Carmélites, Antananarivo, Madagascar © Vatican Media

هل المسيحيّة تتفلسف في الحياة الروحيّة؟ (11)

الجزء الحادي عشر من سلسلة مقالات حول الفلسفة الروحية

Share this Entry

في مقالنا السابق، تناولنا مسألة الروحانية الإغناطية والخصائص التي تميزها. أما في هذا المقال، فسنتناول على نحو موجز روحانية وتاريخ الرهبنة الكرملية. تعود جذور الرهبنة الكرملية إلى جبل الكرمل في فلسطين حيث دافع إليا عن إيمانه بالله الحيّ أمام كهنة البعل كما هو مكتوب في سفر الملوك الأول (ملوك 18). لقد أُعطي قانون الرهباني الكرملي من قبل القديس ألبيرتوس ماغنوس (Albertus Magnus) سنة 1210 ميلادياً في الأراضي المقدّسة، وهو يدعو إلى التأمل بشريعة الربّ ليلاً ونهاراً. وهكذا، وُلد الفكر اللاهوتي الكرمليّ انطلاقاً من الاحتكاك المصليّ مع كلمة الله.

يندرج هذا الفكر في سياق تقليد “القراءة الربّية”، المعروف في الوسط الرهباني بين العامين 1250 و1260 ميلادياً. بعد تلك الحقبة، اضطّر الرهبان الكرمليون إلى ترك الأراضي المقدّسة تدريجياً باتجاه أوروبا وذلك بسبب الضغط الإسلامي على أثر الحملات الصليبيّة. وفي القرن السادس عشر، عرفت الرهبنة ما يسمىّ بالإصلاح الكرمليّ الذي قام على يد القديسة تريزا الأفيلية (Therese D’avila – 1582 – 1515)، ويوحنا الصليب (Jean De La Croix – 1542 – 1591)، والذي ارتكز على مبدأ التهاون في حفظ القانون والرغبة في عيش جذرية الحياة الكرملية.

         تحمل الروحانية الكرملية إرثاً روحياً غنياً جداً في قلب الكنيسة الغربيّة، وذلك بفضل العديد من معلمي الكنيسة الذين تخرجوا من هذه الرهبنة مثال إديث شتاين (Edith stein – 1891 – 1942) وغيرها من القديسين المعروفين لا سيما بكتاباتهم التي تحدثت عن اختبار الصلاة الذي يشكل محور الحياة الروحية في الكرمل.

         تعبّر تريزيا الأفيلية عن محورية المسيح، وهي الحب الحصري ليسوع، وتحدد الصلاة بكونها حديث صداقة مع الله يقوم على النظر إلى المسيح. كما وتركز على إنسانية يسوع، ابتداءً من الصلاة البسيطة حتى أعلى درجات الاتّحاد بالله.

         الحياة في الكرمل هي قبل كل شيء اتباع للمسيح حيث يعيش الكرمليون حياة وفاء للمسيح تتجسد في فهم الراهب لدعوته الكرملية عندما يعيش اختبار الصحراء الذي عاشه المسيح خلال أربعين يوماً حيث كان يسعى لمعرفة مشيئة الآب. ويعود هذا التركيز على إنسانية يسوع إلى أن هذه الأخيرة تشكّل أداة لعيش ألوهيته.

         ولكي نعرف أكثر عن هذه الروحانية، نقتبس فيما يلي من الفصل العاشر من القانون الكرملي حول الكتاب المقدس والذي يشير على نحو صريح إلى إحدى ميزات الروحانية الكرملية:

“على الراهب أن يبقى في غرفته الخاصة أو قريباً منها مفكراً أو متأملاً ليلاً نهاراً في شريعة الرب أي كلمة الرب في الكتاب المقدس، وفي شخص المسيح. فغزارة التقويات أو الصلوات التقوية التي برزت في القرنين الثامن والتاسع عشر لم تتثبّت في الحياة الكرملية أو بالأحرى لم تدخل إليها، ولم تخرج منها أي عبادة تقوية”.

         أما البعد الإفخارستي للروحانية الكرملية، فيتجلى في أنّهم يحتفلون يومياً بالإفخارستيا أو القداس، الذي يُعتبر محور الحياة الكرملية. فقد عرفت العديد من الرهبانيات بروز اختبارات خاصّة في هذا السياق، كالدومنيكان الذين يحتفلون بالقداس مرّة واحدة في الأسبوع. أما رهبنة الفرنسيسكان، فبرز فيها اختبار عبادة القربان.

         يرتبط الكرمليون بمريم أيضاً، وتجدر الملاحظة إلى أن سيدة جبل الكرمل مرسومة، وهي تحمل الطفل يسوع بين ذراعيها. على الرغم من أن كتابات كبار المفكرين الكرملين كتريزا الأفيلية وإديث شتاين إلى الكثير من الإشارات إلى مريم. هذا وتقدم الرهبنة الكرملية روحانية تتمحور حول المسيح حيث مريم تؤدي دور المفتاح. هكذا، يعيش الراهب الكرملي تقواه المريمية من خلال الاقتداء بالفضائل المريميّة (الطاعة والصمت وغيرهما). لذلك، تكمن العلامة الخارجية للتقوى عند الراهب الكرملي في لبس الثوب الكرملي الذي يعتبر بمنزلة الهدية التي تقدمها الرهبنة للكنيسة.

وأخيراً، بعد حديثنا عن فحوى الروحانية الكرملية نضيف بأن حياة النبي إليا الذي عاش على جبل الكرمل ثماني قرون قبل المسيح، تشكل عامل وحي للكرملين المدعوين إلى التعرف إلى حياة هذا النبي. فالنبي إليا كان رجل لا يعرف الراحة، ممتلئاً غيرة لله، ويسعى دائماً للتعرف إلى مشيئة الله. لم يكن يعرف الخوف، وقد دافع عن المزارع والفلاح في وجه الملك الجبّار. لذا، يتبنّى الكرمليون خِيار الكنيسة التفضيلي للفقراء.

يتبع

لقراءة المفالة السابقة، أنقر على الرابط الآتي:

هل المسيحية تتفلسف في الحياة الروحيّة؟ (10)

Share this Entry

سليمان فرنجيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير