مقدّمة
تميّز إرميا وهو واحد من أنبياء العهد القديم، بمشاعره الرقيقة وإحساسه المُرهَف. وقد كان لهذا الاحساس دور محوريّ في حياته الخاصّة من جهة وتعليمه من جهة أخرى. رجلُ حوارٍ مع الله هو، لذا نراه يدعو شعبه إلى التخلّي عن المظاهر الخارجيّة في الطقوس والعبادات، حتّى يحوّل الربّ قلب المتعبّد، فيرتدّ عن الخطيئة. والقلب عنده هو مركز الوعي، والعاطفة، والفكر.
من هو هذا النبيّ؟ لماذا اختاره الربّ وأرسله؟ وكيف كان شخصيّةً استباقيّة للمسيح المخلّص؟ أسئلة بمثابة خارطة طريقٍ تأمّليّة نسيرها معًا في هذه الدراسة المقتضبة.
- هويّة النبيّ
وُلد إرميا ومعنى اسمه “الربّ رفيعٌ”، من عائلةٍ كهنوتيّة في قرية عناتوت منتصف القرن السابع قبل الميلاد (650-645 ق م) بالقرب من مدينة أورشليم الذي قضى فيها القسم الأكبر من حياته، فعاش مأساتها وتحدّث عن دمارها في نهاية القرن السادس قبل الميلاد. وكان ابنُ عشرين سنة حين دعاه الله. عُرف عنه رقّة مشاعره وعاطفته الجيّاشة، ولكنّه في المقابل، حمل كلام الله بجرأة ودون خوف بالرغم من الاستهزاء به، وتعرّضه للضرب والموت. عاش باكيًا، حتّى دُعيَ بِ “النبيّ الباكي”. يحسّ بالمصيبة، فيتألّم ويبكي ويصرخ من أعماق قلبه “آه، لو امتلأ رأسي ماءً وكانت عيناي ينبوع دموعٍ فأبكي نهارًا وليلاً على قتلى شعبي” (إر 8: 33).
تميّز إرميا النبيّ ثانيًا بعشقه للطبيعة. فنتلمّس ونحن نغوص في كتابه، حبّه للينابيع والأشجار وتغريد العصافير وثلج لبنان. ويُلفتنا انجذابه لحياة القرية، حيث صوت الفرح وصوت العريس وعروسته (إر 7: 34؛ 16: 9)، والسراج (25: 10؛ 33: 11)… رأى النبيّ الفلاح وهو يغرس كرمه وينتظر ليحلّ أوان الثمر (إر 2: 21). جذبه هذا الجمال كلّه، ولكنّه لم يكن إلاّ وسيلةً تأمّلها النبيّ، فكلّمته عن الله وعن صنيعه في الكون. على هذا كلّه استند الربّ ليدعو شابًّا صغيرًا (إر 1: 6) مُرهف الإحساس، ليُرسله في مهمّة نبويّة إلى شعبه.
لكن سرعان ما سيكتشف النبيّ أنّ كلمة الله التي يحملها لشعبه، معرّضة هي للاستهزاء “مَن يسمع إذا تكلّمتُ وأنذَرتُ؟ آذانكم مغلقةٌ فلا تقدرون أن تُصغوا. كلمة الربّ صارت لهم عارًا، وأنتم لا تحفظونها” (إر 6: 10)، نداءاته إلى التوبة لم تلقَ صدىً وسط شعبه، فحزن لذلك، وحاول التنصّل من المهمّة المُكلّف بها (إر 5: 15-21). عنادهم ورفضهم التوبة، نتج عنهما دمار المدينة المقدّسة (أورشليم)، فشهد إرميا على تلك الأحداث فتوجّع ولم يستطع أن يفعل شيئًا. من كلّ ما سبق، لا يمكننا أن نستنتج غير واحدة: إرميا، نبيّ اختبر أنّ عليه أن يشهد بحياته وآلامه على قوّة كلمة ذلك الذي اختاره وجعله في خدمته. هكذا كانت مسيرة إرميا، حزنٌ أمسك بحياته من مطلعها وهو يجري بين أورشليم وعناتوت، حتى مات في مصر، ويُقال أنّه مات رجمًا من مواطنيه.
– يتبع –