الإخوة الأساقفة الأعزّاء،
الكهنة والشّمامسة والمكرّسون والمكرّسات والإكليريكيّون الأعزّاء،
العاملون الرّعويّون، والإخوة والأخوات الأعزّاء، مساء الخير!
يسعدني أن أكون بينكم لنعيش معًا يوم الشّبيبة العالميّ مع الشّباب الكثيرين، ولنشارككم أيضًا في مسيرتكم الكنسيّة وجهودكم وآمالكم. أشكر المطران خوسيه أورنيلاس كارفالو على الكلمات التي وجّهها إليّ. أودّ أن أصلّي معكم حتّى نتمكّن، كما قال، من أن نصير، مع الشّباب، جريئين في التّرحيب ”بـحلم الله وفي إيجاد طرق للمشاركة السّعيدة والسّخية والتي تغيّر الكنيسة والإنسانيّة“. وهذه ليست مَزحَة، بل هو برنامج.
غَمَرني جمال بلدكم، أرض العبور بين الماضي والمستقبل، ومكان التّقاليد القدّيمة والتّغيرات الكبيرة، تزيّنه الوديان النّضرة والشّواطئ الذّهبيّة المطلّة على جمال المحيط اللامحدود، الذي يحدّ البرتغال. يُعيدني هذا إلى البيئة التي كانت فيها دعوة التّلاميذ الأوائل، الذين دعاهم يسوع على شاطئ بحر الجليل. أودّ أن أتوقّف عند هذه الدّعوة التي توضّح ما سمعناه قبل قليل في القراءة القصيرة من صلاة الغروب: خلّصنا الرّبّ يسوع ودعانا، ليس بِالنَّظَرِ إِلى أعمالنا، بل وَفْقًا لنعمته (راجع 2 طيموتاوس 1، 9). حدث هذا في حياة التّلاميذ الأوّلين عندما رأى يسوع، وهو يتجوَّل، “سَفينَتَينِ راسِيَتَينِ عِندَ الشَّاطِئ، وقد نَزَلَ مِنهُما الصَّيَّادونَ يَغسِلونَ الشِّباك” (لوقا 5، 2). إذّاك صعد يسوع على سفينة سمعان، وبعد أن تحدّث إلى الجموع، غيّر حياة هؤلاء الصّيّادين ودعاهم ليسيروا في عُرْض البحر ويُلقُوا شباكهم. نلاحظ على الفور تباينًا: من ناحيّة، نزل الصّيّادون من السّفينة ليغسلوا شباكهم، أيّ لتنظيفها وحفظها جيّدًا، والعودة إلى البيت. ومن ناحيّة أخرى، صعد يسوع إلى السّفينة ودعاهم إلى أن يُلقُوا شِباكَهم مرّة أخرى لِلصَّيد. الاختلافات ظاهرة: نزل التّلاميذ وصعد يسوع. هم يريدون أن يَطوُوا الشّباك، وهو يريد أن يُلقُوا الشّباك من جديد في البحر لِلصّيد.
أوّلًا، هناك صيّادون نزلوا من السّفينة ليغسلوا الشّباك. هذا هو المشهد أمام عينيّ يسوع. وقد توقّف يسوع هناك. كان قد بدأ كرازته قبل قليل في مَجْمَع النّاصرة، لكن أهل بلده قادوه خارج المدينة وحاولوا حتّى قتله (راجع لوقا 4، 28-30). لذلك خرج من المكان المقدّس وبدأ يعظ الكلمة بين النّاس، وفي الشّوارع حيث كان يجتهد رجال ونساء عصره في حياة وكفاح كلّ يوم. اهتمّ المسيح بأن يجعل الله قريبًا بين النّاس في الأماكن والحالات التي يعيش فيها الناس ويكافحون ويأملون، وأحيانًا يحملون بين أيديهم الإخفاقات والفشل، تمامًا مثل أولئك الصّيّادين الذين لم يصطادوا شيئًا طوالَ الليل. نظر يسوع بحنان إلى سمعان ورفاقه الذين كانوا يغسلون شباكهم، يقومون بعملهم ويكرّرونه مرّة بعد مرّة، مستسلِمين، منهكِين، متعبِين تملأهم المرارة: لم يبقَ لهم إلّا أن يعودوا إلى البيت بأيدٍ فارغة.
أحيانًا، في مسيرتنا الكنسيّة، يمكن أن نشعر بتعب مماثل. تعب. قالَ أحدهم: ”أخافُ من تَعبِ الصّالحين“. تعبٌ يبدو لنا أنّنا نحمل في أيدينا شباكًا فارغة فقط. إنّه شعور منتشر إلى حدّ ما في البلدان ذات التّقاليد المسيحيّة القديمة، والتي شملتها التّغيرات الاجتماعيّة والثقافيّة العديدة، واتَّسَمت بشكل متزايد بالعلمانيّة، واللامبالاة تجاه الله، والابتعاد المتزايد عن ممارسة الإيمان – وهنا يوجد خطر أن تَدخل روح العالم -. وقد يتفاقم الأمر أحيانًا بسبب الفشل أو الغضب الذي يشعر به البعض تجاه الكنيسة، أحيانًا بسبب شهادتنا السّيئة والشّكوك والعثرات التي شوهّت وجهها، وتدعونا إلى تطهير متواضع ومستمّر، بدءًا من صرخة ألَم الضّحايا، ودائمًا أن نقبلهم ونصغي إليهم. وعندما نشعر بأنّنا مصابون بالإحباط – ليفكّر كلّ واحدٍ منكم في أيّ لحظة شعر بالإحباط -، الخطر هو أن ننزل من السّفينة، ونبقى متمسكين بشباك الاستسلام والتّشاؤم. بدل ذلك، لنكن على ثقة أنّ يسوع سيمدّ يده لنا، وسيسند عروسه الحبيبة [الكنيسة]. لنحمل تعبنا ودموعنا إلى الرّبّ يسوع، لكي نواجه بعد ذلك المواقف الرّعويّة والرّوحيّة، ونواجه بعضنا بعضًا بقلب منفتح، ونختبر معًا بعض الطّرق الجديدة للاستمرار. عندما نشعر بالإحباط، ونحن على علمٍ بذلك بشكلٍ أو بآخر، نضع أنفسنا في حالة ”تقاعد“، تقاعد من الغَيرة الرّسوليّة، ونفقدها ونتحوّل إلى موظّفين في الأمور المقدّسة. إنّه أمرٌ محزن جدًّا عندما يتحوّل الشّخص الذي كرّس حياته لله إلى موظّف، ومجرّد مدبّر للأشياء. إنّه أمرٌ محزن جدًّا.
في الواقع، بمجرد أن نزل الرّسل ليغسلوا الأدوات المستخدمة، صعد يسوع إلى السّفينة ثمّ دعاهم إلى أن يرسلوا الشّباك مرّة أخرى. في لحظة شعورنا بالإحباط، وفي ”تقاعدنا“، لندع يسوع يصعد إلى سفينتنا من جديد، مع رجاءِ الأزمنة الأولى، ذلك الرّجاء الذي يجب إحياؤه من جديد، واستعادته من جديد، وتحريره من جديد. إنّه يبحث عنّا في وحدتنا وفي أزماتنا ليساعدنا على البدء من جديد. روحانيّة البدء من جديد. لا تخافوا. هكذا هي الحياة: نقع ونبدأ من جديد، ونتعب ونتلقّى الفرح من جديد. نتلقّى يد يسوع. واليوم أيضًا يمرّ على شواطئ حياتنا ليوقظ الرّجاء فينا وليقول لنا أيضًا، كما قال لسمعان والآخرين: “سِرْ في العُرْض، وأَرسِلوا شِباكَكُم لِلصَّيد” (لوقا 5، 4). وعندما نفقد الرّجاء، يخطر على بالنا ألف مبرّر كيلا نرسل شباكنا، وخصوصًا ذلك الاستسلام المرّ، الذي يُشبه الدُّودة التي تُفسد الرُّوح. أيّها الإخوة والأخوات، إنّنا نعيش بالتّأكيد في وقت صعب، ونحن نعلم ذلك، لكن الرّبّ يسوع يسأل اليوم هذه الكنيسة: ”هل تريدين أن تنزلي من السّفينة وتغرقي في الفشل، أم تسمحين لي بأن أصعد، فتسمحي مرّة أخرى لكلّ ما هو جديد في كلمتي أن يتسلّم دفة القيادة؟ أنت، الكاهن والمُكرَّس والمُكرَّسة والأسقف، هل تُريد فقط أن تحافظ على الماضيّ الذي عبر أم أن ترسل الشّباك باندفاع للصّيد من جديد؟“ هذا ما يطلبه منّا الرّبّ يسوع: أن نوقظ القلق للإنجيل.
عندما نتعوَّد على أمرٍ ما، ونشعر بالملل وتتحوّل رسالتنا إلى نوع من ”الوظيفة“، تكون قد أتت اللحظة لنعطي مجالًا لدعوة يسوع الثّانية، الذي يدعونا من جديد، دائمًا. يدعونا ليجعلنا نسير، ويدعونا لينعشنا من جديد. لا تخافوا من دعوة يسوع الثّانية هذه. هي ليست وهمًا، بل هو الذي يأتي ويطرق بابنا. ويمكننا أن نقول إنّ هذا هو القلق ”الجيّد“، عندما ندع دعوة يسوع الثّانية تجذبنا، ذلك القلق الجيّد الذي يسلّمه إليكم، أنتم البرتغاليّين، المحيط الفسيح: أن تنطلقوا إلى ما وراء شواطئكم، لا لغزو العالم، بل لتملأوا العالم بعزاء الإنجيل وفرحه. في هذه الرّؤيّة، يمكننا أن نفهم كلمات أحد مُرسَلِيكم الكبار، الأب أنطونيو فييرا، الذي تسَمُّونه ”Paiaçu“، الأب الكبير: قال إنّ الله أعطاكم أرضًا صغيرة لتولدوا فيها، ولكنّكم تواجهون المحيط، أعطاكم العالم كلّه لتموتوا: “لتولدوا، في الأرض الصّغيرة؛ ولتموتوا، في كلّ الأرض: لتولدوا، في البرتغال؛ ولتموتوا، في العالم” (A. Vieira, Omelie, Vol. III, Tomo VII, Porto 1959, p. 69). أرسِلوا الشّباك مرّة أخرى وعانقوا العالم برجاء الإنجيل: إلى هذا دُعينا! ليس الوقت الآن للتّوقف والاستسلام، وإرساء السّفينة على الشاطئ أو النّظر إلى الوراء. يجب ألّا نهرب من هذا الوقت لأنّه يخيفنا، ونلجأ إلى أشكال وأنماط الماضيّ. لا، هذا هو وقت النّعمة الذي يعطينا إياه الرّبّ يسوع لنغامر في بحر البشارة بالإنجيل والرّسالة.
ولكن للقيام بذلك نحتاج أيضًا إلى أن نختار. وأريد أن أشير إليكم إلى ثلاثة أمور نختارها، مستوحاة من الإنجيل.
أوّلًا: سِرْ في العُرْض. الشّهامة. لا تكونوا جُبناء! سِرْ في العُرْض. لنرسل الشّباك مرّة أخرى في البحر، يجب أن نترك شواطئ الفشل والجمود، ونبتعد عن ذلك الحزن العذب وشدّة الألم السّاخرة التي أحيانًا تهاجمنا أمام الصّعوبات. الحزن العذب وشدّة الألم السّاخرة. لنفحص ضميرنا في هذا الشّأن. ولنسترجع الرّجاء، ولكن النّسخة الثّانية من الرّجاء، الرّجاء النّاضج، والرّجاء الذي يأتي بعد الفشل أو التّعب، إذ ليس سهلًا أن نسترجع الرّجاء البالغ. يجب أن نقوم بذلك للانتقال من الانهزاميّة إلى الإيمان، مثل سمعان الذي قال على الرّغم من تعب الليل كلّه عبثًا: “بِناءً على قَولِكَ أُرسِلُ الشِّباكَ” (لوقا 5، 5). ولكن، حتّى نثقّ بالرّبّ يسوع وكلمته كلّ يوم، لا يكفي الكلام، بل من الضّروريّ أن نصلّي، كثيرًا. وهنا أودّ أن أطرح عليكم سؤالاً، وَلْيُجِب عليهِ كلّ واحدٍ منكم في داخله: كيف أُصلّي؟ هل أُصلّي مثل الببّغاء، أم أستريح أمام العُلّيَّة لأنّني لا أعرف كيف أتكلّم مع الرّبّ يسوع؟ هل أُصلّي؟ كيف أُصلّي؟ في السّجود، فقط أمام الرّبّ يسوع نجد الطّعم والحبّ للبشارة بالإنجيل. إنّه مُهِمّ: لقد فقدنا صلاة السّجود، وعلى الجميع، الكهنة والأساقفة والمكرّسين والمكرّسات، أن يسترجعوها: أن يبقوا في صمت أمام الرّبّ يسوع. الأم تيريزا، التي كانت مشغولة في أمورٍ كثيرة في الحياة، لم تُهمِل قط السّجود، ولا حتّى في اللحظات التي فيها تزعزع إيمانها وتساءلت هل كان كلّ شيء صحيحًا أم لا. لحظات الظّلام التي بها مرَّت تيريزا الطّفل يسوع أيضًا. إذًا، في الصّلاة فقط نتغلّب على تجربة تكرار ”العمل الرّعويّ المبني على الحنين إلى الماضيّ والشّكوى“. في أحد الأديرة – وهذا حدث بالفعل – كانت هناك راهبة تتشكّى من كلّ شيء، ولا أعرف ماذا كان اسمها، لكن الرّاهبات غيَّرنَ لها اسمها وسمّوها ”الرّاهبة تَشكّي“. كَم مرَّة نحوِّل عجزنا وخيبات أملنا إلى تشكّي! وعندما نتخلّى عن هذا التشكّي، نستعيد قوّتنا مرّة أخرى لنسير في عرض البحر، بدون أيديولوجيّات، وبدون دنيويّات. الدنيويّة الروحيّة التي تدخل فينا والتي منها تُولد روح التّسلّط الإكليريكيّ. روح التّسلّط الإكليريكيّ ليس فقط للكهنة: فالعلمانيّون الذين عندهم روح التّسلّط الإكليريكيّ هُم أسوأ من الكهنة. روح التّسلّط الإكليريكيّ هذه التي تدمّرنا. وكما قال مرافق روحي كبير، هذه الدنيويّة الرّوحيّة – التي تسبّب روح التّسلّط الإكليريكيّ – هي من أخطر الشّرور التي يمكن أن تحدث للكنيسة. أن نتغلّب على هذه المصاعب بدون أيدولوجيّات وبدون دنيويّات، مدفوعين برغبة واحدة: أن يصل الإنجيل إلى الجميع. لديكم أمثلة كثيرة على هذا الطّريق، وبما أنّنا بين الشّباب، أودّ أن أذكر شابًا من لشبونة، القدّيس جوان دي بريتو، الذي غادر منذ قرون، وسط الصّعوبات العديدة، إلى الهند وبدأ يتكلّم ويلبس مثل الذين كان يلتقي بهم، من أجل التّبشير بيسوع. نحن مدعوّون أيضًا إلى إلقاء شباكنا في الزّمن الذي نعيش فيه، ونحاور الجميع، ونجعل الإنجيل مفهومًا، وحتّى لو غامرنا وتعرّضنا لبعض العواصف. مثل الشّباب الذين يأتون إلى هنا من جميع أنحاء العالم لتحدّي الأمواج العاتية، نذهب نحن أيضًا بعيدًا عن الشّاطئ دون خوف. يجب ألّا نَخَفْ من أن نواجه البحر الفسيح، لأنّه في وسط العاصفة والرّياح المعاكسة يأتي يسوع للقائنا، يسوع الذي قال: “ثِقوا. أَنا هو، لا تَخافوا!” (متّى 14، 27)”. كَم مرّة عِشنا هذه الخِبرة؟ لِيُجِب كلّ واحدٍ على هذا السّؤال في داخله. وإن كنّا لم نعشها، فذلك لأنّ أمرًا ما حصل في الخطأ أثناء العاصفة.
وثانيًا: أن نسير معًا في العمل الرّعويّ، كلّنا معًا. في النّص، أوكل يسوع إلى بطرس مهمّة السّير في عرْض البحر، ثم تكلّم بصيغة الجمع وقال: “أَرسِلوا شِباكَكُم” (لوقا 5، 4). بطرس يقود السّفينة، والجميع في السّفينة، والجميع مدعوّون إلى أن يُرسلوا الشّباك. الجميع. وعندما اصطادوا كمية كبيرة من السّمك، فإنّهم لم يفكّروا أنّهم يستطيعون عمل ذلك وحدهم، ولم يعتبروا الهبة المعطاة لهم مِلكًا خاصًّا لهم، بل، كما يقول الإنجيل، “أَشاروا إِلى شُرَكائِهم في السَّفينَةِ الأُخرى أَن يَأتوا ويُعاوِنوهم” (لوقا 5، 7). فملأوا بالسّمك سفينتين. السّفينة الواحدة تعني العزلة، والانغلاق، والادّعاء بالاكتفاء الذاتي، أمّا السّفينتان فتعنيان العلاقة. الكنيسة سينوديّة، وشركة ووَحدة، وتعاون متبادل، ومسيرة مشتركة. وهذا هو هدف السّينودس الجاري، والذي سيَعقد اجتماعه الأوّل في تشرين الأوّل/أكتوبر القادم. على متن سفينة الكنيسة، يجب أن يكون مكان للجميع: فجميع المعمدين مدعوّون إلى الصّعود وإرسال الشّباك، وأن يلتزم كلّ واحد شخصيًا بإعلان الإنجيل. ولا تنسوا هذه الكلمة: الجميع، الجميع، الجميع. يُؤثّر فِيَّ كثيرًا عندما يجب أن أقول كيف نفتح وجهات النّظر الرّسوليّة، وذلك المقطع من الإنجيل الذي فيه لا يذهب النّاس إلى عُرس الابن وقد كان كلّ شيء جاهزًا. وماذا قال السّيّد، سيّد العُرس؟ ”اذهبوا إلى مفارق الطّرق واحضروا الجميع هنا، الجميع، الجميع: الأصحّاء، والمرضى، والصِّغار والكِبار، والصّالحين والخطأة. الجميع“. يجب ألّا تكون الكنيسة جمارك لتختار من يدخل ومن لا يدخل. الجميع مدعوّ إلى الدخول، كلّ واحدٍ مع حياته التي يحملها على كَتِفَيه، ومع خطاياه، وكما هو، أمام الله، وكما هو أمام الحياة… الجميع، الجميع. لا نضع الجمارك في الكنيسة. إنّه تحدٍ كبير، لا سيّما في المجالات التي يتعب فيها الكهنة والمكرّسون، لأنّ عددهم يقِلّ، بينما تزداد الاحتياجات الرّعويّة. ومع ذلك، يمكننا أن ننظر إلى هذا الوضع باعتباره فرصة لإشراك العلمانيّين باندفاع أخويّ وإبداع رعويّ سليم. صارت شباك التّلاميذ الأوائل، إذن، صورة للكنيسة، التي هي ”شبكة علاقات“ إنسانيّة وروحيّة ورعويّة. إن لم يوجد حوار ومسؤوليّة مشتركة ومشاركة، فالكنيسة تَهرَم. أودّ أن أقول ذلك على هذا النّحو: لا يمكن أن يكون أبدًا أسقف بدون كهنته وشعب الله؛ ولا يمكن أن يكون أبدًا كاهن بدون إخوته الكهنة. الجميع معًا – الكهنة والرّاهبات والرّهبان والمؤمنون العلمانيّون – كنيسة، لا بدون الآخرين، وبدون العالم. بدون روح دنيويّة، ولكن ليس بدون العالم. في الكنيسة نساعد بعضنا البعض، وندعم بعضنا البعض، ونحن مدعوّون لنشر جوّ الأخوّة البنّاءة في الخارج أيضًا. من ناحية أخرى، كتب القدّيس بطرس أنّنا الحجارة الحيّة المستخدمة لبناء بَيت رُوحِيّ (راجع 1بطرس 2، 5). أودّ أن أضيف: أنتم المؤمنين البرتغاليّين تكوِّنُون أيضًا calçada”، أنتم الأحجار الكريمة في هذه الأرض المرحّبة والمشرقة التي يجب أن يسير عليها الإنجيل: ولا يمكن أن ينقص فيها حجر واحد، وإلّا فذلك يظهر فورًا. هذه هي الكنيسة التي نحن مدعوّون لبنائها، بعون الله.
أخيرًا، الخيار الثّالث: أن نصير صياديّ بشر. لا تخافوا. هذا ليس بحثًا عن أتباع لنا، بل هو إعلان الإنجيل الذي يخاطبنا. في هذه الصّورة الجميلة ليسوع، أن نصير صيّادي بشر، أوكل إلى التّلاميذ رسالة السّير في عُرض البحر والعالم. في كثير من الأحيان، في الكتاب المقدّس، البحر يشير إلى مكان الشّر والقوى المعاكسة التي لا يستطيع الإنسان السّيطرة عليها. لذلك فإنّ صيد البشر وإخراجهم بعيدًا من الماء يعني مساعدتهم على الخروج من حيث غرقوا، وإنقاذهم من الشّر الذي يوشك أن يخنقهم، وإحياءهم من كلّ أشكال الموت. وهذا بدون بحث عن أتباع، بل بمحبّة. ومن العلامات التي تشير إلى أنّ بعض الحركات الكنسيّة تسير بشكل سيّء هو ممارستها في البحث عن أتباعٍ لها. عندما تبحث حركة كنسيّة أو أبرشيّة أو أسقف أو كاهن أو راهبة أو علمانيّ عن أتباع لها، فهذا ليس عملًا مسيحيًّا. العمل المسيحيّ هو في الدّعوة والاستقبال والمساعدة، ولكن بدون البحث عن أتباع. في الواقع، الإنجيل هو إعلان الحياة في بحر الموت، والحرّيّة في دوامات العبوديّة، والنّور في هاوية الظّلام. كما كتب القدّيس أمبروزيوس، “أدوات الصّيد الرّسوليّ هي مثل الشّباك: الشّباك لا تقتل ما تمسكه، بل تبقيه على قيد الحياة، وترفعه من الهاوية إلى النّور” (تفسير في انجيل لوقا، المجلد 4، 68-79). هناك ظلمات كثيرة في مجتمع اليوم، حتّى هنا في البرتغال، وفي كلّ مكان. إنّنا نشعر وكأنَّ الاندّفاع أخذ يغيب، وكذلك الجرأة على الحلم، والقوّة لمواجهة التّحديّات، والثّقة في المستقبل. فنحن نبحر في حالة من عدم اليقين، وعدم الاستقرار الاقتصاديّ خصوصًا، وفي فقر الصّداقة الاجتماعيّة، وانعدام الأمل. نحن، ككنيسة، أُوكلت إلينا مهمّة إلقاء أنفسنا في مياه هذا البحر وإرسال شباك الإنجيل، بدون أن نوجّه أصابع الاتّهام إلى أحد، بل نقترح على أناس عصرنا حياة، حياة يسوع. نهيّئ لقبول الإنجيل، وندعو إلى الحفلة، في مجتمع متعدّد الثّقافات؛ ونجعل الله الآب قريبًا في أوضاع يزداد فيها الاضطراب والفقر، خاصّة بين الشّباب، ونحمل حبّ المسيح حيث تكون العائلة متعثرة أو مجروحة، ونحمل فرح الرّوح حيث يسود الخذلان والاستسلام للقضاء والقدر. كتب أحد كتابكم: “للوصول إلى اللانهائي، وأعتقد أنّه يمكننا الوصول إليه، نحتاج إلى ميناء، واحد فقط، وآمن، ومن هناك يمكننا أن ننطلق نحو اللامحدود” (F. Pessoa, Livro do Desassossego, Lisboa 1998, 247). لنحلم بأن تكون كنيسة البرتغال هي ”الميناء الآمن“ لكلّ من يواجه عبور المحيط، والغرق، وعواصف الحياة!
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء: أنتم جميعًا، العلمانيّون، والرّهبان والرّاهبات، والكهنة، والأساقفة، جميعًا، جميعًا، لا تخافوا، أرسلوا الشِّبَاك. لا تعيشوا وأنتم تلقون الاتّهامات وتقولون: ”هذه خطيئة، وهذه ليست خطيئة“. لِيأتِ الجميع، ثمّ لنتكلّم، لكن أن يسمعوا أوّلًا دعوة يسوع ثمّ تأتي التّوبة، ومن بعدها يأتي قُرب يسوع. من فضلكم، لا تجعلوا الكنيسة تصير جمارك: هنا يدخل الصّالحون، والذين هُم على ما يرام، والذين تزوّجوا جيّدًا، وهناك في الخارج كلّ الآخرين. لا. الكنيسة ليست كذلك. الصّالحون والخطأة، الأخيار والأشرار، الجميع، الجميع، الجميع. وبعد ذلك، سيساعدنا الرّبّ يسوع في حلّ المسألة. ولكن الجميع. أشكركم من كلّ قلبي، أيّها الأخوة والأخوات، على إصغائكم، وأشكركم على ما تعملونه، وعلى المثال الذي تقدّمونه، وخصوصًا المثال المخفي، وعلى مثابرتكم، وعلى قيامكم كلّ يوم لتبدأوا من جديد أو لتكملوا ما بدأتموه. وأوكلكم إلى سيّدتنا مريم العذراء، سيّدة فاطما، وإلى حراسة ملاك البرتغال وحماية قدّيسيكم الكبار، ولا سيّما هنا في لشبونة، القدّيس أنطونيوس، الرّسول الذي لا يكلّ، والواعظ المُلهَم، وتلميذ الإنجيل المتنبّه لشرور المجتمع والمليء بالشّفقة على الفقراء: ليشفع بكم القدّيس أنطونيوس ويمنحكم فرح صيد عجيب جديد. ومن فضلكم، لا تَنسَوا أن تصلّوا من أجلي. شكرًا!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2023
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana