلى فلسفته. كان مُعجَبًا بحكمة الفلاسفة اليونانيّين القدماء، الذين استطاعوا أن يجدوا في البساطة والهدوء فنّ العيش، كأعضاء في مدينة: “قد نتخيّل أفلاطون وأرسطو وهما يرتديان جلباب العِلم ويتباهَيان. لكنّهم، كانوا أناسًا مستقيمين مثل الآخرين، يضحكون مع أصدقائهم. وعندما استمتعوا بوضع الشّرائع والسّياسة، (أي المؤلّفات الكبرى التي هي الشّرائع لأفلاطون، والسّياسة لأرسطو)، قاموا بذلك وهم يستمتعون. كانت تلك أقلّ المؤلّفات فلسفة، وأقلّها خطورة في حياتهم. الفلسفة الكبرى هي العيش ببساطة وهدوء” [18] . على الرّغم من عظمة الفلسفة وفائدتها، ميَّزَ باسكال بين حدود الفلسفات: فالرواقيّة تؤدّي إلى الكبرياء [19] ، والتّشكيك إلى اليأس [20] . والعقل البشري هو بلا شك أعجوبة الخلق، وهو يميِّز الإنسان بين جميع المخلوقات، لأنّ “الإنسان ليس إلّا قصبة، أضعف ما في الطّبيعة، ولكنّه قصبة تفكِّر” [21] . ونفهم بهذا أنّ حدود الفلاسفة هي ببساطة حدود العقل المخلوق. يقول ديموقريطس: “سأتكلَّم على كلّ شيء” [22] ، لكن العقل وحده لا يستطيع حلَّ أسمى القضايا، وأكثرها إلحاحًا. وما هو أهمّ موضوع لنا، في زمن باسكال وكذلك اليوم؟ إنّه المعنى الكامل لمصيرنا ولحياتنا وأملنا، وهي سعادة لا شيء يمنع من أن نتصوّر أنّها أبديّة، لكن الله وحده هو المخوَّل بإعطائها: “لا شيء أهمُّ للإنسان من حالته. ولا شيء يخيفه مثل الأبديّة” [23] .
إذا تأمّلنا في ”الأفكار“ لباسكال، نجد نوعًا ما، هذا المبدأ الأساسيّ: “الواقع أوّلًا، ثمّ الفكرة”، لأنّ باسكال يعلِّمنا أن نبتعد عن “مختلف الطّرق التي نسعى بها لإخفاء الواقع”، من المواقف “الملائكيّة”، خارج الجسد، إلى مواقف “العقل غير الحكيمة” [24] . لا شيء أخطر من فكرة بلا واقع: “من يريد أن يظهر مثل ملاك، قد يصير مثل الحيوان” [25] . والأيديولوجيّات القتَّالة التي ما زلنا نعاني منها في المجالات الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة أو الأنثروبولوجيّة أو الأخلاقيّة تحجز أتباعها في ملفَّات من العقائد، حيث حلَّت الفكرة محلّ الواقع.
الوضع البشريّ
تصدر فلسفة باسكال، التي عبَّر عنها في أسلوب المفارقات، عن نظرة متواضعة واضحة، تحاول أن تصل إلى “الواقع الذي ينيره العقل” [26] . يبدأ من الملاحظة أنّ الإنسان هو مثل غريب عن نفسه، وهو كبير وبائس. كبير بعقله، بقدرته على ترويض أهوائه، كبير حتّى “لأنّه يعرف أنّه بائس” [27] . وخصوصًا أنّه يطمح إلى أكثر من إشباع غرائزه أو مقاومتها، “لأنّ ما هو طبيعي في الحيوان، نسمّيه شقاء في الإنسان” [28] . هناك تفاوت لا يطاق، من جهة، بين إرادتنا اللامحدودة لنكون سعداء ولنعرف الحقيقة، ومن جهة أخرى، بين عقلنا المحدود وضعفنا المادّي الذي ينتهي بالموت. تكمن قوّة باسكال في واقعيّة ”لا ترحم“: “لا نحتاج إلى كثير من الارتفاع في النّفس، لنفهم أنّه لا يوجد إشباع حقيقيّ وثابت هنا، وأنّ كلّ ملذّاتنا هي مجرّد غرور، وأنّ شرورنا لا حدّ لها، وأخيرًا، أنّ الموت الذي يهدِّدُنا في كلّ لحظة، سيضعنا بشكل محتوم، بعد سنوات قليلة، في الضّرورة الرّهيبة في فناء دائم، أو في شقاء دائم. لا شيء أكثر واقعيّة من ذلك، ولا شيء أكثر رهبة. مهما صنعنا لنظهر أقوياء، هذه هي النّهاية التي تنتظر أجمل حياة في العالم” [29] . أمام هذه المأساة، لا يقدر الإنسان أن يبقى في نفسه، لأنّ شقاءه وعدم اليقين بشأن مصيره، له أمر لا يطاق. لذلك يجب أن يتلهَّى عن نفسه، وهو أمر يعترف به باسكال: “لهذا السّبب يحبّ النّاس كثيرًا الضّوضاء والحركة” [30] . لأنّ الإنسان إن لم يبحث عمَّا يُلهِيه عن نفسه، – وكلّنا نعرف جيّدًا كيف نُلهِي أنفسنا بالعمل، والتّرفيه، والعلاقات العائليّة، أو الصّداقات، وأيضًا مع الأسف، بالرّذائل التي تحملنا عليها بعض أهوائنا -، فإنّ إنسانيّتنا تشعر بالعدم، والخذلان، وعدم الاكتفاء، والتّبعيّة، والعجز، والفراغ. [ويخرج] من أعماق النّفس، الملل، والظّلام، والحزن، والحرد، واليأس” [31] . ومع ذلك، فإنّ التّلهِّي لا يُشبِع رغبتنا الكبيرة في الحياة والسّعادة. هذا كلّنا نعرفه جيّدًا.
إذّاك، يضع باسكال فرضيّته الكبرى: “ما الذي يصرخ ويقوله لنا هذا الجشع وهذا العجز، سوى أنّه كان يومًا في الإنسان سعادة حقيقيّة، ولم يتبقَّ منها الآن سوى أثر وعلامة فارغة، يحاول عبثًا أن يملأها بكلّ ما يحيط به، ساعيًا إلى أن يجد في الأمور الغائبة ما لا يجده في الأمور الحاضرة، لكنّها جميعها غير قادرة، لأنّ هذه الهاوية التي لا حدّ لها، لا يمكن أن يملأها إلّا موضوع لا حدّ له، ولا فناء له، أعني الله نفسه” [32] . إن كان الإنسان مثل “ملك مطرود” [33] ، لا يسعى إلّا إلى استعادة عظمته المفقودة، ويرى نفسه غير قادر على ذلك، فما هو إذن؟ “أيُّ وهْم هو الإنسان، أيُّ حداثة، أيُّ وحش، أيُّ فوضى، أيُّ تناقض، أيُّ معجزة، يحكم في كلّ الأشياء، وهو دودة أرض حمقاء، مستودع الحقيقة، وهو بؤرة شكّ وضلال، مجد الكون ونفايته! من يفكِّك كلّ هذا الخلط؟” [34] . يرى باسكال، الفيلسوف، بوضوح، أنّه “بقدر النّور الذي نحصل عليه، سنكتشف بنا مزيد من العظمة في الإنسان ومزيد من الدّناءة” [35] ، وأنّه لا يمكن التّوفيق بين هذه الأضداد. لأنّ العقل البشريّ لا يستطيع أن يوفِّق بينها، ولا أن يحلَّ اللغز.
لهذا يقول باسكال إنّه يوجد إله، وإنّ الإنسان تلقَّى وحيًا إلهيًّا – كما تقول أديان كثيرة – وحيث يكون الوحي الصّحيح، فلا بدَّ من أن تكون هناك الإجابة التي ينتظرها الإنسان لحلّ التّناقضات التي تعذِّبه: “عظمة الإنسان وشقاؤه أمر واضح، فمن الضّروريّ أن يعلِّمَنا الدّين الصّحيح، ولا بدَّ من أن يكون هناك مبدأ للعظمة في الإنسان، ومبدأ للشّقاء. ولا بدَّ من أن يبيِّن لنا سبب هذه التّناقضات المذهلة” [36] . وبعد دراسة الأديان الكبرى، خَلُصَ باسكال إلى أنّه “لا يمكن لأيّ شكل من أشكال الفكر، ولا الممارسات الزّهديّة أو الصّوفيّة، أن تقدِّم لنا طريقة للفداء”، إلّا “مقياس الحقيقة الأسمى الذي هو نور النّعمة” [37] . وقال باسكال، متخيِّلًا ما يمكن أن يقوله لنا الإله الحقيقي: “عبثًا، تبحثون، أيّها النّاس، في أنفسكم، عن علاج لمآسيكم. كلّ أنواركم لا يمكنها أن تصل إلّا إلى أن تعرفوا أنّكم لا تقدرون أن تجدوا الحقيقة والخير في أنفسكم. وَعَدَكُم الفلاسفة بذلك ولم يقدروا أن يَفُوا بوعدهم. إنّهم لا يعرفون ما هو خيركم الحقيقي، ولا ما هو [وضعكم الحقيقي]” [38] .
عند وصوله إلى هذا الحدّ، فإنّ باسكال، الذي تفحّص بقوّة ذكائه النّادرة حالة الإنسان، والكتاب المقدّس، وتقليد الكنيسة، يريد أن يقدِّم نفسه، ببساطة روح الطّفولة، شاهدًا متواضعًا للإنجيل. إنّه هذا المسيحيّ الذي يريد أن يتحدّث عن يسوع المسيح إلى الذين قرّروا على عجل أنّه لا يوجد سبب كافٍ للإيمان بالحقائق المسيحيّة. وأمامهم، يَعرف باسكال بالخبرة، أن ما ورد في الوحي، لا يعارض متطلّبات العقل، بل يأتي بجواب غير مسبوق، لم يكن من الممكن أن تصل إليها أيّة فلسفة بمفردها.
الاهتداء: افتقاد الرّبّ
في 26 تشرين الثّاني/نوفمبر 1654، عرف باسكال اختبارًا صعبًا، نذكره حتّى اليوم بعبارة ”ليلة النّار“. كانت خبرة صوفيّة جعلته يسكب دموع الفرح، وكانت شديدة وحاسمة إلى حدّ أنّه سجَّلها على ورقة أرَّخها بدقّة، وسمَّاها ”الذّكرى“، ثمّ وضعها في بطانة معطفه، ولم تُكتَشَف إلّا بعد وفاته. إن كان من المستحيل معرفة طبيعة ما حدث بالضّبط في نفس باسكال في تلك الليلة، إلّا أنّه لقاء شبَّهه هو نفسه، بلقاء مماثل، أساسيّ، في كلّ تاريخ الوحي والخلاص، وهو لقاء موسى مع الله عند العُلَّيقَة المشتعلة (راجع خروج 3). إنّ لفظة “النّار” [39] ، التي أراد باسكال أن يضعها في رأس ”الذّكرى“، يدعونا، مع احترام خصوصيّة كلّ حدث، إلى اقتراح هذه المقارنة. يبدو أنّ باسكال نفسه يشير إليها إذ إنّه ذكر فورًا بعد لفظة النّار، الاسم الذي تسَمَّى به الله أمام موسى عند العُلَّيقَة: “إِلهُ إِبْراهيم وإِلهُ إِسحق وإِلهُ يَعْقوب” (خروج 3، 6. 15)، وأضاف: “لا إله الفلاسفة والعلماء. هذا اليقين. هذا اليقين. والشّعور. والفرح. والسّلام. إله يسوع المسيح”.
نعم، إلهنا هو فرح، ويشهد بليز باسكال بذلك للكنيسة كلّها، ولكلّ من يبحث عن الله: “إنّه ليس الإله المجرَّد، ولا الإله الكونيّ، كلّا. إنّه إله شخص، إنّه إله يدعو، إنّه إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. إنّه اليقين والشّعور والفرح” [40] . هذا اللقاء، الذي أكّد لباسكال “عظمة النّفس البشريّة”، غمره بفرح حيٍّ لا ينضب: “فرح، فرح، فرح، ودموع فرح”. وصار هذا الفرح الإلهيّ لباسكال مكان الاعتراف والصّلاة: “يسوع المسيح. انفصَلْتُ عنه. هرَبْتُ منه. كفَرْتُ به. وصلَبْتُه. أرجو ألّا يفصلني شيء عنه بعد اليوم” [41] . إنّه اختبارُ حُبِّ الإله الشّخصيّ، يسوع المسيح، الذي شاركنا في تاريخنا، وما زال يشاركنا في حياتنا. إنّه الاختبار الذي قاد باسكال إلى طريق الاهتداء العميق، وبالتّالي في هذا “الزّهد الشّامل والعذب” [42] ، والمعاش في المحبّة، “بالإِنسان القَديم الَّذي تُفسِدُه الشَّهَواتُ الخادِعة” (أفسُس 4، 22).
ذكّرنا القدّيس يوحنا بولس الثّاني في رسالته العامّة حول العلاقة بين الإيمان والعقل، أنّ “الفلاسفة أمثال بليز باسكال”، يتميّزون برفضهم لكلّ “غرور”، ويتّخذون موقفًا فيه “تواضع” بقدر ما فيه ”شجاعة“. وقد اختبروا أنّ “الإيمان يحرِّر العقل من الغرور” [43] . قبل ليلة 23 تشرين الثّاني/نوفمبر 1654، من الواضح أنّ باسكال “لم يكن لديه شكّ في وجود الله. وهو يَعلَم أيضًا أنّه الله هو الخير المطلق. […] ما ينقصه وما ينتظره ليس أن يعرف بل أن يقدر، ليست حقيقة بل قوّة” [44] . والآن تُعطى له هذه القوّة بالنّعمة: إنّه يشعر بالانجذاب، بيقين وفرح، إلى يسوع المسيح: “إنَّا لا نعرف الله إلّا بيسوع المسيح. بدون هذا الوسيط، ينقطع كلّ اتّصال مع الله” [45] . اكتشاف يسوع المسيح هو اكتشاف المخلّص والمحرّر الذي أحتاج إليه: “ليس هذا الإله إلّا مصلح شقائنا. لذلك لا نقدر أن نعرف الله إلّا إذا عرفنا آثامنا” [46] . مثل كلّ اهتداء حقيقيّ، كان اهتداء بليز باسكال في التّواضع، الذي ينقذنا “من الضّمير المنعزل ومن المرجعيّة الذاتيّة” [47] .
إنّ ذكاء بليز باسكال خارق العادة والقَلِق، والمليء بالسّلام والفرح أمام وَحيِ يسوع المسيح، يدعونا، حسب “نظام القلب” [48] ، إلى السّير بثقة في ضوء هذه “الأنوار السّماويّة” [49] . لأنّه إن كان إلهنا ”إلهًا مخفيًّا“ (راجع أشعيا 45، 15)، فذلك لأنّه “أراد أن يختبئ” [50] ، حتّى لا يكفَّ عقلنا، المستنير بالنّعمة، عن السّعي لاكتشافه. فبنور النّعمة إذن يمكن أن نعرفه. لكن حرّيّة الإنسان يجب أن تنفتح على النّعمة، ويسوع يعزّينا بقوله: “لو لم تجِدْني لما طلبْتَني” [51] .
نظام القلب وأسباب الإيمان
قال البابا بندكتس السّادس عشر، “لقد رفض التّقليد الكاثوليكي منذ البداية ما يسمّى بالإيمان ضدّ العقل” [52] . على هذا الصّعيد، باسكال مرتبط بشدّة بـ “ضرورة العقل مع الإيمان بالله” [53] ، ليس فقط لأنّه “لا يمكن إجبار العقل على تصديق ما يعرف أنّه خطأ” [54] ، ولكن أيضًا لأنّنا “إذا خالفنا مبادئ العقل، سيكون الدّين سخيفًا ومهزلة” [55] . أمّا إذا كان الإيمان معقولًا، فهو أيضًا هبة من الله، ولا يمكن أن يُفرَضَ فرضًا. قال باسكال بنعومة وبشيء من المزاح، مقارنًا بين الحبّ البّشري، والحبّ الذي به يعاملنا الله، قال: “لا يبرهن المرء على أنّه يجب أن يُحَبّ ببيان الأسباب، فذلك سخيف” [56] . مثل الحبّ الذي “يُعرَضُ ولا يُفرَض، كذلك حبّ الله لا يُفرَضُ أبدًا” [57] . شهد يسوع للحقّ (راجع يوحنّا 18، 37) لكنّه “لم يُرِدْ أن يفرضه بالقوّة على خصومه” [58] . لهذا السّبّب “هناك ما يكفي من النّور للذين يرغبون فقط في أن يروا، وما يكفي من الظّلمة للذين لديهم استعداد معاكس” [59] .
وينتهي به الأمر إلى القول إنّ “الإيمان يختلف عن الدّليل عليه. الدّليل بشري والايمان هبة من الله” [60] . ومن ثمَّ، من المستحيل أن نؤمن “ما لم يَعطِفْ الله بقلبنا إليه” [61] . إذا كان الإيمان من نظام أعلى من العقل، هذا لا يعني بالتّأكيد أنّه يعارضه، بل يعني أنّه يعلو فوقه إلى ما لا نهاية. لذا فإنّ قراءة أعمال باسكال لا تعني أوّلًا اكتشاف السّبّب الذي يلقي الضّوء على الإيمان، بل أن يضع القارئ نفسه في مدرسة إنسان مسيحيّ يتمتّع بقوّة عقل استثنائيّة، استطاع بها أن يفسِّر، بصورة أفضل، نظامًا وضعه الله بهبة منه فوق العقل: “المسافة غير المحدودة بين الأجساد والأرواح تمثّل المسافة غير المحدودة والتي تفوقها بدرجات كثيرة، بين الأرواح وبين المحبّة، لأنّها فائقة الطّبيعة” [62] . كان بليز باسكال عالمـًا متمرِّسًا في الهندسة، أي في عِلم الأجساد المـُلقاة في الفضاء، وكان عالم هندسة متمرِّسًا في الفلسفة، أي عِلم الأذهان المـُلقَاة في التّاريخ، فاستطاع أن يضيء بنعمة الإيمان كامل خبرته، قال: “من بين جميع الأجسام معًا، لا يمكن أن نستخرج فكرة صغيرة واحدة. هذا مستحيل لأنّ النّظام يختلف. ومن بين جميع الأجسام والأذهان لا يمكن أن نستخرج عمل محبّة حقيقيّة. هذا مستحيل لأنّ النّظام يختلف، وهو فائق للطّبيعة” [63] .
لا روح الهندسة ولا العقل الفلسفيّ تسمح للإنسان بأن يصل وحده إلى “رؤية واضحة” للعالم ولذاته. المتأمّل في تفاصيل حساباته لا يقدر أن تكون له نظرة شاملة تسمح له ”برؤية جميع المبادئ“. هذه هي حقيقة “الرّوح النّافذة”، التي يشيد باسكال بمزاياها أيضًا، لأنّه عندما يسعى المرء إلى فهم الواقع، “فإنّه يجب عليه أن يرى الشّيء كلّه، فجأة بنظرة واحدة” [64] . هذه الرّوح النّافذة هي مجال ما يرتبط بما يسمّيه باسكال ”القلب“: “نحن نعرف الحقيقة ليس فقط بالعقل ولكن أيضًا بالقلب، وبهذا النّوع من المعرفة نعرف المبادئ الأولى، وعبثًا يحاول العقل الذي لا دور له فيها، أن يعارضها” [65] . والحقائق الإلهيّة، مثل حقيقة أنّ الله الذي خلقنا هو محبّة، وأنّه أب وابن وروح قدس، وأنّه تجسّد في يسوع المسيح، الذي مات ثمّ قام من بين الأموات من أجل خلاصنا، كلّ ذلك لا يمكن إثباته بالعقل، ولكن يمكن معرفته بيقين الإيمان، ثمّ ينتقل من القلب الرّوحي إلى الرّوح العاقل، فيعترف العقل بذلك كلّه أنّه حقيقة، ويمكن أن يشرحه بدوره: “لهذا، فإنّ الذين أعطاهم الله الدّين بمشاعر القلب هم سعداء للغاية، ولهم قناعتهم المشروعة” [66] .
لم يَرضَ باسكال قطّ بالواقع أنَّ بعض إخوته البشر لا يعرفون يسوع المسيح، وليس ذلك فقط، بل يزدرون، عن كسل أو بسبب أهوائهم، أن يأخذوا الإنجيل على محمل الجدّ. لأنّ حياتهم متوقّفة على يسوع المسيح. “خلود النّفس أمر بالغ الأهميّة، وله أثر عميق فينا. يجب أن نكون عديمي الشّعور حتّى لا نكترث لنعرف أين نحن منه. […] ولهذا السّبّب، أنا أميِّز في غير المقتنعين بهذا الأمر، بين الذين يبذلون كلّ جهدهم ليعرفوا، وبين الذين يعيشون بلا مبالاة أو بدون تفكير في الأمر” [67] . نحن أنفسنا، نعلَم جيّدًا أنّنا نسعى مرارًا إلى الهرب من الموت، أو نحاول السّيطرة عليه، معتقدين أنّه يمكننا “استبعاد فكرة نهايتنا” أو “أن ننزع من الموت سلطانه، ونطرد عنَّا الخوف. لكن الإيمان المسيحيّ ليس وسيلة لطرد الخوف من الموت، بل يساعدنا لمواجهته. عاجلًا أم آجلًا، سنمُرُّ جميعًا بهذا الباب… والنّور الحقيقيّ الذي ينير سرّ الموت يأتي من قيامة المسيح” [68] . نعمة الله وحدها تسمح لقلب الإنسان بالوصول إلى مرتبة المعرفة الإلهيّة، المحبّة. هذا ما جعل أحد المفسِّرين المعاصرين الكبار لباسكال يكتب أنّ “الفكر لا ينجح أن يفكِّر مسيحيًّا إلّا إذا أدرك ما أتانا به يسوع المسيح، أي المحبّة” [69] .
باسكال والجدل والمحبّة
قبل الختام، يجب أن أذكر علاقة باسكال بالجانسينيّة. دخلت إحدى أخواته، جاكلين، الدّير في بورت رويال، في رهبنة متأثّرة جدًّا بكورنيليوس جانسين، المعروف باسم جانسينيوس. وقد كتب بحثًا بعنوان ”أغسطينس“، صدر سنة 1640. وجاء باسكال، بعد ”ليلة النّار“ ليقضي أيّام خلوة ورياضة روحيّة في دير بورت رويال، في كانون الثّاني/يناير 1655. وفي الأشهر التي تلت، قام جدل كبير، وكان قديمًا، بين اليسوعيّين و”الجانسينيّين“، الذين كانوا مرتبطين بكتاب ”أغسطينس“، وذلك في جامعة السّوربون، في باريس. تمحور الخلاف بشكل رئيسيّ حول مسألة نعمة الله، وعلاقة النّعمة بالطّبيعة البّشريّة، ولا سيّما بحرّيّة الإنسان. باسكال، على الرّغم من أنّه لم يكن ينتمي إلى جماعة بورت رويال، ولم يكن مع أيّ من الطّرفين، – سيكتب فيما بعد: “أنا وحدي […]، أنا لست من بورت رويال” [70] ، لكن كلَّفه الجانسينيّون بالدّفاع عنهم، وكانت طريقته في البلاغة لا تضاهى. قام بذلك في سنة 1656 و 1657، وأصدر سلسلة من ثماني عشرة رسالة، عُرِفت باسم Provinciales (الرّسائل الإقليميّة).
كانت بعض الأقوال المنسوبة إلى ”الجانسينيّين“ معارضة فعلًا للإيمان [71] ، وقد اعترف باسكال بذلك، وأنكر وجودها في كتاب ”أغسطينس“، وأن تتبعها جماعة بوررت رويال. وكذلك بعض الإثباتات بخصوص إرادة الله السّابقة، المستمدّة من لاهوت القدّيس أغسطينس، والتي صاغها جاسينيوس، كانت لا تبدو صحيحة. ومع ذلك، يجب أن نفهم أنّه، كما أراد القدّيس أغسطينس في القرن الخامس محاربة البيلاجيّين، الذين كانوا يؤكّدون أنّ الإنسان يستطيع، بقدرته البشريّة فقط، وبدون نعمة الله، أن يصنع الخير ويَخلُص، اعتقد باسكال أيضًا صادقًا أنّه كان يهاجم البيلاجيانيّة أو شبه البيلاجيانيّة، التي اعتقد أنّه وجدها في تعاليم اليسوعيّين الميلونيّين، نسبة إلى اللاهوتي لويس مولينا، الذي توفّي سنة 1600، لكنّ تأثيره كان لا يزال كبيرًا في منتصف القرن السّابع عشر. على كلّ حال، يمكن أن نعترف، في هذه القضيّة، بفضل باسكال لصراحته وصدق نواياه.
هذه الرّسالة ليست بالتّأكيد المكان المناسب للعودة إلى فتح القضيّة. إنّما ما هو صحيح في مواقف باسكال فهو صحيح اليوم أيضًا: “البيلاجيانيّة الجديدة” [72] تقول إنّ كلّ شيء يعتمد على”الجهد البشري الذي توجّهه أحكام وبِنى كنسيّة” [73] ، ونعرف ما هي حين “تملأنا بالغرور أنّنا نصنع خلاصنا بجهودنا” [74] . والآن علينا أن نؤكّد أنّ آخر موقف لباسكال فيما يتعلّق بالنّعمة، وبعمل الله، هو: إنّ الله “يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ” (1 طيموتاوس 2، 4)، وقد عبَّر عن نفسه، في نهاية حياته، بعبارات هي مواقف كاثوليكيّة صريحة. [75]
قُلت في البداية، إنّ بليز باسكال، في نهاية حياته القصيرة والثّرية والمثمرة بشكل غير عادي، وضع حبّ إخوته في المرتبة الأولى. كان يشعر ويعرف أنّه عضو في جسد واحد، لأنّ الله “الذي خلق السّماء والأرض وهي لا تشعر بسعادة وجودها، أراد أن يصنع كائنات تعرفه وتؤلِّف أعضاء يفكِّرون” [76] . باسكال، في مكانه كمؤمن علماني، عرف فرح الإنجيل، والرّوح الذي يريد أن يخصب ويشفي “كلّ أبعاد الإنسان”، ويجمع “كلّ النّاس على مائدة الملكوت” [77] . عندما قام باسكال بتأليف صلاته المؤثّرة ليطلب من الله أن يلهمه حُسنَ استخدام المرض، سنة 1659، كان رجلًا قد حقَّق السّلام في نفسه، وترك الجدل، حتّى الدّفاع عن الإيمان. ولمَّا اشتدَّ عليه المرض، وأشرف على الموت، طلب القربان الأقدس، ولم يتِمَّ له ذلك على الفور، فقال لأخته: “لا أستطيع أن أتّحد بالرأس [يسوع المسيح]، فأوَدُّ أن أتّحد بالأعضاء” [78] . وكان له “رغبة كبيرة في أن يموت بصحبة الفقراء” [79] . “ومات في بساطة الطّفل” [80] ، هكذا قالوا فيه قبل موته بقليل، في 19 آب/أغسطس 1662. وبعد أن قَبِلَ الأسرار المقدّسة، كانت كلماته الأخيرة: “لا يتركني الله أبدًا” [81] .
ليكُنْ نور عمله ومثال حياته المتأصّلة في يسوع المسيح عونًا لنا لنتابع مسيرتنا حتّى النّهاية إلى الحقيقة والتّوبة والمحبّة، لأنّ حياة الإنسان قصيرة جدًّا: “فرح أبدي ويوم استعداد واحد على الأرض” [82] .
روما، بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، يوم 19 حزيران/يونيو 2023.
فرنسيس
************
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2023
[1]باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 199.
Pascal, Pensées, numérotation Lafuma, n. 199.
[2]جيلبيرت بيريي، حياة باسكال، في مجموعة المؤلّفات، لميشيل لي غيرن، 1، باريس، 1998، 91.
G. Périer, Vie de M. Pascal, in Œuvres complètes,par M. Le Guern, I, Paris, 1998, p. 91.
[3] باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 270.
[4] المرجع نفسه، رقم 148.
[5] المرجع نفسه، رقم 417.
[6]باسكال، محادثات مع لويس إسحق دي ساسي، في مجموعة المؤلّفات، لميشيل لي غيرن، 2، باريس، 2000، 90.
Pascal, Entretien avec M. de Sacy, in Œuvres complètes, par M. Le Guern, II, Paris, 2000, p. 90.
[7] باسكال، الأفكار ( الذّكرى)، بحسب ترقيم لافوما، رقم 913.
Pascal, Pensées (Mémorial), Laf., n. 913.
[8] باسكال، الأفكار ( سرّ يسوع)، بحسب ترقيم لافوما، رقم 926.
Pascal, Pensées (Le Mystère de Jésus), Laf., n. 926.
[9] الإرشاد الرّسوليّ، اِفرحوا وابتَهِجوا (19 آذار/مارس 2018)، رقم 65.
Exhort. ap., Gaudete et exsultate (19 mars 2018), n. 65.
[10] المرجع نفسه، رقم 167.
[11]باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 12.
[12]جيلبيرت بيريي، حياة باسكال، 64.
[13] راجع المرجع نفسه، 65.
[14] المرجع نفسه.
[15]باسكال، في المجد والصّليب، النّهج، 2، باريس، 1972، 78.
«Pascal», in La Gloire et la Croix, Styles, II., Paris, 1972, p. 78.
[16]باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 307.
[17] المرجع نفسه، رقم 110.
[18] المرجع نفسه، رقم 533.
[19]راجع باسكال، محادثات مع لويس إسحق دي ساسي، 98.
[20]راجع باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 208.
[21] المرجع نفسه، رقم 200.
[22] المرجع نفسه، رقم 199.
[23] المرجع نفسه، رقم 427.
[24]الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، رقم 231.
Exhort. ap.,Evangelii gaudium(24 novembre 2013),n. 231.
[25] باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 678.
[26]الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، رقم 232.
[27]باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 114.
[28] المرجع نفسه، رقم 117.
[29] المرجع نفسه، رقم 427.
[30] المرجع نفسه، رقم 136.
[31] المرجع نفسه، رقم 622.
[32] المرجع نفسه، رقم 148.
[33] المرجع نفسه، رقم 116.
[34] المرجع نفسه، رقم 131.
[35] المرجع نفسه، رقم 613.
[36] المرجع نفسه، رقم 149.
[37] هانس أورس فون بالتازار، ”باسكال“، في المجد والصّليب، 82.
H.U. von Balthasar, «Pascal», in La Gloire et la Croix, p. 82.
[38] باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 149.
[39]باسكال، الأفكار ( الذّكرى)، بحسب ترقيم لافوما، رقم 913.
[40] المقابلة العامّة، 3 حزيران/يونيو 2020.
[41] باسكال، الأفكار ( الذّكرى)، بحسب ترقيم لافوما، رقم 913.
[42] المرجع نفسه.
[43]رسالة عامّة بابويّة، الإيمان والعقل (14 أيلول/سبتمبر 1998)، رقم 76: أعمال الكرسي الرّسولي 91 (1999)، 64.
Lett. Enc.,Fides et Ratio)14 septembre 1998(, 76: AAS 91 (1999), 64.
[44] هنري جوهييه، بليز باسكال، شروحات، باريس، 1971، 44-45.
H. Gouhier, Blaise Pascal. Commentaires, Paris, 1971, p. 44-45.
[45]باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 189.
[46] المرجع نفسه.
[47]الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، رقم 8.
[48] راجع باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 298.
[49] المرجع نفسه، رقم 208.
[50] المرجع نفسه، رقم 242.
[51] باسكال، الأفكار ( سرّ يسوع)، بحسب ترقيم لافوما، رقم 919.
[52] المقابلة العامّة، 21 تشرين الثّاني/نوفمبر 2012.
[53] المرجع نفسه.
[54] باسكال، محادثات مع لويس إسحق دي ساسي، 87.
[55] باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 173.
[56] المرجع نفسه، رقم 298.
[57] عظة في عيد يسوع الملك، 20 تـشرين الثّاني/نوفمبر 2022.
[58]المجمع الفاتيكاني الثّاني، بيان، كرامة الإنسان، رقم 11.
[59] باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 149.
[60]المرجع نفسه، رقم 7.
[61] المرجع نفسه، رقم 380.
[62] المرجع نفسه، رقم 308.
[63] المرجع نفسه.
[64] المرجع نفسه، رقم 512.
[65] المرجع نفسه، رقم 110.
[66] المرجع نفسه.
[67] المرجع نفسه، رقم 427.
[68] المقابلة العامّة، 9 شباط/فبراير 2022.
[69] جان لوك ماريون، الميتافيزيقيا وما بعدها، باريس، 2023، 356.
J.-L. Marion, La Métaphysique et après, Paris, 2023, p. 356.
[70]باسكال، الرسالةالإقليميّة السّابعة عشرة، في مجموعة المؤلّفات، لميشيل لي غيرن، 1، باريس، 2000، 781.
Pascal, Dix-septième lettre provinciale, in Œuvres complètes, par M. Le Guern, I, Paris, 2000, p. 781.
[71] راجع برينو نيفي، الخطأ وحكمه: ملاحظات على التصحيحات العقائدية في العصر الحديث، نابولي، 1993.
Cf. Bruno Neveu, L’erreur et son juge: remarques sur les censures doctrinales à l’époque moderne, Naples, 1993.
[72]راجع مجمع عقيدة الإيمان، الرّسالة حسن لدى الله (22 شباط/فبراير 2018)؛ الإرشاد الرّسوليّ، اِفرحوا وابتَهِجوا، رقم 57-59.
Cf. Cong. pour la Doctrine de la Foi, Lett. Placuit Deo (22 février 2018); Exhort. ap., Gaudete et exsultate, nn. 57-59.
[73]الإرشاد الرّسوليّ، اِفرحوا وابتَهِجوا، رقم 59.
[74] رسالة بابويّة، Desiderio desideravi (29 حزيران/يونيو 2022)، رقم 20.
[75] راجع باسكال، الأفكار (سرّ يسوع)، بحسب ترقيم لافوما، رقم 931. في بداية هذا المقطع نجد هذه الجملة بين قوسين: “أُحبّ كلّ الناس كإخوتي، لأنّ يسوع افتداهم جميعًا”.
[76]باسكال، الأفكار، بحسب ترقيم لافوما، رقم 360.
[77]الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، رقم 237.
[78]جيلبيرت بيريي، حياة باسكال، 92-93.
[79] المرجع نفسه، 93.
[80] المرجع نفسه، 90.
[81] المرجع نفسه، 94.
[82] باسكال، الأفكار (الذّكرى)، بحسب ترقيم لافوما، رقم 913.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana