” هذا هو ابني الحبيب الذي عَنهُ رَضِيت ، فله اسمعوا ” ( متى ١٧ : ٥ ) .
بهذه الكلمات خاطب الرب إبنه الوحيد في اليوم الذي ظهر فيه يسوع بهيئته الإلهية على جبل طابور بالقرب من الناصرة .
عيد التجلي أو كما يعرف ب “عيد الرب ” يوم تحتفل به البشرية في السادس من آب في كل عام , هو عيد نرفع فيه أبصارنا نحو السماء ، ننظر فيه إلى المسيح الكلي القدرة والمجد ، طالبين رحمته .
فبعد إعلان آلامه لتلاميذه أخذ يسوع كلُ من بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم الى الجبل ، وتجلّى أمامهم فشّع وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور ، في هذا اليوم بالذات نال الرّبّ يسوع من الآب إكراماً ومجداً ، لذلك نحن مدعوون للتغيير والتحول ، لنكون ، كيسوع المسيح ، أبناء حقيقيين لله تعالى ، وتجلينا الحقيقي يكمن في الحياة حسب إرادة الله والسير حسب وصاياه . فالإنسان المُتجلي الذي يعيش إرادة الله في حياته ، إنما يشعّ نور الله من خلاله ، على مثال المسيح الذي أشعّ نوراً وجمالاً وبهاءً ، عند ساعة تجليه المجيدة . هذا اليوم يعلمنا أشياء كثيرة ومنها ان اكليل المجد يأتي من اكليل الشوك وانه لا قيامة دون موت ، لأن تجلي المسيح هو إعلان مسبق لملكوت الله .
وبعد ستةِ أيام مضى يسوع ببطرس ويعقوب وأخيه يوحنا ، فانفرد بهم على جبلٍ عالٍ ، وتجلّى بمرأى منهم ، فأشع وجهه كالشمس ، وتلألأت ثيابه كالنور . ( متى ١٧ : ١ – ١٣ )
أراد الرّب يسوع أن يُسلّح تلاميذه بقوّة كبيرة في النفس وبثبات يسمحان لهم بحمل صليبهم الخاصّ بدون خوف ولا وجع ، رغم فظاعته وثقلهِ . أرادهم أيضاً ألاّ يخجلوا من آلامه ، وألاّ يعتبروا عاراً الصبر الّذي سيخضع به لآلام قاسية ، بدون أن يفقد شيئاً من مجد قوّته . ” فَمَضى يسوعُ بِبُطرُسَ ويعقوبَ ويوحَنَّا فانفَرَدَ بِهِم وَحدَهم على جَبَلٍ عالٍ ” ، وأظهر لهم هناك بهاء مجده . حتّى لو أنّهم فهموا أنّ العظمة الإلهيّة كانت فيه ، كانوا لا يزالون يجهلون القوّة التي يحملها هذا الجسد الحاجب الألوهة …
أظهر الربّ إذاً مجده في حضرة شهود كان قد اختارهم ، ونشر على جسده ، الشبيه بكلّ الأجساد الأخرى ، بهاءً ساطعًاً ، ” فأَشَعَّ وَجهُه كالشَّمس ، وتَلألأَت ثِيابُه ناصِعَةَ البَياض ” . لا شكّ في أنّ هدف هذا التجلّي كان خاصّةً إزالة عار الصليب من قلب تلاميذه ، وعدم زعزعة إيمانهم بسبب ذلّ آلامه الإراديّة والطوعيّة …، لكنّ هذا التجلّي كان يؤسّس في كنيسته الرجاء الّذي سيساندها . وهكذا يفهم جميع أعضاء الكنيسة ، التي هي جسد المسيح ، أنّ هذا التحوّل سيتمّ فيهم يوماً ، لأنّ الأعضاء موعودون بالمشاركة في المجد الّذي أشرق في الرأس . والربّ يسوع نفسه قال في كلامه عن عظمة مجيئه : ” الصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ حِينَئذٍ كالشَّمْسِ في مَلَكوتِ أَبيهِم ” (متى ١٣ : ٤٣ ) . والرّسول بولس أكّد قائلاً : ” أَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا ” ( رومة ٨ : ١٨ ) … وكتب أيضاً : ” لأَنَّكم قد مُتُّم وحَياتُكم مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ في الله . فإِذا ظَهَرَ المسيحُ الَّذي هو حَياتُكم ، تَظَهَرونَ أَنتُم أَيضًا عِندَئِذٍ معَه في المَجْد ” (قولسي ٣ : ٣ – ٤ ) .
” رابِّي حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا ” ( مرقس ٩ : ٥ )
نعم ، على جبل طابور أتاح الرّب يسوع أمام تلاميذه أن يشهدوا تجليّاً ربّانيًّاً رائعاً ، كصورة رمزية مسبقة عن ملكوت السماوات ، كما قال لهم : ” الحَقَّ أَقولُ لكم : مِنَ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا ابنَ الإِنسانِ آتِياً في مَلَكوتِه ” ( متى ١٦ : ٢٨ ) . هذه هي روائع هذا العيد الإلهية ، ذلك أن موت الرّب يسوع المسيح والإحتفال بقيامته يجمعانا في آنٍ واحد . وحتى ندخل في هذه الأسرار مع التلاميذ المختارين ، دعونا نُصغي إلى الصوت الإلهي المقدّس الذي يدعونا بإلحاح : ” تعالوا واصرخوا نحو جبل الربّ في يوم الربّ ونحو مكان الربّ وفي بيت إلهكم ” . دعونا نُصغي حتى نطلب هذا النور وقد تنوّرنا وتحوّلنا بهذه الرؤيا الإلهيّة ونقول : “ما أَرهَبَ هذا المكان ! ما هذا إِلاَّ بَيتُ الله ” ( تكوين ٢٨ : ١٧ ) . هذا بابُ السَّماء .
علينا إذًا أن نُسرِعَ نحو الجبل على غِرار الرّب يسوع المسيح الذي هو معلمنا وطريقنا ودليلنا والسائر أمامنا هنا كما في السماء . وسوف نتألّق معه أمام النظرات الرُّوحية ، وسنتجدّد ونتألَّه في بناء نفسنا ، ونحن الذين خُلِقنا على صورتِهِ كمثالِهِ ستُحيطنا هالة من المجد و سنُرفع إلى الألوهية إلى الأبد وسننتقل إلى الأعالي ، إلى الملكوت السماويّ .
هلّموا نُسرع ومِلؤنا الثقة والبهجة ولنخترق السحابة مثل موسى وإيليا، ويعقوب ويوحنا . وعلى مثال بطرس ليخطفنا هذا الظهور الإلهي ، ولتتبدّل بكل جلال ، ولننتقل إلى خارج العالم ، بعيداً عن هذه الأرض ومغراياتها . لنترك هذا الجسد هنا على الأرض الفانية ، ولنتخلّى عن الخليقة الأرضية ونرتفع نحو الرّبّ يسوع قائلين مع الرسول بطرس ، وهو في حالة إنخطاف وإندهاش : ” يا مُعَلِّم حَسَنٌ أَن نَكونَ ههُنا “. نعم يا بطرس ، اتبع يسوع ، لأنَّه من الجيد أن تبقى معه دوماً . ونحن ايضاً على مثال بطرس لنتبع يسوع ، ومع تلميذي عماوس نقول له : ” أُمكُثْ معنا يارب ” ( لوقا ٢٤ : ٢٩ ) .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك