عيد انتقال العذراء مريـم لمجد السماوات بالنفس والجسد، أي انتقالها بكامل كيانها البشري ، وبكامل شخصها ، من أكثر الأعياد المكرّسة بالإيمان والثقة للعذراء مريـم الكُليّة القداسة والكاملةُ الطهارة ، وبهذا الإحتفال نحظى بنعمة نجدّد خلالها حُبّنا لمريم ، لنعظِمها ونُكرِّمها لأجل ” العظائم ” التي صنعها الكلي القدرة لها وفيها وبواسطتها.
في تأملنا اليوم بالعذراء مريم المنتقلة إلى السماء بالنفس والجسد ، ننال نعمة أخرى : نعمة أن ننظر بالعمق في حياتنا. لأن وجودنا اليومي ، مع مشاكله وآماله ، أفراحه وأتراحه ينال نوراً من أم الله ، ومن مسيرتها الروحية ، من مصيرها المجيد : مسيرة وغاية يمكن ، لا بل يجب أن يُصبِحا، بشكل أو بآخر، مسيرتنا وهدفنا وغايتنا.
في الكتاب المُقدّس نقرأ هذه الكلمات : ” انفَتَحَ هيكلُ اللهِ في السماء فبدَت قُبَّةُ العهدِ في الهيكل “(رؤيا يوحنا١١ : ١٩) .
ما هو معنى تابوت العهد ؟
بالنسبة للعهد القديم ، يمثل تابوت العهد رمز حضور الله في وسط شعبه . ولكن الآن ترك الرمز المكان للواقع . وهكذا يقول لنا العهد الجديد أن التابوت الحق هو شخص حي وملموس : هو العذراء مريم . الله لا يسكن في توابيت ، ألله يسكن في أشخاص ، الله يسكن في القلب : مريم ، المرأة التي حملت في أحشائها ابن الله الأزلي الذي صار بَشَراً ” والكلِمةُ صارَ بشراً ، فَسَكَنَ بَيْنَنا فرأينا مجدَهُ ، مَجداً من لَدُنِ الآبِ لإبنٍ وَحيد ملؤهُ النِّعمَةُ والحق ” ( يوحنا ١ : ١٤ ) . في تابوت العهد ، كما نعلم ، كانت تُحفظ لوحتا شريعة موسى ، التي تُبيّن إرادة الله للحفاظ على العهد مع شعبه ، موضحاً الشروط للبقاء على عهد الله ، لمطابقة الإرادة الإلهية وبالتالي مطابقة حقيقتنا العميقة معه .
مريم هي تابوت العهد ، لأنها قَبِلَتْ يسوع ، قَبِلَت في ذاتِها الكلمة الحيّة ، قبِلَت كُلّ محتوى إرادة الله ، حقيقة الله . قَبِلَتْ في أحشائها ذاك الذي هو العهد الجديد والأبدي ، العهد الذي بلغ ملأه في تقدمة جسده ودمه : الجسد والدم الذين نالهما من مريم . بإيمانٍ تتوجه التقوى المسيحية ، في صلواتنِنا بإيمانٍ نُكرّم العذراء ، وندعوها ” تابوت العهد ” ، تابوت حضور الله ، تابوت عهد الحُبّ الذي أراد أن يجمعنا بشكلٍ نهائي ومع كُلّ البشرية في المسيح يسوع .
إن عظمة مريم ، أم الله ، الممتلئة نعمةً ، والخاضعة بالكامل لِعَمل الروح القدس ، تعيش في سماء الله بكامل كيانها، نَفْساً وجسداً . يُشير القديس يوحنا الدمشقي إلى هذا السر بعظةٍ شهيرة في رقاد السيدة العذراء ، فيقول : ” اليوم حُملت العذراء إلى الهيكل السماوي . اليوم ، التابوت المقدَّس الحي ، الحامل الإله الحي ، التابوت الذي حمل في أحشائِهِ صانعه ، اليوم يرتاح في هيكل الرب الذي لم تَبنِه أيادي بشرية ” ، ويتابع القديس يوحنا الدمشقي ويقول : ” كان لبُدَّ لتلك التي استقبَلَتْ في أحشائِها ” اللوغوس – الكلمة ” الإلهي، أن يتم إنتِقَالِها إلى أخدارِ إبنِها . كان لا بُدَّ للعروسة التي اختارها الآب ، أن تقيم في أخدار السماوات” ( عظة في رقاد السيدة العذراء ) .
تغني الكنيسة اليوم الحُب العظيم الذي يكّنه الله لخليقته هذه : لقد اختارها كتابوت عهد حق ، كتلك التي تستمر في ولادة المسيح المخلص وإعطائه للبشرية ، كتلك التي تقاسم في السماوات ملء المجد وتتمتع بحضور الله بالذات، وفي الوقت عينه ، تدعونا لكي نصبح ، خلال حياتِنا ، توابيت عهد تحضر فيها كلمة الله ، وتتحول وتعيش من حضوره ، حضور الله الحي ، لكي يستطيع البشر أن يلاقوا في الشخص الآخر قرب الرب ويعيشوا الشركة مع الله ويعرفوا واقع السماوات .
إن إنجيل القديس لوقا في ( الفصل ١ : ٣٩ – ٥٦ )، يُبيّن ُ لنا هذا التابوت الحي : يبين لنا مريم العذراء وهي تترك بيتها في الناصرة وتسير نحو الجبال بسرعة إلى مدينة في يهوذا ، إلى بيت زكريا وأليصابات . أنه من الأهمية بمكان أن نلفت الانتباه لصفة وذهبت ” مسرعة ” : فأمور الله تستحق السرعة ، لا بل هي الأمور الوحيدة في العالم التي تستحق السرعة ، لأنها الأمر الوحيد الطارئ حَقَاً في حياتنا . وهكذا تدخل مريم في بيت زكريا وأليصابات ، ولكنها ليست لوحدها . فهي تدخل حاملة الإبن الذي هو الله بالذات الذي صار بَشَراً .
بالطبع كان هناك إنتظار لمساعدة اليصابات في ذلك البيت ، ولكن الإنجيلي يقودنا لكي نفهم أن هذا الإنتظار كان يُشير إلى إنتظار آخر وأعمق . زكريا، أليصابات والصغير يوحنا المعمدان كانوا رمزاً لأبرار العهد القديم ، الذين كان قلبهم المتقد رجاءً ينتظر مجيء المسيح المخلص . يفتح الروح القدس عينا أليصابات ويجعلها تتعرّف في مريم على تابوت العهد الحق ، تابوت العهد الجديد المنتظر ، تتعرف على أم الله التي تأتي لزيارتها . وهكذا تستقبل السيدة العجوز نسيبتها بصوت عظيم فتقول : “مباركة أنت بين النساء ! ومباركةٌ ثمرَةُ بطنِكِ ! مِن أين لي أن تأتيني أُمُّ ربِّي ؟ ” (لوقا ١ : ٤٢ – ٤٣) . والروح القدس عينه يفتح قلب يوحنا المعمدان في أحشاء أليصابات أمام تلك التي تحمل الله الذي سيتجسد ويصبح بَشَراً .
في هذا اللقاء وأمام هذا المشهد الرائع ، تهتف أليصابات : ” ما إن وقَعَ صوتُ سلامِكِ في أُذُنَيَّ حتى ارتكَضَ الجنينُ ابتِهاجاً في بطني ” ( لوقا ١ : ٤٣ – ٤٤ ) . رقص يوحنا فرِحاً أمام يسوع وهو في بطنِ أُمّهِ ، كَذَلِكَ رقص الملك داود أمام تابوت عهد الرب الذي عاد أخيراً إلى الوطن الأم ( صموئيل الثاني ٦ : ١٦ ). يرقص يوحنا المعمدان في أحشاء أمه أمام تابوت العهد على مثال داود النبي ، وبهذا يعترف أن مريم هي تابوت العهد الجديد ، وأمامها يرقص القلب ابتهاجاً ، وهي أم الله الحاضر في العالم الذي لا يحتفظ بألوهيته لذاته، بل يقدمها مشاركاً إيانا بنعمة الرب . وهكذا مريم هي : ” تابوت العهد ” الذي من خلاله يحضر الرب حقًا في وسطنا.
عندما نتأمل بحياة مريـم ، نتحدث عنها ، ولكن بشكل خاص نتحدث أيضاً عن ذواتنا، عن كُلّ واحدٍ منَّا : فنحن أيضاً ، أبناء العهد الجديد ، محط محبة الله العظيمة التي خصَّ بها مريم بشكل خاص جداً ومميز ، ولا يتكرر في التاريخ .
في عيد الإنتقال المجيد هذا ننظر إلى مريم التي تفتح قلوبنا على الرجاء ، رجاء مستقبل مليء بالفرح ، وتعلّمنا الطريق للوصول إليه : من خلال قبول إبنها بالإيمان . ونحن على ثقة لا نخسر أبداً الصداقة معه ، بل لنسمح له أن ينيرنا وأن يهدينا بكلمته ، لكي نتبعه كل يوم ، حتى في الأوقات الصعبة ، التي نظن فيها أن صلباننا قد أصبحت ثقيلة .
مريم ، تابوت العهد الجديد القائم في هيكل السماوات ، تُبيّن لنا بوضوحٍ نَيّر أننا في طريقنا نحو الملكوت السماويّ ، بيتنا الحقيقي ، لنعيش شركة الفرح والسلام مع الله وإبنه يسوع المتجسّد من العذراء مريـم .
+ المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك