في بيت لحم، ما مِن شيء مجيد وخارق العادة، طفل مقمَّط، محتاج، فقير ومولود في مغارة. إنَّه لَعثار كبير أن يُصبح الله طفلًا، العليّ يحلُّ بين البشر، الخالق يُضحي مولودًا! ربُّ السَّماء نصب خيمته ما بين البشر، سرٌّ لا يدرك بالعقل، إنما بالإيمان، وهو للعقل عثار وللإيمان نور وهداية إلى الله، إنَّه لأشبه بعثار الصليب.
الله الملك لا يأتي بالعظمة والعزَّة، بل يأتي كطفل محتاج، آخذًا طبيعتنا البشريَّة. هذا التَّنازل لله نحو الإنسانيَّة، المشوَّهة بالخطيئة، هدفه إعادة صورة الله إلى الإنسان، ترميم صورة الله في خليقته، الَّتي يُحبّ كلّ حبّه، يحبُّها إلى الغاية (يو 13/1)، وما من أحد قادر أن يُعيد بهاء الله إلى الإنسان إلَّا الَّذي صار في صورة الإنسان، ما عدا الخطيئة، وهو ربّنا يسوع “عِمَّانوئيل – الله معنا”.
لقد تجسَّد الله وصار إنسانًا ليمنح الإنسان والخليقة والكون الجمال والكرامة الأوَّلَيْن، ليُعيد السّلام بين العلو والعمق، ويهدم الهوَّة ما بين السّماء والأرض. يتجلَّى الله في الميلاد كطفلٍ، وهذه علامته لنا نحن اليوم، كي نتمكَّن من استيعابه، وليعلّمنا محبَّة الصّغار، والضّعفاء، والمهمَّشين. فمن خلال وجه طفل بيت لحم، تتوجَّه أنظارنا في هذا العيد، إلى كلّ الأطفال، لا سيَّما المتألِّمين والمستغَلَّين، نحو الأطفال الفقراء، العائشين في البؤس، والفقر، والجوع، سائلين الطِّفل الإلهيّ الأمان والسّلام لعالمنا، ووطننا وأرضنا، وأن يزرع الفرح والبسمة والأمل في حياة أطفالنا.
أردنا، مع حلول عيد الميلاد أن “نتأمَّل معًا” في معاني “مغارة الميلاد”، الَّتي نضعها في بيوتنا، وكنائسنا وأديرتنا ومدارسنا، وأماكن عملنا، وبذلك نقوم بتدريب للخيال الإبداعي ولإنشاء روائع صغيرة من الجمال… طالبين من الله، الَّذي يُقدِّم لنا ذاته كطفل، أن يُعيد إلى حياتنا براءة الطّفولة، فنكون كالمغارة مساحة حقيقيَّة لاستقباله، مدركين أنَّه هو المخلِّص، الَّذي وُلِد لنا، ليعطينا الحياة وافرة.
من المفيد مراجعة الرسالة البابوية لقداسة البابا فرنسيس “علامة رائعة” Admirdbile signum، غريتشو Greccio، في مغارة الميلاد 1 كانون الأوَّل 2019، وتتمحوّر هذه الرسالة حول معنى مغارة الميلاد وقيمتها، وهي مستند أساسي لتأمّلنا اليوم. ومن الجدير الملاحظة مصادفة 2023 ذكرى 800 سنة على أوّل مغارة مع القدِّيس فرنسيس الأسيزي (1223- 2023).
المغارة: يسوع، كلمة الله منذ الأزل، خرج من لدن الآب، وأتى إلى العالم (يو 1/1-18)، لا موضع له كي يسند إليه رأسه (متّى 8/20). أتى من عرش السماء، إلى مغارة وضيعة، متسربلاً بالفقر ومتوّجًا بالتواضع، ضاقت به بيوت خاصته، فاستقبلته الطبيعة بكنفها…
يرى الإنجيليان متّى ولوقا في ولادة يسوع ببيت لحم، تحقيقًا لنبؤة ميخا النبي “وأنتِ يا بيتَ لحمُ أَفْراتَة إنّكِ أصغرُ عشائرِ يهوذا ولكن منكِ يخرجُ لي مَنْ يكون مُتسلطًا على إسرائيل وأُصوله منذُ أيَّام الأزل” (5/1).
يعود القول بولادة يسوع في “مغارة”، إلى بعض آباء الكنيسة، وأولهم القدِّيس يوستينوس (100-165). يُحدِّد التقليد المسيحي عبر التاريخ الموقع الجغرافي لمغارة بيت لحم، حيث شيّد الأمبراطور قسطنطين سنة 335، كنيسة تدعى “كنيسة المهد” أصبحت مقصدًا للحجاج.
مريم: بعد أن بشَّر الملاك جبرائيل العذراء مريم في ناصرة الجليل، قائلًا: “ها أنتِ تحمِلِين، وتلدين ﭐبنًا، وتسمِّينه يسوع”، و”روحٌ قدُسٌ يهبطُ عليكِ، وقدرةٌ من لدنِ العليّ تُظلِّلكِ، فسيدعى المولود قدُّوسًا، وابن الله” (لو 1/31 و35)، وبعد تمام أيَّام حملها ولدت مريم العذراء يسوع “ﭐبنها البكر وقمَّطَتْه” (لو 2/7). أخذ منها جسمًا، لا كمن يمرُّ بقناة، بل تجسّد منها فعلًا، “وصار إنسانًا من أجلنا، ومن أجل خلاصنا”، وفيه يحتجب الطَّبع الخفيُّ للآب. ولدته وأختام البتوليَّة عليها، وهي الأمّ البتول، والبتول الأمّ. تأمّلت مريم بيسوع كونه ابنَها وربَّها، مندهشة، وحائرة بسرّه العجيب، وحملته طفلًا وهو حامل البرايا، أرضعته من حليبها وهو غاذي الخليقة، وناغته منشدةً له أعذب الألحان … وكانت مريم تحفظ كلّ شيء في قلبها (2/19).
يوسف: يوسف البتول خطِّيب مريم، ومن نسل داود (متّى 1/16-20)، نجده في المغارة صامتًا، متأمِّلًا ومنذهلًا بسرّ مريم، وبالثَّمرة المباركة يسوع، وهو يقف إلى جانبهما حاميًا وحارسًا.
المَعلَف: يخبرنا الإنجيليّ لوقا أنَّ مريم العذراء، بعد أن ولدت يسوع، وضعته “في مَعلَف” (2/7). هذا ممَّا يعطي استنتاج ولادته في موضع لتربية المواشي. وضع يسوع في المعلف، حيث تأكل المواشي، دلالة على أنَّه القوت والخبز الحقيقيّ النّازل من السَّماء (يو 6/32-35)، وهو مغذِّي البرايا و”السّنبلة المجيدة”، و”المضجع في المذود، أصبح طعامنا” (القدّيس أغوسطينوس، عظة 189/4). يُرسم المعلف، في الفنّ الإيقونوغرافيّ السُّريانيّ، على شكل “مذبح”، أي مائدة التّقدمة المقدّسة، فيسوع المولود في بيت لحم- مدينة الخبز، يُصبح بدوره خبز البيعة القربان. كما يأخذ المعلف رمزيَّة تابوت العهد، الحاوي حضور الله الجديد وسط شعبه، يسوع الَّذي صار في صورة إنسان (فل 2/7).
الثَّور والحمار: لا يأتي الإنجيليَّان، متّى ولوقا، على ذكرهما في حدث ميلاد يسوع، إنّما يذكرهما أشعيا كمثال إلى طاعة الله ومعرفته بقوله: “عرف الثَّورُ مالكه والحمارُ معلف صاحبه، لكنَّ إسرائيل لم يعرف، وشعبي لم يفهم” (أش 1/3). الثَّور والحمار يمثِّلان البشريَّة من اليهود والأمم (الشَّعب الوثنيّ)، في معرفة ساعة الله وظهوره للعالم، على ما يقول حبقوق النبيّ: “في وسط حيوانَين تظهر، ومتى اقتربت السُّنون تُعرف، ومتى حان الوقت ترى نفسك” (3/2)، إلى هذا النّصّ، مع أشعيا الَّذي ذكرناه أعلاه، يعود أصل التَّقليد عن الثَّور والحمار حول معلف مغارة بيت لحم. فالبشريَّة المؤلَّفة من اليهود والأمم، تستنير وتعرف سرّ الله وبشارته في الابن يسوع، المولود في بيت لحم.
يرمز الحيوانَان، الثَّور والحمار أيضًا، إلى الكروبَين (الملاكَين) اللَّذَين كانا يستران وجود الله الخفيّ، حول تابوت العهد (خر 25/18-20)، وهما في مغارة الميلاد، يستران “المعلف”، تابوت العهد الجديد، الحاوي القدّوس، وابن الله (لو 1/35) “عمَّانوئيل، أي الله معنا” (متّى 1/23).
الرُّعاة: يذكر الإنجيليّ لوقا، إعلان الملاك بشرى ميلاد يسوع “المخلِّص والمسيح الرَّبّ” (لو 2/10)، للرُّعاة السَّاهرين على قطيعهم (2/8-20). ولد يسوع في بيئة رعاة، في بيت لحم مدينة داود، ويُعتبر أولئك الرُّعاة الشُّهود الأوَّلون على الحدث الكبير، تجسّد ابن الله، وهم فقراء، ودعاء وبسطاء، كشف لهم الله سرّه (لو 10/21)، وبذلك يُمثِّلون فقراء إسرائيل – الفقراء إلى الله، وهو مَنِ ﭐفتقر من أجلنا (2 كور 8/9). أراد الله أن يكون الرُّعاة- الفقراء أَوَّل الْمُبشَرين.
كما أُخذ داود من وراء الغنم (1 صم 16/1-13)، ونُصِّبَ راعيًا لشعبه (2 صم 5/2)، يأتي من بيت لحم، مَنْ سوف يرعى شعب إسرائيل (ميخا 5/1-13)، وهو “راعي الرُّعاة” (1 بط 5/4)، راعي النُّفوس وحارسها (1 بط 2/25). وبعد ما أسرع الرُّعاة إلى بيت لحم، وجدوا مريم ويوسف والطِّفل، مضجعًا في معلف، فأخبروا بما قيل لهم في أمره، وبعد ذلك عادوا يمجِّدون الله، باختبار روحيّ عميق لحدث الخلاص، وتحوّل جذريّ في حياتهم.
الملاك: أعلن بشرى ولادة المخلِّص للرُّعاة، وانضمَّ إليه جندٌ من السَّماء سبَّحوا الله قائلين: “ألمجدُ لله في العلى، وعلى الأرض السلام لأهلِ رضاه” (لو 2/14)، ويضيف التَّقليد السُّريانيّ إلى هذه التَّسبحة، في ترجمة الفيشطا (البسيطة للكتاب المقدَّس) “والرَّجاء الصَّالح لبني البشر”. تسبحة الملائكة هذه، تنشدها ليتورجيَّات الكنيسة بمختلف طقوسها.
المجوس: قادمون “من المشرق” (متّى 2/1)، من بيئة بابليَّة وفارسيَّة، وليس ما يُثبت بأنَّهم ملوك. تمتَّع المجوس بمعرفة دينيَّة وفلسفيَّة، وكانوا يَعرِفون على ما يظهر بالحسابات الفلكيَّة، وربَّما نجمٌ برَّاق متوهِّج لمع في بلاد فارس، قادهم وجذبهم نحو بلاد اليهوديّة.
جاء المجوس من بلادهم إلى أورشليم، لزيارة الطِّفل الإلهيّ، “ملك اليهود” (متّى 2/2)، وما إن وجدوه حتّى فرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا (متّى 2/10)، وقدَّموا له السُّجود (متّى 2/11).
تُشكِّل هذه الزِّيارة، فاتحة رسالة يسوع الخلاصيَّة، لكلّ شعوب الأرض، وطريق الدِّيانات نحو المسيح “الكلّ في الكلّ” (1 كور 15/28). على ضوء قراءة المزمور 72/10-11، وأشعيا الفصل 60، اعتبر المجوس ملوكًا. لا يحدِّد الإنجيليّ متّى عددهم، بل حفظ لنا التَّقليد بأنَّهم ثلاثة، وبذلك يمثِّلون شموليَّة المسكونة (الأرض)، وملوك العالم القديم، والقارَّات المعروفة آنذاك: أفريقيا وآسيا وأوروبَّا. فشعوب الأرض، بأُسَرِهَا وأعراقها وألوانها، هي في حجّ نحو الطِّفل المخلِّص، في قرية داود، بيت لحم. وبين المجوس مَنْ هو ذات بشرة سوداء (أفريقيّ)، علامة إلى اللَّاتفرقة في مملكة يسوع، الَّذي تجتمع فيه كلّ البشريَّة، وهو “بكر كلّ خَلْق” (كول 1/15)، وآدم الجديد (1 كور 15/45).
بعد التَّمعُّن بوجوه المجوس الثَّلاثة، نجدهم في أعمار مختلفة؛ فمنهم الشّاب، وبينهم الرّاشد، والشَّيخ المسنّ، وبذلك دلالة على أنَّ كلّ أشكال الحياة ومراحلها، تجد عمق معناها في الطِّفل الإلهيّ الموضوع في المعلف، وبأنَّ كلّ كيان الإنسان في صيرورة نحو المسيح.
حمل المجوس معهم الهدايا للمولود، من ثروات الجزيرة العربيَّة وأطيابها، وتحقيقًا لما جاء في كتب الأنبياء والمزامير (را: إر 6/20؛ حز 27/22؛ أش 49/23؛ 60/5-6؛ مز 72/10-15)، وهذه دلالتها:
الذَّهب: رمز إلى ملكيَّة يسوع، وهو المسيح الرّبّ.
البخور: رمز إلى ألوهيَّة يسوع، وهو ﭐبن الله.
المُرّ: رمز إلى آلام يسوع المرتبط بسرّ الصّليب والموت والدّفن.
النَّجم: دفع كوكب النُّور المتألِّق المجوس، في اتِّباع الطَّريق نحو بلاد اليهوديّة، لملاقاة ملك اليهود. ويُشير النَّجم إلى الكون الَّذي يتكلَّم عن المسيح، ويقود إليه. شكَّل هذا النَّجم مصدر فرح عظيم للمجوس (متّى 2/10)، وهو دلالة إلى فرح الإنسان، الَّذي يتأثَّر بنور الله في قلبه. ويرمز النَّجم إلى يسوع بالذَّات (كما لوحة سيّدة إيليج)، على ما يرى التَّقليد المسيحيّ منذ القرن الأوَّل، إنطلاقًا من قول النَّبيّ بلعام: “يسعى كوكب من يعقوب، ويقوم صولجان من إسرائيل” (عد 24/17). فيسوع هو النُّور الحقّ الآتي إلى العالم لينير كلّ إنسان (يو 1/7-9)، وهو واهب الحياة والنُّور، ومَنْ يسير في نوره لا تدركه الظُّلمة (يو 8/12).
خاتمة ميلاديَّة
مع حلول عيد الميلاد، عيد التجسد الإلهيّ ما أجمل القيام بأعمال ملؤها المحبَّة والرحمة ومسح الدموع من على وجوه الأشخاص المتألمين، وبذلك نشعر بحضور الله بيننا “عمانوئيل”، ويتحوّل قلبنا إلى مهدٍ كبيت لحم.
في عالم العولمة والتكنولوجيا، هناك خطر أن يتحوّل الميلاد إلى عيد فارغ من المضمون، ويتعارض مع المعنى الحقيقي لتجسد الله بيننا. الخطر أن يتحوَّل الميلاد إلى عيد عاطفي، وإستهلاكي غني بالهدايا والأمنيات، إنما فقير في الإيمان المسيحي.
رسالة الميلاد واضحة، بالتجسد لم يطلب الله الغنى… إنما طلب العائلة، فالعائلة هي إختراع الله، وليست إختراعنا نحن، وعلينا أن ندرك بأن مَنْ يناضل ضد العائلة يناضل ضد الله نفسه.
من الواضح أنّ عالمنا يشهد سباقًا إلى التسلّح… وهذا ضرب من الجنون، علينا أن ندرك أنّ في الحروب لا غالب ولا مغلوب، والأبرياء يدفعون الثمن. العالم مدعو إلى “السير معًا” نحو بيت لحم، نحو الطفل الإلهيّ “أمير السلام”، الَّذي لا سلام إلَّا به وفيه ومعه…
مع حلول عيد الميلاد أن “نسير معًا” (روحانيّة السينودس) نحو بيت لحم مثل الرعاة وبشكل روحي، حيث نشاهد الطفل الإلهيّ “الطفل الأعزل”، وهو الله نفسه الله الذي صار إنسانًا، الَّذي يعطي قيمة لإنسانيّتنا وطبيعتنا البشريَّة.