” رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأّنَّهُ مسحني وأرسَلَني لِأُبَشِّرَ ” ( لوقا ٤ : ١٨ )
المسيحي على مثال معلمه يسوع : نبيّ وكاهن وملك بمسحة الرُّوح القُدُس
نبوءة أشعيا التي سبقت مجيء السيد المسيح بأكثر من ستمائة سنة ، تحقّقت في شخص يسوع . لقد ملأ الروح القدس شخصيته البشرية ، وأرسله الآب نبيّاً بامتياز ، يعلن كلمة الله وهو نفسه الكلمة . وكاهناً بامتياز يقدّم ذبيحة العبادة وهو عينه الذبيحة . وملكاً بامتياز ، يبني ملكوت الشركة والمحبّة بين الله والناس وهو نفسه هذا الملكوت . فلمّا دخل المجمع يوم سبتٍ على عادتِهِ ، دُفِعَ إليهِ سِفْرُ النبي أشَعيا ، فقرأ المكان المكتوب فيه : ” روح الربّ عليّ ، لأَنَّه مَسَحَني لأُبَشِّرَ الفُقَراء وارسلني ” ( لوقا ٤ : ١٨ ) . وبعد أن قرأَ السِّفرَ قال للحاضرين : ” اليوم تمّت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم ” ( لوقا ٤ : ٢١ ).
بتأملنا هذا النص من الكتاب المُقدّس نجدّد إلتزامنا بمسحةِ الروح القُدس التي نلناها بالمعمودية والميرون المُقدّس ، وقد أعطتنا الكيان المسيحي على صورة يسوع المسيح ، وأشركتنا في رسالته المثلّثة : النبوية والكهنوتية والملوكية . هذا الكيان المسيحي والرسالة يحدّدان معنى وجودنا كمسيحيّين في الشَّرق الأوسط والعالم ، على صورة المسيح في ضوء نبوءة أشعيا التي تحققت في شخصه أولاً ثمّ في المؤمنين به .
* المسيح نبي : ” يبشّر المساكين ” . ويُعلن إنجيل الخلاص ، كلمةً هادية للعقول والضمائر . ” المساكين ” هم الناس السالكون في الظلمة : يحتاجون إلى نور الحقيقة والمعرفة في ظلمات الجهل والكذب والضلال ، وإلى نور المحبة في ظلمات البغض والحقد والعنف والعداوة، وإلى نور العدالة في ظلمات الظلم والاستبداد والإستكبار، وإلى نور السلام في ظلمات الحرب والنزاع والإرهاب .
* المسيح كاهن : ” يحرّر الأسرى والمظلومين ويُعيد البصر للعميان ” . إنّه الكاهن الذي افتدى بموته جميع الناس ، وأقامهم لحياة جديدة بقيامته . ” الأسرى ” هم الذين استُعبدوا للخطيئة والشَّر، وصاروا مقيَّدين بسلاسلها . ” المظلومون ” هم الذين طغت عليهم الأرواح الخبيثة والشريرة ، والذين يستغلّهم آخرون ويحملونهم على إرتكاب الخطيئة والشرور .
” العميان ” هم الذين زاغت عقولهم عن نور الحقيقة ، والذين خنقوا صوت الله في ضمائرهم . إن نعمة الفداء تشفي جميع هؤلاء . فدمُ المسيح المُراق على الصليب يغسل بالغفران والمسامحة قلوبهم وعقولهم وضمائرهم من الخطيئة ونتائجها .
* المسيح ملك : ” يعلن زمناً مرضيّاً للربّ ” . هو زمن الروح القدس ، زمن الحقيقة والمحبة والعدالة والحرية والسلام ، المعروفة بِقيَم ملكوت المسيح .
الكيان المسيحي ، الذي نلناه بالمعمودية والميرون ، أشركنا بوظائف المسيح ، وجعل من جماعة المسيحيِّين ، كما يقول القديس بطرس الرسول ، شعباً جديداً وهيكلاً روحيّاً وكهنوتيّاً مقدَّساً ، من أجل أن يقدّموا بأعمالهم ذبائحَ روحيةً ، ويعلنوا عظائم الله الذي دعاهم من الظلمة إلى النور المجيد . ” أُمّاً انتم فإنّكم ذُرِّيَّةٌ مُختارة وكهنوتٌ مَلَكِيٌ وأُمَّةٌ مُقَدّسة وشعبٌ اصطفاهُ اللهُ للإِشادةِ بآياتِ الذي دَعاكم مِنَ الظُّلُماتِ إلى نُورِهِ العجيب . لم تكونوا شَعْباً مِن قَبْلُ ، وأَمَّا اليَومَ فإنَّكم شَعْبُ الله . ( بطرس الأولى ٢ : ٩ – ١٠ ).
يُعلّم القديس البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي : ” العلمانيّون المؤمنون بالمسيح ” ، أن المسيحيين مدعوّون لممارسة حياة مسيحية حقّة في مجتمعهم مِن خلال أعمالهم الروحيّة والزمنية ، لأن البشرى الإنجيلية تُنير جميع المشاريع والشؤون والقضايا البشرية ، لتجعلها أداة خير وسعادة وخلاص لجميع الناس .
فمشاركتهم في خدمة المسيح النبوية تؤهّلهم لقبول كلمة الإنجيل بالإيمان ، وللشهادة لها بالأعمال ، مندّدين بالشر بجرأة . وتدعوهم لتجسيد جدّية فرح الإنجيل في حياتهم العائلية والاجتماعية على جميع الأصعدة .
ومشاركتهم في خدمة المسيح الكهنوتية تشجّعهم ليتّحدوا بذبيحته في القداس الإلهيّ ، ويقدّموا معها قرابين أعمالهم وصلواتهم ونشاطاتهم وحياتهم الزوجية والعائلية ، وأشغالهم اليومية ، وأفراحهم وأتعابهم .
ومشاركتهم في خدمة المسيح النبوية تدعوهم لخدمة ملكوت الله ، ملكوت الحقيقة والمحبة ، ملكوت العدالة والحرية والسلام ( العلمانيون المؤمنون بالمسيح، ١٤ ).
هذه المشاركة بحكم المعمودية والميرون المقدسين تُسمّى كهنوت المسيح العام ، كما يشرحها لنا القديس اوغسطينوس بقوله : ” كما أنّنا نُدعى جميعنا مسيحيين ، بسبب مسحة الميرون السّرية، كذلك نُدعى جميعنا كهنة، لأنّنا جميعاً أعضاء في جسد المسيح الكاهن الأوحد ” .
” اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم ” ( لوقا ٤ : ٢٢ )
عندما تقرأؤون هذه الاية : ” وكانَ يسوع يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم فيُمَجِّدونَه جَميعاً ” ( لوقا ٤ : ١٤ ) ، لا تعتبروا أنّ المستمعين إلى الرّب يسوع المسيح كانوا وحدهم سعداء ، ولا تعتقدوا أنّكم محرومون من تعاليمه . فإن كان الكتاب المقدّس هو الحقيقة ، فإنّ الله لم يتكلّم فقط فيما مضى وسط الجماعات اليهوديّة والوثنية ، لكنّه تكلّمَ ويتكلّم اليوم أيضاً وسط جماعتنا العائلية والكنسية . وليس وسط جماعتنا فقط ، بل وسط جماعاتٍ أخرى وفي العالم أجمع ، يقوم الرّب يسوع بالتّعليم والبحث عن أدوات لنشر تعليمه . صلّوا إذاً كي يجدَنا نحنُ أيضاً مستعدِّين وأهلاً للإشادة به وبتعاليمهِ ووصاياه .
وكما كان الله في العهد القديم ، يبحث عن الأنبياء في وقتٍ حيث كانت النبوّة مفقودة بين البشر، تمكّن من إيجاد أشعيا، وإرميا، وحزقيال ودانيال ، كذلك اليوم ، يبحث الرّب يسوع عن رسل لنشر كلمته ، كي يعلّموا الشعب ” في مَجامِعِهم ومجتمعاتهم فيُمَجِّدونَه جَميعاً ” . إنّ الرّب يسوع هو ” ممجّد من الجميع ” اليوم أكثر ممّا كان عليه حين كان معروفًاً في منطقة واحدة . فلنذهب ولنبشر جَميعَ الأُمَم بيسوع المُخلّص والمعلّم والطريق والحق والحياة ، ونعلّمهم أن يحفظوا كُلَّ ما أوصانا به ، لإنّهُ معنا طَوالَ الأيام إلى نهايةِ العالم ” ( متى ٢٨ : ١٩ ) .
المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك