Pixabay CC0 PD

الإرشاد الرسولي سبّحوا الله للبابا فرنسيس

إلى كلّ ذوي الإرادة الصالحة حول الأزمة المناخية

Share this Entry

1. “سبِّحوا الله على جميع خلائقه”. هذه هي الدّعوة التي كان يوجِّهُها القدّيس فرنسيس الأسيزي بحياته وأناشيده وأعماله. هكذا استعاد نشيد المزامير في الكتاب المقدّس، وأحيَا في نفسه مشاعر يسوع أمام مخلوقات أبيه: “اعتَبِروا بِزَنابقِ الحَقْلِ كيفَ تَنمو، فلا تَجهَدُ ولا تَغزِل. أَقولُ لَكُم إِنَّ سُلَيمانَ نَفْسَهُ في كُلِّ مَجدِه لم يَلبَسْ مِثلَ واحدةٍ مِنها” (متّى 6، 28-29). “أَما يُباعُ خَمسَةُ عَصافيرَ بِفَلسَيْن، ومَعَ ذٰلكَ فما مِنها واحِدٌ يَنساهُ الله” (لوقا 12، 6). كيف لا نشارك في حنان يسوع هذا أمام جميع الخلائق التي ترافقنا في مسيرة حياتنا؟

2. مرَّتْ ثماني سنوات منذ أن نشرت رسالتي العامّة ”كُن مُسَبَّحًا“. أردت بها أن أشارككم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات على كوكبنا المعذَّب، همومي العميقة بشأن الاهتمام ببيتنا المشترك. ولكن مع مرور الوقت، أدرك أنّ ردود الفعل ليست كافية، والعالم الذي يرحّب بنا ينهار، وربّما يقترب من نقطة النّهاية. وما عدا هذا الاحتمال، لا شكّ أنّ تأثير التّغيّر المناخيّ سيلحق ضررًا متزايدًا بحياة أشخاص كثيرين وعائلات. وسنشعر بآثارها في مجالات الصّحّة ومصادر العمل والوصول إلى الموارد والإسكان والهجرة القسريّة وغيرها من المجالات.

3. إنّها مشكلة اجتماعيّة عالميّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكرامة الحياة الإنسانيّة. لقد عبَّر أساقفة الولايات المتّحدة بشكل جيّد جدًّا عن البعد الاجتماعيّ لاهتمامنا بشأن تغيّر المناخ الذي هو أكثر من كونه مشكلة بيئيّة، لأنّ “اهتمامنا بالآخرين واهتمامنا بالأرض مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. وتغيُّر المناخ هو أحد التّحدّيات الرّئيسيّة التي يجب على المجتمع والأسرة الدّوليّة أن تواجهها. والذي يقع ضحيّة تغيّر المناخ هم أكثر النّاس فقرًا وضعفًا، سواء في الوطن أم في جميع أنحاء العالم” [1]. بكلمات قليلة، قالها أيضًا الأساقفة الحاضرون في سينودس الأمازون: “إنّ الاعتداءات على الطّبيعة لها عواقب على حياة الشّعوب” [2]. ولاستخدام عبارة أقوى، نقول إنّ القضيّة ليست قضيّة ثانويّة أو أيديولوجيّة، بل هي مأساة تلحق الضّرّر بنا جميعًا. وأكّد الأساقفة الأفارقة في تصريح لهم أنّ تغيّر المناخ يكشف “مثالًا صادمًا للخطيئة في هيكليّات الإنسانيّة” [3].

4. إنّ التّأمّلات والمعلومات التي يمكننا جمعها من هذه السّنوات الثّماني الماضية تسمح لنا بتحديد وإكمال ما أمكننا تأكيده منذ فترة طويلة. لهذا السّبّب، ولأنّ الوضع أصبح أكثر إلحاحًا، أردت أن أشارككم هذه الصّفحات.

1. أزمة المناخ العالميّة

5. بقدر ما يحاولون إنكار أو إخفاء أو تمويه أو إضفاء الطّابع النّسبي على تغيّر المناخ، فإنّ علامات تغيّر المناخ موجودة، وتزداد وضوحًا يومًا بعد يوم. لا يمكن لأحد أن يتجاهل أنّنا شهدنا في السّنوات الأخيرة أحداثًا شديدة: فترات متكرّرة من الحرارة غير العاديّة والجفاف وغيرها من الشّكاوى، التي تئِنُّ بها الأرض، وهذه مجرّد علامات قليلة واضحة لمرض صامت يؤثّر علينا جميعًا. صحيح أنّ كلّ كارثة منفردة لا يمكن أن تُنسَب بشكل روتيني إلى تغيّر المناخ العالمي. ومع ذلك، فمن الممكن التحقُّق من أنّ بعض التّغيّرات المناخيّة التي يسبّبها الإنسان تزيد بشكل كبير من احتمال حدوث ظواهر شديدة استثنائيّة تتكرّر وتزداد خطورة. ولهذا السّبّب نعلَم أنّه في كلّ مرّة ترتفع فيها درجة الحرارة العالميّة بمقدار 0.5 درجة مئويّة، تزداد أيضًا، في بعض المناطق، شدّة وتواتر هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات، وفي غيرها الجفاف الشّديد، أو الحرارة الشّديدة، أو تساقط الثّلوج بغزارة في مناطق أخرى. [4] إذا كان من الممكن حتّى الآن أن نواجه موجات حارّة عدة مرّات في السّنة، فماذا سيحدث مع زيادة درجة الحرارة العالميّة بمقدار 1.5 درجة مئويّة، وهو ما نقترب منه؟ ستزداد وتشتد كثيرًا موجات الحرارة هذه. وإن تجاوزت الحرارة درجتَين مئويّتَين، فإنّ الغطاء الجليديّ في جرينلاند وجزءًا كبيرًا من القارّة القطبيّة الجنوبيّة سوف تذوب بصورة تامّة، [5] وسيكون لها عواقب هائلة وخطيرة للغاية على الجميع.

مقاومة وارتباك

6. في السّنوات الأخيرة، كان هناك أشخاص حاولوا الاستخفاف بهذه النّتائج. وادّعوا الاستشهاد بافتراضات علمِيّة، وقالوا إنّ الواقع هو أنّ الكوكب كان دائمًا وسيشهد دائمًا فترات من البرد وفترات من الحرّ الشّديد. لكنّهم ينسون أن يذكروا واقعًا آخر مهمًّا، وهو أنّ ما يحدث اليوم هو تسارع غير عادي في ارتفاع درجات الحرارة، بسرعة ويكفي جيل واحد لذلك، ولسْنا بحاجة إلى قرون أو آلاف السّنين. يمكن لأيّ شخص في مدّة حياته أن يرى بسهولة ارتفاع مستوى سطح البحر وذوبان الطّبقات الجليديّة، وربما في غضون سنوات قليلة سيضطرّ العديد من السّكان إلى نقل منازلهم بسبب هذه الأحداث.

7. للاستهزاء من قول الذين يتحدّثون عن ارتفاع الحرارة، يلجأ البعض إلى القول إنّ هناك أيضًا ظواهر برودة شديدة متكرّرة. لكنّهم ينسون أنّ هذه الظّواهر وغيرها من الأعراض غير العاديّة ليست سوى تعبيرات بديلة مختلفة، للسّبّب نفسه: الخلل العالميّ الذي يسبّبه ارتفاع الحرارة العالميّ. حالات الجفاف والفيضانات، وجفاف البحيرات أو السّكان الذين أصيبوا بالعواصف البحريّة أو الفيضانات، كلّها لها في النّهاية نفس المصدر. ومن ناحية أخرى، إنّا نتحدّث عن ظاهرة عالميّة، ولا يمكن أن نخلطها بأحداث عابرة ومتغيّرة، يمكن أن تفسّر معظمها عوامل محليّة.

8. يؤدّي نقص المعلومات إلى الخلط بين الظّواهر المناخيّة الكبيرة التي تستغرق فترات طويلة – نتحدّث عن عقود على الأقل – وبين التّنبّؤات الجويّة التي يمكن أن تحدث في بضعة أسابيع على الأكثر. عندما نتحدّث عن تغيّر المناخ، فإنّنا نتحدّث عن واقع عالميّ – مع تغيّرات محليّة ثابتة – يستمرّ لعدّة عقود.

9. وبادّعاء تبسيط الواقع، يوجد من يلوم الفقراء لأنّ لديهم الكثير من الأطفال، بل ويحاولون حلّ المشكلة بتشويه النّساء في البلدان غير النّامية. وكما هو الحال دائمًا، يبدو أنّ الخطأ يقع دائمًا على الفقراء. ولكن الحقيقة هي أنّ نسبة مئويّة منخفضة، وهي الأغنى، من سكان العالم، تسبِّبُ تلوّثًا أكثر من 50% من سكّان العالم الفقراء، وأنّ نسبة الانبعاثات للفرد الواحد في البلدان الغنيّة هي أعلى بكثير منها في البلدان الفقيرة. [6] وكيف يمكننا أن ننسى أنّ أفريقيا، التي تضمّ أكثر من نصف أفقر النّاس على هذا الكوكب، هي سبب فقط عن جزء صغير من الانبعاثات التّاريخيّة؟

10. وكثيرًا ما يقال أيضًا إنّ الجهود المبذولة للتّخفيف من تغيّر المناخ، بالحدّ من استخدام الوقود الأحفوريّ، وتطوير مصادر طاقة نظيفة، ستؤدّي إلى انخفاض فرص العمل. ما يحدث هو أنّ الملايين من النّاس يفقدون وظائفهم بسبب العواقب المختلفة لتغيّر المناخ: ارتفاع مستوى سطح البحر والجفاف والعديد من الظّواهر الأخرى التي تؤثّر على الكوكب، ما سبّب أنّ الكثيرين صاروا حيارى لا يدرون ماذا يعملون. ومن ناحية أخرى، فإنّ التّحوّل نحو أشكال الطّاقة المتجدّدة، إذا تمّت إدارتها بشكل جيّد، وكذلك جميع الجهود المبذولة للتكيّف مع أضرار تغيّر المناخ، قادرة على توليد عدد لا يحصى من فرص العمل في مختلف القطاعات. وهذا يتطلّب أن يهتمّ الآن السّياسيّون ورجال الأعمال بهذه الظّاهرة.

أسباب بشريّة

11. لم يعد من الممكن الشّكّ في الأصل البشريّ ”الإنسانيّ“ في تغيّر المناخ. دعونا نرى لماذا. بقي تركيز الغازات الدّفيئة في الغلاف الجوّي، والذي يسبّب الاحتباس الحراريّ بسبب هذا التّأثير، مستقرًّا حتّى القرن التّاسع عشر، بأقلّ من 300 جزء في المليون من حيث الحجم. ولكن في منتصف ذلك القرن، وبالتّزامن مع التّنمية الصّناعيّة، بدأت الانبعاثات بالازدياد. وفي الخمسين سنة الماضية تسارعت الزّيادة بشكل ملحوظ، كما أكّد مرصد مونا لوا (Mauna Loa)، الذي راقب متوسّط الحرارة اليوميّة لثاني أكسيد الكربون منذ سنة 1958. وبينما كنت أكتب ”كُنْ مُسَبَّحًا“، تمّ الوصول إلى الحدّ الأقصى في التّاريخ – 400 جزء في المليون – حتّى وصل إلى 423 جزءًا في المليون في حزيران/يونيو 2023. [7] أكثر من 42% من إجمالي الانبعاثات منذ سنة 1850 حدث بعد سنة 1990. [8]

12. وفي الوقت نفسه نلاحظ أنّ درجة الحرارة ارتفعت في الخمسين سنة الماضية بسرعة غير مسبوقة، لم يكُنْ لها مثيل في الألفي سنة الماضية. وفي هذه الفترة كان الاتّجاه نحو ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 0.15 درجة مئويّة في كلّ عقد، وهو ضعف ما حدث في السّنوات الـ 150 الماضية. فمنذ سنة 1850 وحتّى اليوم، ارتفعت درجة الحرارة العالميّة بمقدار 1.1 درجة مئويّة، وهي ظاهرة تتفاقم في المناطق القطبيّة. وبهذا المعدّل، من الممكن أن نصل في غضون عشر سنوات إلى الحدّ الأقصى العالميّ الذي يمكن أن نريده لدرجات الحرارة وهو 1.5 درجة مئويّة. [9] وليست الزّيادة على سطح الأرض فقط، بل أيضًا على ارتفاع عدّة كيلومترات في الغلاف الجوّي، وعلى سطح المحيطات، وحتّى في الأعماق لمئات الأمتار. أدّى هذا أيضًا إلى زيادة حموضة البحار وانخفاض مستويات الأكسجين فيها. تتراجع الأنهار الجليديّة، ويتقلّص الغطاء الثّلجي، ويرتفع مستوى سطح البحر باستمرار. [10]

13. ولا يمكن إخفاء تزامن هذه الظّواهر المناخيّة العالميّة مع الزّيادة المتسارعة في انبعاث الغازات الدّفيئة، خاصّة منذ منتصف القرن العشرين. وتؤيّد الغالبيّة العظمى من علماء المناخ هذه العلاقة، مع وجود نسبة ضئيلة منهم التي تنكر هذه الأدلّة. من المؤسف أنّ أزمة المناخ ليست بالضّبط قضيّة تهمّ القوى الاقتصاديّة الكبرى، المعنيّة بأعلى إيرادات بأقلّ تكلفة وفي أقصر وقت ممكن.

14. أنا مجبر على تقديم بعض التّوضيحات التي قد تبدو بديهيّة، وذلك بسبب بعض الآراء الازدرائيّة وغير العاقلة التي أجدها حتّى داخل الكنيسة الكاثوليكيّة. ولكن لم يعد بوسعنا أن نشكّ في أنّ السّبّب وراء السّرعة غير العاديّة لهذه التّغيّرات الخطيرة هو حقيقة لا يمكن إنكارها: وهي التّطوّرات الهائلة نتيجة التّدخّل البشريّ الجامح في الطّبيعة في القرنين الماضيين. إنّ العناصر ذات الأصل الطّبيعيّ والتي عادة ما تسبّب الاحتباس الحراريّ، مثل الانفجارات البركانيّة وغيرها، غير كافية لتفسير معدّل وسرعة التّغيّرات في العقود الأخيرة. [11] ولا يمكن أن يفسَّر تطوّر متوسّط ​​درجات الحرارة السّطحيّة دون تأثير الزّيادة في الغازات الدّفيئة.

الأضرار والمخاطر

15. بعض مظاهر أزمة المناخ التي حدثت لا يمكن الرّجوع بها إلى الوراء، قبل مئات السّنين على الأقلّ، مثل ارتفاع درجة الحرارة العالميّة في المحيطات، وتحمّضها، وانخفاض الأكسجين. بلغت مياه المحيط جمودًا في الحرارة، وتحتاج إلى قرون للتّعديل بين درجة الحرارة والملوحة، وهذا يؤثّر على بقاء العديد من الأنواع الحيوانيّة في المحيط. هذه علامة من بين علامات أخرى كثيرة على أنّ المخلوقات الأخرى في هذا العالم انقطعت، ولم تعد رفيقة درب لنا، بل صارت ضحايا لنا.

16. ويجب أن يقال الشّيء نفسه عن العمليّة التي تؤدّي إلى تناقص الجليد القارّيّ. ذوبان القطبَين، لا يمكن إصلاحه أو العودة به إلى ما كان قبل مئات السّنين. وفيما يختصّ بالطّقس، هناك عوامل تسير مدّة فترة طويلة، بغضّ النّظر عن الأحداث التي أدّت إلى حدوثها. ولهذا السّبّب، لم يعد بإمكاننا وقف الضّرر الهائل الذي سبّبناه. لكن ما زال لدينا الوقت لتجنّب المزيد من الأضرار المأساويّة.

17. تبدو بعض التّشخيصات الرّؤيويّة غير معقولة أو غير مبنيّة على أسس كافية. لكن هذا ينبغي ألّا يدفعنا إلى أن نتجاهل أنّ إمكانيّة الوصول إلى مرحلة تغيير حاسمة هو أمر حقيقيّ. وهذا واقع. التّغييرات الصّغيرة يمكن أن تؤدّي إلى تغييرات أكبر وغير متوقّعة، وربما لا رجعة فيها بالفعل، وذلك بسبب عوامل الجمود في الحركة. وهذا من شأنه أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى بدء سلسلة من الأحداث التي تتسارع مثل كرة الثّلج. وفي مثل هذه الحالة، سيكون الوقت متأخّرًا دائمًا، لأنّه لن يكون ممكنًا التّدخّل لوقف العمليّة التي بدأت. لا عودة من حيث وصلنا. لا يمكننا أن نؤكّد في ظلّ الظّروف الحاليّة، أنّ هذا سيحدث. نعم، من المؤكّد أنّ ذلك لا يزال ممكنًا إذا أخذنا في الاعتبار الظّواهر الجارية بالفعل والتي ”تتسبّب في حساسيّة“ المناخ، مثل انخفاض الجليد، والتّغيّرات في تيّارات المحيط، وإزالة الغابات الاستوائيّة، وذوبان التّربة الصّقيعيّة في روسيا. [12]

18. ولذلك، إنّا نحتاج بصورة مُلِحَّة إلى رؤية أوسع تسمح لنا ليس فقط بالتّعجّب أمام إنجازات التّقدّم، بل تسمح لنا أيضًا بالاهتمام بالآثار الأخرى التي ربّما لم يكن من الممكن حتّى تصوّرها قبل قرن من الزّمان. لا شيء يُطلَب منّا سوى بعض المسؤوليّة، تجاه الميراث الذي سنتركه بعد مرورنا في هذا العالم.

19. أخيرًا، يمكننا أن نضيف أنّ جائحة كوفيد-19 قد أثبتت العلاقة الوثيقة بين حياة الإنسان وحياة الكائنات الحيّة الأخرى ومع البيئة. لكنّها أكّدت بشكل خاصّ أنّ ما يحدث في أيّ مكان في العالم له تداعيَات على الكوكب بأكمله. وهذا يسمح لي بأن أكرِّر وألحّ على فكرتَين: ”كلّ شيء مترابط“ و”لا أحد يَخلُصُ وحده“.

2. النّموذج التّكنوقراطيّ المتنامي

20. في الرّسالة العامّة ”كُنْ مُسَبَّحًا“ قدّمت شَرحًا موجزًا ​​عن النّموذج التّكنوقراطيّ الذي يقف وراء عمليّة التّدهور البيئيّ الحاليّة. إنّه “طريقة منحرفة لفهم الحياة والعمل الإنسانيّ، وتناقض الواقع إلى حدّ الإضرار به” [13]. وهو في الواقع يعتبر “كما لو أنّ الواقع والخير والحقيقة تنبثق تلقائيًّا من نفس القوّة التّكنولوجيّة والاقتصاديّة” [14]. وكنتيجة منطقيّة، “ننتقل بسهولة إلى فكرة النّمو اللامتناهي أو غير المحدود، التي أثارت حماسة كبيرة لدى الاقتصاديّين والمموّلين وخبراء التّكنولوجيا” [15].

21. في السّنوات الأخيرة تمكّنا من تأكيد هذا التّشخيص، وفي الوقت نفسه، شهدنا تقدّمًا جديدًا في النّموذج المذكور. يعتمد الذّكاء الاصطناعيّ وآخر التّطورات التّكنولوجيّة على فكرة الإنسان بلا حدود، والذي يمكن أن تمتدّ قدراته وإمكانيّاته إلى ما لا نهاية بفضل التّكنولوجيا. وهكذا، فإنّ النّموذج التّكنوقراطيّ يغذّي نفسه بشكل وحشيّ.

22. ممّا لا شكّ فيه أنّ الموارد الطّبيعيّة التي تتطلّبها التّكنولوجيا، مثل الليثيوم والسّيليكون وغيرها الكثير، ليست غير محدودة، ولكن المشكلة الأكبر هي الأيديولوجيّة التي تغذّي هذا الهوس: زيادة القوّة البشريّة إلى ما هو أبعد ممّا يمكن تصوّره، وأمام هذا الموقف، كلّ الواقع غير البشريّ هو مجرّد أداة لخدمة الإنسان. وكلّ ما هو موجود بدلًا من أن يكون عطيّة تُقَدَّر، وله قيمتها ويعتنى به، يصير عبدًا، وضحيّة لأيّ نزوة للعقل البشريّ وإمكانيّاته.

23. إنّه مثير للقلق الشّديد، أن نلاحظ أنّ القدرات التي تضخِّمُها التّكنولوجيا تمنح “الذين لديهم المعرفة، ولاسيّما القوّة الاقتصاديّة لاستخدامها، هيمنة مذهلة على البشريّة جمعاء وعلى العالم أجمع. لم تتمتّع الإنسانيّة من قبل بمثل هذا القدر من السّلطة على نفسها، وليس ما يضمن أنّها ستحسن استخدامها، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار الطّريقة التي تستخدمها اليوم […]. في أيدي مَن يمكن أن تكون هذه السّلطة، وإلى أيّ حدّ يمكن أن تصل؟ إنّها مغامرة كبرى وهي في يد جزء صغير من البشريّة” [16].

إعادة النّظر في استخدامنا قُدُراتنا

24. ليست كلّ زيادة في القُدرة تقدّمًا للبشريّة. لنفكِّر فقط في التّقنيّات ”المدهشة“ التي تمّ استخدامها لإبادة شعوب بأسرها، وقذف القنابل الذّريّة، وإبادة مجموعات عرقيّة. كانت لحظات تاريخيّة، الإعجاب بالتّقدّم فيها، لم يسمح لنا برؤية آثاره المرعبة. وهذا الخطر قائم دائمًا، لأنّ “النّمو التّكنولوجيّ الهائل لم يرافقه تطوّر في الإنسان وفي حسّ المسؤوليّة والقيَم والضّمير […]. الإنسان عارٍ ومكشوف أمام قدرته التي تستمرّ في النّمو، دون أن تكون له العناصر اللازمة للسّيطرة عليها. قد يكون لديه آلات سطحيّة لذلك، لكن يمكننا القول إنّه يفتقر إلى الأخلاق الرّاسخة والثّقافة والرّوحانيّة التي تضع أمامه الحدود وتثبِّته في زهد صريح بالنّفس” [17]. ليس غريبًا أنّ مثل هذه المقدرة العظيمة في مثل هذه الأيدي قادرة على تدمير الحياة، في حين أنّ مصفوفة الفكر النّموذجيّة للنموذج التّكنوقراطيّ تعمينا ولا تسمح لنا برؤية هذه المشكلة الخطيرة للإنسانيّة الحاليّة.

25. في مواجهة هذا النّموذج التّكنوقراطيّ، نقول إنّ العالم من حولنا ليس موضوعًا للاستغلال، أو الاستخدام غير المحدود، أو الطّموح غير المحدود. ولا يمكننا حتّى أن نقول إنّ الطّبيعة مجرّد ”إطار“ نطوّر فيه حياتنا ومشاريعنا، لأنّنا “مندمجون فيها، ونحن جزء منها ومتداخلون فيها” [18]، “فلا نشاهد العالم من الخارج ولكن من الدّاخل” [19].

26. هذا يستبعد الفكرة أنّ الإنسان غريب، وأنّه عامل خارجيّ يستطيع فقط أن يضرّ بالبيئة. بل ينبغي اعتباره جزءًا من الطّبيعة. إنّ حياة الإنسان وعقله وحرّيّته جزء من الطّبيعة، وتُثري كوكبنا، وهي جزء من قواه الدّاخليّة وتوازنه.

27. ولهذا السّبّب، فإنّ البيئة السّليمة هي ثمرة تفاعل الإنسان مع البيئة، كما يحدث في ثقافات السّكان الأصليّين وكما حدث منذ قرون في مناطق مختلفة من الأرض. لقد ”خلقت“ المجموعات البشريّة البيئة في كثير من الأحيان، [20] وأعادت صياغتها بطريقة ما دون تدميرها أو تعريضها للخطر. والمشكلة الكبرى اليوم هي أنّ النّموذج التّكنوقراطيّ دمّر هذه العلاقة السّليمة والمتناغمة. وعلى أيّة حال، فإنّ التّغلّب الذي لا غنى عنه على هذا النّموذج الضّارّ والمدمّر كثيرًا لن يكون في إنكار الإنسان، بل يقتضي تفاعل النّظم الطّبيعيّة “مع النّظم الاجتماعيّة” [21].

28. علينا أن نعيد التّفكير معًا في قضيّة قُدرة الإنسان: ما معناها؟ وما هي حدودها؟ لأنّ قدرتنا زادت بشكل محموم في غضون بضعة عقود فقط. لقد حقّقنا تقدّمًا تكنولوجيًّا باهرًا ومذهلًا، ولا ندرك أنّنا في الوقت نفسه أصبحنا كائنات شديدة الخطورة، قادرة على أن تعرّض للخطر حياة العديد من الكائنات وتهدِّد بقاءنا نفسه. ومن الجدير أن نكرّر اليوم قول سولوفييف (Soloviev) السّاخر: “إنّه قرن متقدّم للغاية، ومن حسن حظّه أنّه الأخير” [22]. يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا وأن نرى وأن نعترف، ما زال الأمر ممكنًا، أنّ مقدرتنا والتّقدّم الذي نحقّقه ينقلب علينا. [23]

المنبِّه الأخلاقيّ

29. يختفي الانحدار الأخلاقيّ للسّلطة الواقعيّة تحت قناع التّسويق والمعلومات الكاذبة، وهي آليّات مفيدة في أيدي الذين لديهم وسائل أكبر للتّأثير من خلالها على الرّأي العام. بمساعدة هذه الآليّات، عندما يُخطَّط لبدء مشروع له تأثير شديد على البيئة وتأثيرات تلوّث عالية، يوهِمون سكّان المنطقة بأنّه سيتحقّق تقدّم للمكان، وستتوفّر إمكانات اقتصاديّة فيها فرص عمل، وتقدّم بشريّ، لأبنائهم. لكن في الواقع، هناك نقص في الاهتمام الحقيقيّ بمستقبل هؤلاء الأشخاص، لأنّهم لا يقولون لهؤلاء النّاس أنّ هذا المشروع سيترك بعده أرضًا مدمّرة، في حالة غير مناسبة للعيش والازدهار، ومنطقة مقفرة، أقلّ صلاحيّة للسّكن، لا حياة فيها وليس فيها فرح العيش معًا والأمل، بالإضافة إلى الأضرار العالميّة التي تؤدّي إلى الإساءة إلى كثيرين.

30. يكفي أن نفكّر في الحماس الزّائل للأموال التي تُعطَى مقابل كَبّ النّفايات السّامة في مكان ما. البيت الذي كان يمكن شراؤه بهذا المال أصبح هنا قبرًا بسبب الأمراض التي تفشّت فيه. وأنا لا أتحدّث عن فائض من الخيال، بل عن شيء اختبرناه. يمكن القول إنّ هذا مثال مبالَغ فيه، لكن لا يمكن الحديث هنا عن أضرار ”بسيطة“، لأنّ مجموع الأضرار العديدة الذي  يُعتبَر أنّه مقبول هو الذي أدّى بنا إلى الوضع الذي نحن فيه الآن.

31. هذا الوضع ليس له صلة فقط بالفيزياء أو البيولوجيا، بل بالاقتصاد وطريقة تصوّرنا له. إنّ منطق تحقيق أقصى قدر من المنفعة بأقلّ تكلفة، ثمّ يُقنَّع بقناع العقلانيّة والتّقدّم والوعود الوهميّة، وذلك يجعل من المستحيل أيّ اهتمام صادق بالبيت المشترك وأيّ اهتمام بالمهمّشين في المجتمع. في السّنوات الأخيرة، أمكننا أن نقف، بذهول واندهاش، أمام وعود العديد من الأنبياء الكذبة، والفقراء أنفسهم أحيانًا خُدِعُوا بعالم لم يُبنَ لهم.

32. تُطَوَّر اليوم مشاريع مبهمة حول ما يسمّى ”بحكم الجدارة“، الذي تحوَّلَ إلى قوّة بشريّة ”تستحقّ“ أن تتميّز، ويجب أن يخضع لها كلّ شيء، لصالح الذين ولدوا في ظروف إنمائيّة أفضل. إنّ الخطّة السّليمة المبنيّة على قيمة الجهد، وتنمية قدرات الفرد وروح المبادرة الحميدة، هذا أمر. أمّا إن لم يكن هناك مساواة حقيقيّة في الفرص، فإنّ ”حكم الجدارة“ يصبح بسهولة وسيلة تعزّز امتيازات القلّة الذين يتمتّعون بسلطة أكبر. وضمن هذا المنطق المنحرف، ما أهميّة الضّرّر الذي يلحق ببيتنا المشترك، ما داموا هم يشعرون بالأمان تحت قناع مزيَّف للموارد الاقتصاديّة التي حصلوا عليها بقدرتهم وجهدهم؟

33. في ضمير المرء، وأمام وجوه الأبناء الذين سيدفعون ثمن أفعالهم، يُطرَح السّؤال عن المعنى: ما معنى حياتي، ما معنى مروري بهذه الأرض؟ وفي النّهاية ما معنى عملي والتزامي؟

 

3. ضعف في السّياسة الدّوليّة

34. على الرّغم من أنّ “التّاريخ يُظهر في زمننا علامات رجوع إلى الوراء […]، على كلّ جيل أن يتابع نضالات وإنجازات الأجيال السّابقة، وأن يسير بها إلى مستويات أعلى. هذا هو الطّريق. الخير، والحبّ والعدل والتّضامن، كلّ هذه لا تتحقّق مرّة واحدة وإلى الأبد، بل تُكتَسَبُ كلّ يوم” [24]. ومن أجل تحقيق تقدّم قويّ ودائم، إنّي أؤكّد على “ضرورة التّمسك بالاتفاقيّات المتعدّدة الأطراف بين الدّول” [25].

35. ليس من المناسب الخلط بين تعدّديّة الأطراف وبين سلطة عالميّة تتركّز في شخص أو في نخبة تتمتّع بسلطة مفرطة: “عندما نتكلّم على إمكانيّة وجود شكل ما من أشكال السّلطة العالميّة يحكمها القانون، يجب ألّا نفكِّر بالضّرورة في سلطة محصورة في أشخاص” [26]. لنتكلّم خصّوصًا على “أكثر المنظمّات العالميّة فعّاليّة، والتي تتمتّع بسلطة لضمان الصّالح العام العالميّ، والقضاء على الجوع والبؤس، والدّفاع الأكيد عن حقوق الإنسان الأساسيّة” [27]. المشكلة هي أنّه يجب أن تكون لها سلطة حقيقيّة، فتقدر أن ”تضمن“ تحقيق بعض الأهداف غير القابلة للتّصرّف. هكذا تقام سلطة متعدّدة الأطراف لا تعتمد على الظّروف السّياسيّة المتغيّرة أو على مصالح بعض الأشخاص، بل تكون لها فعّاليّة مستقرّة.

36. ومن المؤسف أنّ الأزمات العالميّة تضيع سدى، مع أنّها قد تكون مناسبة لإحداث تغييرات سليمة. [28]هذا ما حدث في الأزمة الماليّة 2007-2008، وتكرّر مرّة أخرى في أزمة كوفيد-19. لأنّه “يبدو أنّ الاستراتيجيّات الحقيقيّة التي تمّ تطويرها لاحقًا في العالم كانت موجّهة نحو المزيد من الفرديّة، والمزيد من التّفكّك، والمزيد من الحرّيّة للأقوياء الذين يجدون دائمًا طريقة للخروج سالمين” [29].

إعادة صياغة التّعدّديّة

37. ويبدو أنّ التّحدي الحالي ليس إنقاذ التّعدّديّة القديمة، بل هو إعادة صياغة التّعدّديّة وإنشاؤها من جديد، مع مراعاة الوضع العالميّ الجديد. أدعوكم إلى الاعتراف بأنّ “العديد من جمعيّات ومنظمّات المجتمع المدني تساعد في التّخفيف من نقاط ضعف المجتمع الدّوليّ، وافتقاره إلى التّنسيق في المواقف المعقّدة، وعدم اهتمامه بحقوق الإنسان” [30]. في هذا الصّدد، تعتبر عمليّة أوتاوا لمكافحة استخدام وإنتاج وتصنيع الألغام المضادّة للأفراد مثالًا يوضح كيف أنّ المجتمع المدني بمنظّماته قادر على خلق ديناميّات فعّالة لا تستطيع الأمم المتّحدة تحقيقها. وبهذه الطّريقة، يتمّ تطبيق مبدأ ”التّبعيّة“ أيضًا على العلاقة العالميّة المحليّة.

38. وفي الأجل القريب، تدعم العولمة التّبادلات الثّقافيّة التّلقائيّة، وزيادة في المعرفة المتبادلة، وإيجاد مسارات لدمج الشّعوب، تؤدّي في نهاية المطاف إلى إقامة تعدّديّة الأطراف ”من الأسفل“، وليس فقط نتيجة قرار من النّخب الحاكمة. إنّ المطالب التي تأتي من الأسفل في جميع أنحاء العالم، حيث يساعد الأشخاص الملتزمون من مختلف البلدان ويرافقون بعضهم بعضًا، يمكن أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى الضّغط على عوامل القوّة. ونرجو أن يتمّ هذا فيما يتعلّق بأزمة المناخ. ولهذا السّبّب أكرّر أنّه “إذا لم يراقب المواطنون السّلطة السّياسيّة – الوطنيّة والإقليميّة والبلديّة -، فلن يكون من الممكن السّيطرة على الضّرّر البيئيّ أيضًا” [31].

39. ولّدت ثقافة ما بعد الحداثة حساسيّة جديدة تجاه الأضعفين والمحرومين من السّلطة. وهذا له صلة بإصراري في رسالتي العامّة ”كلّنا إخوة – Fratelli tutti“ على أولويّة الإنسان والدّفاع عن كرامته، أيًّا كانت الظّروف. إنّها طريقة أخرى للدّعوة إلى التّعدّديّة من أجل حلّ المشاكل الحقيقيّة للإنسانيّة، والسّعي قبل كلّ شيء إلى احترام كرامة الإنسان بحيث تكون للأخلاق الأولويّة على وسائل الرّاحة المحليّة أو الظّرفيّة.

40. ليس الأمر هو تغيير السّياسة، لأنّه من ناحية أخرى، أصبحت القوى النّاشئة ذات أهمّيّة متزايدة، وهي في الواقع قادرة على الحصول على نتائج مهمّة في حلّ مشاكل محدّدة، كما أظهر بعضها ذلك في زمن الجائحة. وبما أنّ الحلول للمشاكل يمكن أن تأتي من كلّ بلد، مهما كان صغيرًا، كلّ ذلك في النّهاية يؤدّي إلى تقديم التّعدّديّة على أنّها مسار لا مفرَّ منه.

41. ولا تزال الدّبلوماسيّة القديمة، التي تمرّ بأزمة أيضًا، تظهر أهمّيّتها وضرورتها. لم تتمكّن بعد من إيجاد نموذج للدّبلوماسيّة المتعدّدة الأطراف القادرة على الاستجابة لصياغة جديدة للعالم، ولكن إذا كانت تعرف كيف تعيد صياغة نفسها، فلابدّ من أن تكون جزءًا من الحلّ، لأنّنا لا يمكن أن نُلقِي جانبًا خبرات القرون.

42. لقد أصبح العالم متعدّد الأقطاب وفي نفس الوقت معقَّدًا إلى درجة حتّى صار يتطلَّب إطارًا مختلفًا للتّعاون الفعَّال. ولا يكفي التّفكير في توازن القوى، بل يجب أيضًا التّفكير في ضرورة الاستجابة للتّحديّات الجديدة والرّد عليها بآليّات عالميّة، أمام التّحديّات البيئيّة والصّحيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة، وخاصّة لتعزيز احترام أبسط حقوق الإنسان، والحقوق الاجتماعيّة، ورعاية البيت المشترك. يجب إنشاء قواعد عالميّة وفعّالة من شأنها أن تقدِّم ضمانًا لهذه الرّعاية العالميّة.

43. كلّ هذا يفترض إيجاد طرق جديدة لاتّخاذ القرار وإضفاء الشّرعيّة على تلك القرارات، لأنّ الطّرق التي وُضِعَت منذ عدّة عقود لم تعد كافية ولا فعّالة. وفي هذا الإطار، هناك حاجة بالضّرورة إلى مساحات للحوار والتّشاور والتّحكيم وحلّ النّزاعات والإشراف، وفي نهاية المطاف نوع من ”الدّيمقراطيّة“ العليا على السّاحة العالميّة تستوعب وتعبّر عن المواقف المختلفة. ولن يفيدنا بعد الآن إبقاء المؤسّسات للحفاظ على حقوق الأقوى دون الاهتمام بالجميع.

4. مؤتمرات حول المناخ: التّقدّم والإخفاقات

44. على مدى عقود من الزّمن، اجتمع ممثّلو أكثر من 190 بلدًا بانتظام لمناقشة قضيّة المناخ. أدّى مؤتمر ريو دي جانيرو سنة 1992 إلى قبول اتفاقيّة الأمم المتّحدة الإطاريّة بشأن تغيّر المناخ (UNFCCC)، وهي معاهدة دخلت حيّز التّنفيذ عندما تمّ التّوصل إلى المصادقات اللازمة من الدّول الموقّعة عليها في سنة 1994. وتجتمع هذه الدّول كلّ سنة في مؤتمر الأطراف (COP)، وهي أعلى هيئة لصنع القرار. وكان بعضها فاشلًا، مثل ما حدث في كوبنهاجن (2009)، في حين مكّن البعض الآخر من اتّخاذ خطوات مهمّة، مثل مؤتمر الأطراف الثّالث في كيوتو (1997). في البروتوكول البالغ الأهمية لهذا المؤتمر كان الهدف هو خفض انبعاثات الغازات التّراكمية المسبّبة للانحباس الحراريّ في الكوكب بنسبة 5% مقارنة بسنة 1990. وكان الموعد النّهائي في سنة 2012، ولكن من الواضح أنّه لم يتمّ ذلك.

45. التزمت جميع الأطراف كذلك بتنفيذ برامج التّكيّف للحدّ من آثار تغيّر المناخ الجارية بالفعل. كما تمّ تقديم المساعدات لتغطية تكاليف هذه التّدابير في البلدان النّامية. وقد دخل البروتوكول حيّز التّنفيذ في سنة 2005.

46. ​​وفي وقت لاحق، تمّ اقتراح آليّة لها صلَة بالخسائر والأضرار النّاجمة عن تغيّر المناخ، والتي تعترف بأنّ أغنى البلدان هي السّبّب الرّئيسي، وتسعى إلى دفع تعويضات للبلدان الفقيرة عن آثار التّدمير فيها. فلا تُموَّل هذه البلدان لتقدر أن تواجه الأضرار، بل لتعويضها عن الأضرار التي لحقت بها. وكانت هذه القضيّة موضوعمناقشات هامّة في مختلف مؤتمرات الأطراف.

47. كان مؤتمر الأطراف الحادي والعشرون في باريس (2015) لحظة مهمّة أخرى، لأنّه أدّى إلى اتّفاق شارك فيه الجميع. ويمكن اعتباره بداية جديدة، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم تحقيق الأهداف المحدّدة في المرحلة السّابقة. دخلت الاتفاقيّة حيّز التّنفيذ في 4 تشرين الثّاني/نوفمبر 2016. وعلى الرّغم من أنّها اتفاقيّة ملزمة، إلّا أنّ كلّ المتطلّبات فيها غير ملزمة، بالمعنى الدّقيق للكلمة، وبعضها يترك مجالًا لحرّيّة أكبر. ومن ناحية أخرى، حتّى بالنّسبة للالتزامات التي خالفها البعض، لا توجد عقوبات حقيقيّة، ولا توجد بُنَى فعّالة تضمن التّنفيذ. كما أنّها توفّر أشكالًا من المرونة للبلدان النّامية.

48. يمثّل اتفاق باريس هدفًا طويل المدى: إبقاء الزّيادة في متوسّط ​​درجات الحرارة العالميّة أقلّ من درجتين مقارنة بمستويات ما قبل الصّناعة، مع الاستمرار في محاولة الوصول إلى أقلّ من 1.5 درجة. ما زال العمل جاريًا لتمتين الإجراءات العمليّة للمراقبة، وتثبيت معايير عامّة تسمح بالمقارنة بين تحقيق الأهداف في مختلف البلدان. وهذا يجعل من الصّعب إجراء تقييم أكثر موضوعيّة (كميًا) للنّتائج الفعليّة.

49. بعد بعض المؤتمرات التي لم تحقّق سوى نتائج قليلة، وفشل مؤتمر الأطراف الخامس والعشرون في مدريد (2019)، كان من المتوقّع أن يتمّ عكس هذا الجمود في مؤتمر الأطراف السّادس والعشرون في غلاسكو (2021). وكانت نتيجته في الأساس إعادة إطلاق اتّفاق باريس الذي شكّكت فيه ظروف وآثار الجائحة. وأضيفت ”توصيات“ كثيرة كان من الصّعب التّنبّؤ بنتائجها الواقعيّة. وأخفقت المقترحات الرّامية إلى ضمان التّحوّل السّريع والفعّال إلى أشكال بديلة تسبّب تلوُّثًا أقلّ للطّاقة في احراز أيّ تقدّم.

50. تعرّض مؤتمر شرم الشّيخ السّابع والعشرون للأطراف (COP27) سنة 2022 للخطر منذ البداية بسبب الوضع النّاجم عن غزو أوكرانيا، والذي تسبّب في أزمة كبيرة في الاقتصاد وفي الطّاقة. زاد استخدام الفحم، وأراد الجميع أن يضمنوا ما يكفي لهم لاستخدامه. وتعتبر البلدان النّامية الوصول إلى الطّاقة وإمكانيّات التّنمية أولويّة مُلِحّة. وكان هناك اعتراف صادق وواضح أنّ الوقود الأحفوري لا يزال يوفّر في الواقع 80% من الطّاقة التي يحتاج إليها العالم، وأنّ استخدامه في تزايد مستمرّ.

51. كان المؤتمر المصريّ مثالًا آخر على صعوبة المفاوضات. ويمكن القول إنّه أنتج تقدُّمًا واحدًا على الأقلّ في تثبيت نظام التّمويل ”للخسائر والأضرار“ في البلدان المتضرّرة أكثر من غيرها من الكوارث المناخيّة. ويبدو أنّ هذا أسمع صوتًا جديدًا ومشاركة أكبر للبلدان النّامية. ولكن حتّى فيما يتّصل بهذه القضيّة، ظلّت نقاط عديدة غير دقيقة، وخاصّة المسؤوليّة العمليَّة للبلدان التي عليها أن تساهم.

52. اليوم يمكن أن نؤكّد من جديد أنّ “مستوى تنفيذ الاتّفاقات كان منخفضًا بسبب عدم إيجاد آليّات للرّقابة الكافية والمراجعة الدّوريّة والعقوبات في حالة عدم الامتثال. ولا تزال المبادئ المعلنة تتطلّب مسارات فعّالة وسريعة للتّنفيذ العمليّ” [32]. كما أنّ “المفاوضات الدّوليّة لا يمكن أن تتقدّم بشكل كبير بسبب مواقف الدّول التي تعطي الأولويّة لمصالحها الوطنيّة على الصّالح العام العالميّ. والذين سيعانون من النّتائج التي نحاول إخفاءها اليوم سيتذكّرون غياب الضّمير وحسّ المسؤوليّة الذي نعمل به اليوم” [33].

5. ما هو المتوقّع من مؤتمر الأطراف الثّامن والعشرين (COP28) في دبي؟

53. ستستضيف دولة الإمارات العربيّة المتّحدة المؤتمر القادم للأطراف (COP 28). إنّها دولة تقع على الخليج العربي وتتميّز بأنّها مصدر كبير للوقود الأحفوريّ، على الرّغم من أنّها قامت باستثمارات كبيرة في الطّاقة المتجدّدة. وفي الوقت نفسه، تتطلّع شركات النّفط والغاز إلى مشاريع جديدة هناك لزيادة التوسُّع في الإنتاج. إنّ القول بأنّ لا شيء ينبغي لنا أن نتوقعه من هذا المؤتمر هو بمثابة إلحاق الضّرر بالذّات، لأنّه يعني تعريض البشريّة جمعاء، وخاصّة أفقر البلدان، إلى أسوأ التّأثيرات المترتّبة على تغيّر المناخ.

54. إن كنّا نثق بقدرة الإنسان على تجاوز مصالحه الصّغيرة وأن يفكّر بصورة شاملة، فلا يسعنا إلّا أن نحلم بأن يؤدّي مؤتمر الأطراف الثّامن والعشرون إلى تسريع ملحوظ في التّحول في مجال الطّاقة، مع التزامات فعّالة وقابلة للمراقبة الدّائمة. ويمكن لهذا المؤتمر أن يكون نقطة تحوّل، يثبت أنّ كلّ ما تمّ القيام به منذ سنة 1992 كان جدِّيًّا ويستحقّ العناء، وإلّا فإنّه ستكون خيبة أمل كبيرة وقد تُعَرِّض للخطر كلِّ خيرٍ أمكن تحقيقه حتّى الآن.

55. وعلى الرّغم من المفاوضات والاتّفاقات العديدة، استمرّت الانبعاثات العالميّة في الازدياد. صحيح أنّه يمكن القول إنّه لولا هذه الاتفاقيّات لكانت قد ازدادت أكثر. لكن في قضايا أخرى تتعلّق بالبيئة، عندما توفّرت الإرادة، تمّ الحصول على نتائج مهمّة للغاية، كما حدث مع حماية طبقة الأوزون. ومن ناحية أخرى، فإنّ التّحوّل المطلوب نحو الطّاقات النّظيفة مثل الرّياح والطّاقة الشّمسيّة، والتّخلّي عن الوقود الأحفوريّ، لا يتمّ بالسّرعة اللازمة. وبالتّالي، فإنّ ما يتمّ القيام به يوشك أن يفسَّر على أنّه مجرّد لعبة لتحويل الانتباه.

56. نحن بحاجة إلى التّغلّب على منطق الظّهور بأنّنا حسَّاسون للمشكلة وفي الوقت نفسه لا نملك الشّجاعة للقيام بتغييرات جوهريّة. ونحن نعلَم أنّنا، بهذا المعدّل، سنتجاوز في غضون سنوات قليلة الحدّ الأقصى المسموح، وهو 1.5 درجة مئويّة، وفي وقت قصير يمكن أن نصل إلى 3 درجات، مع وجود خطر كبير بالوصول إلى نقطة اللاعودة. وحتّى لو لم يتمّ الوصول إلى نقطة اللاعودة هذه، فالحقيقة هي أنّ العواقب ستكون كارثيّة وسيتعيّن اتّخاذ التّدابير المستعجلة، وبتكاليف باهظة وعواقب اقتصاديّة واجتماعيّة خطيرة للغاية ولا تطاق. وإذا كانت التّدابير التي نتّخذها الآن لها تكاليف، فإنّها ستكون أثقل كثيرًا كلّما طال انتظارنا.

57. أرى أنّه لا بدّ من الإلحاح في القول إنّ “البحث عن علاج تقنيّ فقط لكلّ مشكلة بيئيّة تنشأ هو عزل الأشياء المتشابكة بالفعل وإخفاء المشاكل الحقيقيّة والأعمق للنّظام العالميّ” [34]. صحيح أنّ جهود التّكيّف ضروريّة في مواجهة العلل التي لا يمكن علاجها على المدى القصير. كما أنّ بعض التّدخّلات والتّقدّم التّكنولوجيّ الذي يجعل من الممكن امتصاص الغازات المنبعثة أو احتجازها تعتبر إيجابيّة أيضًا. ولكنّنا نخاطر بالبقاء أسرى منطق التّرميم، أو التّرقيع، أو الرّبط بالأسلاك، في حين أنّنا نستمرّ في تغذية عمليّة التّدهور. إنّ الافتراض بأنّ أيّ مشكلة في المستقبل يمكن حلّها بتدخّلات فنّيّة جديدة هو نوع من البراغماتيّة القاتلة، من شأنها أن تؤدّي إلى نتائج، تتسارع مثل تهاوي كرة الثّلج.

58. دعونا ننتهي مرّة واحدة وإلى الأبد من النّكات غير المسؤولة التي تقدّم هذا الموضوع على أنّه شيء بيئيّ فقط، ”أخضر“، رومانسيّ، كثيرًا ما تسخر منه من أجل المصالح الاقتصاديّة. دعونا نعترف أخيرًا أنّها مشكلة إنسانيّة واجتماعيّة، على مستويات مختلفة. ولهذا، المطلوب هو مساهمة الجميع. يَلفِت الانتباه مرارًا، عندما تعقد مؤتمرات عن البيئة، نشاطات بعض المجموعات ويقال أنّها ”متطرّفة“. في الواقع، إنّها تستغل فراغًا في المجتمع كلّه الذي يجب أن يمارس ضغطًا صحّيًّا في هذه القضيّة، لأنّه على كلّ عائلة أن تعرف أنّ القضيّة هي قضيّة مستقبل أبنائها.

59. إذا كان هناك اهتمام صادق بجعل مؤتمر الأطراف الثّامن والعشرين تاريخيًّا، يكرِّمنا ويشرِّفُنا ككائنات بشريّة، فإنّنا نتوقّع العثور على طرق ملزمة في تحوّل الطّاقة تتميّز بثلاث خصائص: أن تكون فعّالة، وإلزاميّة، ويمكن مراقبتها بسهولة. وذلك لتحقيق بداية عمليّة جديدة تكون جذريّة، ومكثّفة، وتحظى بالتزام الجميع. وهذا ليس ما حدث على الطّريق الذي قطعناه حتّى الآن، مع أنّه يمكن استعادة مصداقيّة السّياسة الدّوليّة بهذه الطّريقة فقط، فبهذه الطّريقة الملموسة فقط يصبح من الممكن خفض مستويات ثاني أكسيد الكربون بشكل كبير ومنع أسوأ الأضرار في الوقت المناسب.

60. ونأمل أن يكون العاملون في هذا المجال استراتيجيّين قادرين على التّفكير من أجل الصّالح العام ومستقبل أبنائهم، أكثر من اهتمامهم بمصالح ظرفيّة لبعض البلدان أو الشّركات. نأمل أن يُظهِروا نُبلَ السّياسة، وليس ما هو مخجل فيها. أجرؤ على تكرار هذا السّؤال للأقوياء: “لماذا تريدون اليوم الحفاظ على قوّة سيَذكرُها التّاريخ لعجزها عن التّدخل عندما كان ذلك مُلِحًّا وضروريًّا؟” [35].

6. الدّوافع الرّوحيّة

61. لن أنفكّ عن تذكير المؤمنين الكاثوليك بالدّوافع التي تنبع من إيمانهم. وأشجّع الإخوة والأخوات في الدّيانات الأخرى أن يعملوا الشّيء نفسه، لأنّنا نعلَم أنّ الإيمان الحقيقيّ لا يمنح القوّة فقط في قلب الإنسان، بل يغيّر أيضًا الحياة بأكملها، ويغيّر الأهداف الشّخصيّة، وينير العلاقة مع الآخرين والرّوابط مع كلّ المخلوقات.

في ضوء الإيمان

62. يقول الكتاب المقدّس إنّ الله “رأَى جميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا” (تكوين 1، 31). وأيضًا: “له الأرض وكلّ ما فيها” (تثنية الاشتراع 10، 14). لهذا السّبّب يقول لنا: “وأَمَّا الأَرض، فلا تُبَعْ بَتاتًا لأَنَّها لِيَ الأَرض، وإِنَّما أَنتُم نُزَلاءُ وضُيوفٌ عِندي” (الأحبار 25، 23). ولهذا “فإنّ هذه المسؤوليّة تجاه أرض الله تعني أنّ الإنسان، العاقل، يحترم قوانين الطّبيعة والتّوازنات الدّقيقة بين الكائنات في هذا العالم” [36].

63. ومن جهة أخرى، “إنّ الكون ككلّ، بعلاقاته المتعدّدة، يُظهِر بصورة أفضل غنى الله الذي لا ينضب”، ولذلك، نحن كائنات عاقلة، “ونحتاج إلى فهم تنوُّع الأشياء في علاقاتها المتعدّدة” [37]. وفي طريق الحكمة هذا، يهمّنا الأمر، إذا اختفت أنواع كثيرة من الكائنات، أو عرَّضَتْ أزمة المناخ حياة كائنات كثيرة غيرها للخطر.

64. كان في وسع يسوع “أن يدعو الآخرين إلى الانتباه إلى جمال العالم، لأنّه كان هو نفسه على اتّصال دائم بالطّبيعة وكان ينتبه إليها بحنان وإعجاب. وعندما كان يسافر في كلّ زاوية في أرضه، كان يتوقّف ليتأمّل في الجمال الذي غرسه أبوه، وكان يدعو تلاميذه إلى أن يروا رسالة الله في الأشياء” [38].

65. في الوقت عينه، “لم تعد مخلوقات هذا العالم تبدو لنا مجرّد واقع طبيعيّ، لأنّ القائم من بين الأموات احتضنها بطريقة سرّيّة وهو يقودها نحو مصير الكمال. زهور الحقل نفسها والطّيور التي كان يتأمّل فيها باندهاش بعينيه البشريّة، إنّما هي ممتلئة الآن بحضوره المضيء” [39]. إذا “كان الكون يجد تطوّره في الله الذي يملأ كلّ شيء، فإنّنا نشاهد الرّوح في ورقة الشّجر، وفي الطّريق، وفي النّدى، وفي وجه الفقير” [40]. العالم يتغنّى بالحبّ اللامتناهي. وكيف لا نعتني به؟

السّير في شركة والتزام

66. لقد وحَّدَنا الله بجميع مخلوقاته. ومع ذلك، فإنّ النّموذج التّكنوقراطيّ يمكن أن يعزلنا عن العالم الذي يحيط بنا، ويخدعنا لننسى أنّ العالم كلّه هو ”منطقة اتّصال“. [41]

67. إنّ النّظرة العالميّة اليهوديّة-المسيحيّة تدافع عن القيمة الخاصّة والمركزيّة للإنسان في وسط التّناغم الرّائع بين جميع الكائنات، ولكنّنا اليوم مجبرون على الاعتراف بأنّه لا يمكن الحفاظ على ”المركزيّة البشريّة“ إلّا من خلال الحفاظ على ”مركزيّة الإنسان“. أي أن ندرك أنّ حياة الإنسان لا يمكن أن نفهمها ولا بقاء لها دون سائر المخلوقات. لأنّ “جميع الكائنات في الكون متّحدة بروابط غير مرئيّة ونحن نشكّل نوعًا من الأسرة العالميّة، شركة سامية تدفعنا إلى احترام مقدّس ومُحِبّ ومتواضع” [42].

68. هذا ليس نتاج إرادتنا، بل له أصل آخر هو أصل وجودنا، لأنّ “الله قد وحَّدَنا بشكل وثيق بالعالم الذي يحيط بنا، حتّى أنّ تصَحُّرَ الأرض هو مرض في كلّ واحد منّا، ويمكننا أن نتألّم لانقراض أيّ نوع من الأنواع على أنّه بتر وتشويه لنا” [43]. وهكذا ننتهي من فكرة الإنسان المستقلّ، القدير، غير المحدود، ونعيد التّفكير في أنفسنا لنفهم أنفسنا بطريقة فيها مزيد من التّواضع والثّراء.

69. أدعو كلّ واحد منكم إلى السّير في طريق المصالحة هذه مع العالم الذي يرحّب بنا، وإلى تجميله كلّ واحد بمساهمته الخاصّة، لأنّ التزامكم يتعلّق بالكرامة الشّخصيّة والقِيَم الكبرى. ومع ذلك، لا أستطيع أن أنكر أنّه من الضّروري أن نكون صادقين وأن ندرك أنّ الحلول الأكثر فعّاليّة لن تأتي فقط من الجهود الفرديّة، بل في المقام الأوّل، من القرارات الكبرى في السّياسة الوطنيّة والدّوليّة.

70. ومع ذلك، فإنّ كلّ شيء يتراكم، وتجنّب زيادة درجة الحرارة العالميّة بمقدار عُشر درجة معًا، كافٍ لمنع بعض المعاناة للعديد من النّاس. لكن ما يهمّ ليس فقط في الكمّيّات: لنتذكّر أنّه لا توجد تغييرات دائمة دون تغييرات ثقافيّة، دون نضج في أسلوب الحياة وفي قناعات المجتمعات، ولا توجد تغييرات ثقافيّة دون تغييرات في النّاس.

71. إنّ الجهود التي تبذلها الأسر للحدّ من التّلوّث، والحدّ من النّفايات، والاستهلاك بحكمة، تَخلق ثقافة جديدة. وإنّ إصلاح العادات الشّخصيّة والعائليّة والمجتمعيّة تنبِّه قلقنا تجاه المسؤوليّات التي لم تَفِ بها القطاعات السّياسيّة، وتثير السّخط على عدم اهتمام الأقوياء. دعونا نلاحظ إذًا أنّه على الرّغم من أنّ هذا لا ينتج تأثيرًا ملحوظًا على الفور من وجهة النّظر الكمّيّة، إلّا أنّه يساعد في إحداث تغييرات كبيرة تعمل من أعماق المجتمع.

72. وإذا لاحظنا أنّ الانبعاثات بالنّسبة إلى الفرد الواحد في الولايّات المتّحدة هي الضّعف بالنّسبة للفرد الواحد في الصّين، وسبع مرّات أكثر تقريبًا بالنّسبة إلى المعدَّل المتوسّط في البلدان الفقيرة، [44] فإنّنا نؤكّد أنّ التّغيّرات العامّة في نمط الحياة المرتبط بالنّموذج الغربيّ، سيكون لها تأثير كبير على المدى الطّويل. وهكذا، إلى جانب القرارات السّياسيّة الأساسيّة، سنسير على طريق الرّعاية المتبادلة.

73. “سبِّحوا الله” هذا هو اسم هذه الرّسالة. لأنّ الإنسان الذي يدَّعِي بأنّه يحلّ محلّ الله يصبح هو أكبر خطر على نفسه.

صَدَرَ في روما، في بازيليكا القدّيس يوحنّا في اللاتران، في 4 تشرين الأوّل/أكتوبر، في عيد القدّيس فرنسيس الأسيزي، سنة 2023، الحادي عشر من حبريّتنا.

فرنسيس

************

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2023


[1] مجلس الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتّحدة، Global Climate Change Background,، 2019.

[2] الجمعيّة الخاصّة لسينودس الأساقفة من أجل منطقة الأمازون، الوثيقة النهائية، تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، 10؛ أعمال الكرسي الرّسولي 111 (2019)، 1744.

Assemblea Speciale del Sinodo dei Vescovi per la Regione Pan-Amazzonica, Documento finale, ottobre 2019, 10: AAS 111 (2019), 1744.

[3] لقاء مجالس أساقفةأفريقيا ومدغشقر (Sceam)، بيان بشأن حوارات المناخ في أفريقيا، نايروبي، 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2022.

Simposio delle Conferenze Episcopali di Africa e Madagascar (Sceam), African Climate Dialogues Communiqué, Nairobi, 17 ottobre 2022.

[4]راجع اللقاء الدّولي بين الحكومات لتغيّر المناخ (IPCC)، تغيّر المناخ 2021، القاعدة العلميّة الفيزيائيّة،كامبريدج ونيويورك 2021، ب. 2. 2.

Cfr Intergovernmental Panel on Climate Change (IPCC), Climate Change 2021, The Physical Science Basis, Cambridge and New York 2021, B.2.2.

[5] راجع المرجع نفسه، تغيّر المناخ 2023، التّقرير الجامع، ملخص لصانعيّ السّياسات، ب. 3. 2. لتقرير سنة 2023، يرجى الرّجوع إلى: https://www.ipcc.ch/report/ar6/syr/downloads/report/IPCC_AR6_SYR_SPM.pdf

Cfr Id., Climate Change 2023Synthesis Report, Summary for Policymakers, B.3.2. Per il Rapporto 2023 si fa riferimento a https://www.ipcc.ch/report/ar6/syr/downloads/report/IPCC_AR6_SYR_SPM.pdf.

[6]Cfr United Nations Environment Program, The  Emissions Gap Report 2022: https://www.unep.org/resources/emissions-gap-report-2022.
[7]Cfr. National  Oceanic and Atmospheric Administration, Earth System Research LaboratoriesGlobal Monitoring Laboratory, “Trends in Atmospheric Carbon Dioxide”: https://www.gml.noaa.gov/ccgg/trends/

[8]راجع اللقاء الدّولي بين الحكومات لتغيّر المناخ (IPCC)، تغيّر المناخ 2023، التّقرير الجامع، ملخص لصانعيّ السّياسات، أ. 1. 3.

Cfr IPCC, Climate Change 2023Synthesis Report, Summary for Policymakers, A.1.3.

[9]راجع المرجع نفسه، ب. 5. 3.

[10]Questi dati dell’Intergovernmental Panel on Climate Change (IPCC) sonobasati su circa 34.000 studi: cfr IPCC, Synthesis Report of the Sixth Assessment Report (20/03/2023): AR6 Synthesis Report: Climate Change 2023(ipcc.ch)

[11]راجع اللقاء الدّولي بين الحكومات لتغيّر المناخ (IPCC)، تغيّر المناخ 2023، التّقرير الجامع، ملخص لصانعيّ السّياسات، أ. 1. 2.

Cfr IPCC, Climate Change 2023Synthesis Report, Summary for Policymakers, A.1.2.

[12] راجع المرجع نفسه.

[13] رسالة عامة بابوية، كُنْ مُسَبَّحًا (24 أيّار/مايو 2015)، 101: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 887.

[14]  المرجع نفسه، 105: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 889.

[15]  المرجع نفسه، 106: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 890.

[16]  المرجع نفسه، 104: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 888-889.

[17]  المرجع نفسه، 105: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 889.

[18]  المرجع نفسه، 139: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 903.

[19]  المرجع نفسه، 220: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 934.

[20]Cfr. S. Sörlin – P. Warde, “Making the Environment Historical. An Introduction”, in Iidem, Nature’s EndHistory and the Environment, Basingstoke – New York 2009, 1-23.

[21] رسالة عامة بابوية، كُنْ مُسَبَّحًا (24 أيّار/مايو 2015)، 139: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 903.

[22] V. Soloviev, I tre dialoghi e il racconto dell’Anticristo, Bologna 2021, 256.

[23] راجع القدّيس بولس السّادس، خطاب إلى FAOفي الذّكرى 25 سنة (16 تشرين الثّاني/نوفمبر 1970)، 4: أعمال الكرسي الرّسولي 62 (1970)، 833.

[24] رسالة بابوية عامة، كلّنا إخوة – Fratelli tutti (3 تشرين الأوّل/أكتوبر 2020)، 11: أعمال الكرسي الرّسولي 112 (2020)، 972.

[25]  المرجع نفسه، 174: أعمال الكرسي الرّسولي 112 (2020)، 1030.

[26]  المرجع نفسه، 172: أعمال الكرسي الرّسولي 112 (2020)، 1029.

[27]  المرجع نفسه.

[28] راجع المرجع نفسه، 170: أعمال الكرسي الرّسولي 112 (2020)، 1029.

[29]  المرجع نفسه.

[30]  المرجع نفسه، 175: أعمال الكرسي الرّسولي 112 (2020)، 1031.

[31] رسالة عامة بابوية، كُنْ مُسَبَّحًا (24 أيّار/مايو 2015)، 179: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 918.

 

[32]  المرجع نفسه، 167: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 914.

[33]  المرجع نفسه، 169: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 915.

[34]  المرجع نفسه، 111: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 982.

[35]  المرجع نفسه، 57: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 870.

[36]  المرجع نفسه، 68: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 874.

[37]  المرجع نفسه، 86: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 881.

[38] المرجع نفسه، 97: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 886.

[39]  المرجع نفسه، 100: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 887.

[40]  المرجع نفسه، 233: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 938.

[41] راجع دونا هاراوي، عندما تلتقي الأنواع، مينيابوليس 2008، 205-249.

Cfr D.J. Haraway, When Species Meet, Minneapolis 2008, 205-249.

[42] رسالة عامة بابوية، كُنْ مُسَبَّحًا (24 أيّار/مايو 2015)، 89: أعمال الكرسي الرّسولي 107 (2015)، 883.

[43] الإرشاد الرّسولي، فرح الإنجيل (24 تشرين الثّاني/نوفمبر 2013)، 215: أعمال الكرسي الرّسولي 105 (2013)، 1109.

[44] Cfr United Nations Environment Program, The Emissions Gap Report 2022: ttps://www.unep.org/resources/emissions-gap-report-2022.


Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير