في الثامن من كانون الأول سنة ١٨٥٤، أعلن قداسة البابا بيوس التاسع في براءة بابويّة مريميّة أنّ مريم العذراء لم تخضع لسيطرة الخطيئة في أية لحظة من حياتها، منذ الحبل بها: فبفعلٍ مسبق للفداء، حفظها إنعام إلهيّ خاص من دنس الخطيئة الأصليّة ، وهذا نصّها:
” نعلن ونحكم ونحدد أن الطوباوية مريم العذراء قد حُفِظت من الخطيئة الاصلية منذ اللحظة الأولى للحبل بها، بنعمة وانعام خاص من الله القادر على كل شيء، بالنظر إلى استحقاقات السيد المسيح مخلص الجنس البشري، وهي عقيدة أوحى بها الله . فيجب على المؤمنين أن يؤمنوا بها ايمانا ثابتاً لا يتزعزع “.
وقد أكّدت العذراء نفسها هذه العقيدة في ظهورات لها في ” مدينة لورد الفرنسية “” سنة ١٨٥٨، عندما أعلنت لبرناديت وللعالم قائلةً : ” أنا الحبل بلا دنس” .
” تُعَظِّمُ نفسي الرَّبّ وتبتهجُ روحي بالله مُخَلِّصي… وها منذ الآن تطويبني جميع الأجيال، لأنَّ القدير صنع بي عظائم ” ( لوقا ١ : ٤٦ – ٤٩ ) إنّ عظائم الله هي التي جعلت مريم فائقة القداسة والطهارةِ والجمال كما جاء في الكتاب المُقدّس : ” كُلُّكِ جميلة ولا عيب فيكِ ” .
حول هذه العظائم التي أُعطيت لمريم العذراء من الله، نتأمل في سبعة نقاط مأخوذة من الكتاب المُقدّس وتعاليم الكنيسة المقدسة والتي تبرهن على أن العذراء مريم برئية ومعصومة من الخطيئة الأصلية :
١ – عقيدة الحبل بلا دنس وهي : أنّ العذراء مريم الكلّية القداسة عُصمت من دنس الخطيئة الأصليّة منذ اللَّحظة الأولى لتكوينها في حشا أمّها، بنعمة وإنعام خاصَّين من الله القدير، وبفضل استحقاقات يسوع المسيح ، مخلّص الجنس البشري .
٢ – أمومتها للإله المتجسِّد : أعلنها مجمع أفسس سنة ٤٣١ عقيدةً وهي أنّ مريم أصبحت حقًاً أمَّ الإله بحبلها بابن الله في حشاها. هي ” أمّ الإله ” ، لا لأنّ طبيعة الكلمة الإلهي أو ألوهته اتّخذت بدءها أو وجودها من مريم القدّيسة، بل جسدُه البشري المقدّس المنعش بنفس عاقلة الذي اتّحد بشخصه الإلهي ، هو الذي وُلد من مريم. وهكذا ” الكلمة صار بَشَراً فسكن بيننا” (يوحنا : ١٤).
٣ – مريم العذراء بتول ودائمة البتولية : حبلت مريم بيسوع ابن الله بقوّة الروح القدس، من دون زرع بشري، وهي عذراء بتول . هذا عمل إلهي يفوق إدراك عقل الإنسان وإمكانيّاته. وقد حقّق نبوءة أشعيا: ” ها إنّ العذراء تحمِلُ فتلِدُ ابناً وتدعو اسْمَه عِمّانوئيل ” ( أشعيا ٧ : ١٤ ). إنّ مريم، الأمّ والبتول ، هي رمز الكنيسة ، وتحقيقها الكامل : فالكنيسة بقبولها كلمة الله بالإيمان تصبح أمًّاً . ثمّ بكرازتها للإنجيل وممارسة المعمودية تلد بنين ، حُبل بهم بالروح القدس، ووُلدوا من الله لحياة جديدة لا تموت، بل هي حياة أبدية ” بل من الله وُلِدوا ” ( يوحنا ١ : ١٣ ) ” ما من أحدٍ يُمْكِنُه أن يدخُلَ ملكوت الله إلاَّ إذا وُلِدَ من الماءِ والرُّوح . فمولودُ الجَسدِ يَكونُ جسداً ومولودُ الرُّوح يَكونُ روحاً ” ( يوحنا ٣ : ٥ – ٦ ).
٤ – مشارِكة في عمل الخلاص والفداء : تعتبر الكنيسة أنّ مريم وسيطة للخلاص من خلال وساطة المسيح الوحيدة ، وأنّ ما لها من تأثير على المؤمنين والمؤمنات إنّما ينبع من استحقاقات المسيح الفيّاضة (الدستور العقائدي ” في الكنيسة “، ٥٨ و ٦٢).
٥ – مريم أمّ الكنيسة : تعتبر الكنيسة أيضاً أنّ مريم أمّ المسيح التاريخي ، بفضل مشاركتها في آلآم ابنها الخلاصيّة ، قد أصبحت أمَّ المسيح الكلّي الذي هو الكنيسة. بكلام الملاك في البشارة ، والإجابة بكلمة ” نعم ” ، أصبحت أمَّ يسوع ، وفي آلآم الصليب أصبحت أمّ جسده السّرّي الذي هو الكنيسة ، فرأى يسوعُ أُمَّه وإلى جانِبِها التِّلميذُ الحبيبُ إليه . فقالَ لأُمِّه : ” أَيَّتها المرأة هذا ابنُكِ ” . ثمَّ قَالَ للتِّلميذ : ” هذه أُمُّكَ . ومنذُ تِلكَ السَّاعةِ استَقبَلَها التِّلميذُ في بيتِهِ “(يوحنا ١٩ : ٢٦ – ٢٧). إنّها أمّنا بالنعمة، وبأمومتها هي مثال للكنيسة في الإيمان والمحبة (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية رقم ٩٣٦)
٦ – إنتقالها بالنفس والجسد إلى السماء : عندما أنهت مريم مسيرة حياتها الأرضيّة، نُقلت بنفسها وجسدها إلى مجد السماء، حيث تشارك في مجد قيامة ابنها، مستبقة قيامة كلّ أعضاء جسده (كتاب التعليم المسيحي المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ، رقم ٩٦٦) ، وبراءة إعلان العقيدة للمكرّم قداسة البابا بيوس الثاني عشر سنة ١٩٥٠) . مريم العذراء بانتقالها إلى السماء، هي صورة الكنيسة وأبنائها وبناتها الذين هم في مسيرة حجّ بإيمان ورجاء نحو بيت الآب السماوي، للمشاركة في مجد الثالوث القدّوس، الإله الواحد غير المنقسم والمتساوية في الجوهر، في شركة القدّيسين . بإنتقالها إلى السماء، تواصل مريم الكلّية الطوبى والكاملةُ القداسة أمومتها بالنعمة لجميع البشر، وتشفع بهم لينالوا الخلاص الأبدي، ولهذا تسمّيها الكنيسة : المحامية والمعينة والوسيطة.
٧ – وأخيراً من اجل كلّ هذه العظائم التي حقّقها الله في شخص مريم الكلّية القداسة والفائقة الجمال ، نعظّم الله معها، ونعطيها الطوبى . إليها، ملجأ الخطأة، نكل كلّ الخطأة ، ونكفّر عن إساءاتهم لله بتوبتنا وأعمال المحبة والرحمة. وإليها، سلطانة السلام ، نجدّد تكريس بلادنا والشرق الأوسط والعالم بأجمعه، ملتمسين من قلبها الطاهر أن تستمدّ لنا من ابنها يسوع ” أمير السلام ” (أشعيا ٩ : ٥)، الاستقرار، وإيقاف الحروب ، والحلول السلمية للنزاعات ، وإرساء السلام العادل والشامل والدائم ، وعودة جميع المهجّرين واللاجئين والمخطوفين إلى بيوتهم وعائلاتهم وأوطانهم .
نطلُب من العذراء مريـم سُلطانة الحبل بلا دنس أن تُباركَ كنائسنا ورعايانا وعائلاتنا وخاصةً الشبيبة ، ومجتمعنا وبلادنا ، لنشر مشاركتها مع إبنها في سر الفِداء والخلاص، والعمل على مثالها لنعيش حياتنا بحسب إرادة ومشيئة الله، ونقول : ” ها أنا خادم الرب ، ها أنا خدمة الرب ” .
أُهنئكم بمناسبة عيد الحبل بلا دنس ، وأطلب منكم أن تستعدوا بالصلاة والصوم وأعمال الرحمّة ، لإستقبال الطفل يسوع في قلوبكم في يوم ميلاده وفي يوم تسميته يسوع وبدء السنة الجديدة المباركة ، وعيد الغطاس والظهور الإلهيّ ، وعلى مثال العذراء مريـم لنحمل المسيح يسوع نور العالم إلى جميع الشعوب من خلال إيمانِنا وأعمالنا وخدماتنا وإبتسامتنا ومحبتنا ومساعدتنا لبعضنا البعض ، متذكرين وصية يسوع إله ومعلّم المحبّة : ” وصيتي لكم : حبّوا بَعضُكم بَعضاً، كما أنا أحببتكم ” .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك