Le Sacré-Coeur De Montmartre (Paris, France) © AED-France/François-Régis @Salefran

هل المسيحية تتفلسف في الحياة الروحية؟ (12)

الجزء الثاني عشر من سلسلة مقالات حول الفلسفة الروحية

Share this Entry

في مقالنا السابق، تناولنا ماهية الروحانية الكرملية وتاريخها. أما في هذا المقال، فسنتناول المدرسة الروحيّة الفرنسيّة. مؤسس المدرسة الروحيّة الفرنسيّة هو الكاردينال بيار دو بيريل (Pierre De Bérulle)، المولود سنة 1575  من عائلة أرستقراطية، أي من طبقة النبلاء التي يخرج منها النّواب على سبيل المثال لا الحصر، والمتوفى سنة 1641 ميلادياً في فرنسا. ترك دراسة الحقوق ليبدأ دراسة اللاهوت، وسيم كاهناً عام 1599 وعُيّن مرشد الملك. وبعدما فكّر بالدخول إلى المدرسة اليسوعية، عاد وقرّر العمل من أجل الإصلاح الكاثوليكي في فرنسا. سعى دو بيريل، وبنجاح، لإدخال راهبات الإصلاح التريزياني إلى فرنسا وأصبح في وقت لاحق زائراً رسولياً عليهم واستمر على هذه الحال حتى مماته. اعتَبر دي بيريل أن التجديد الروحي في فرنسا يمر حتماً بتجديد الكهنة. وفي العام 1611، بناءً على طلب رئيس أساقفة باريس، أسس جماعة كهنوتية اسمها “جماعة يسوع ومريم للخطابة” (Oratoire de Jesus et de Marie). يوضع أعضاء هذه الجماعة تحت سلطة الأسقف مع المحافظة على استقلالية قانونية. في العام 1627، رقّاه البابا أوربانوس الثامن إلى رتبة كاردينال وانتقل إلى ديار الآب سنة 1629 ميلادية.

         كان لهذه المدرسة تأثير على صعيد الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا إبّان القرن السابع عشر، نذكر على سبيل المثال حركة فرنسوا دي لاسال والروحانيات الكبوشية والكرملية والإغناطية والتي سبق أن عرضناهم في مقالات سابقة. ومن الأشخاص الذي تأثروا بدو بيريل هم لويس غيللوم (Louise Guillom)،  جان باتيست دي لاسال (Jean Patiste De La Salle) المذكور آنفاً، والذي أسس أخوة المدارس المسيحية كما العديد من الرهبانيات المسيحية تأثرت به. وعندما أسس دو بيريل جماعته الكهنوتية، ساعد الكهنة من أجل البقاء في جماعة تساهم نوعاً ما في استقرارهم الروحي ونظريته في أن تطوير وتثقيف الكاهن يساهمان في تثقيف الشعب.

         أما روحانية دو بيريل، فتمحورت حول التجسد بين فكر دِنِس سكوت (Denis Scott) وتوما الأكويني. من جهة، كان تجسّد المسيح سيحدث حتى لو لم يخطئ الإنسان، بحسب دِنِس سكوت، ويضيف أن الهدف منه هوى اكتمال الإنسان. في هذا السياق، تكلّم دو بيريل في فترة شبابه عن المسيح العابِد الحقيقي. من جهته، اعتبر توما الأكويني أن المسيح تجسّد لخلاصنا. فيتكلّم دو بريل عن المسيح الذي أتى لخلاصهم في العام 1620 م. وبالنسبة إلى بيريل، يتجه التجسد نحو ذبيحة الصليب والكريستولوجيا التجسدية (ميلاد المسيح) تتجه إلى الكريستولوجيا الذبائحية (صليب المسيح). بذلك، يركزّ دو بيريل على إنتروبولوجيا كهنوتية أسست لمفهوم لاهوتي حول الكهنوت أسهم بدوره في تعزية الإكليريوس، وكان هذا في فترة ما قبل المجمع التردنتيني (1545 – 1563).

يتحدث  دو بيريل عن حياة يسوع السريّة، ويشرح  أن كل ما عاشه المسيح وحدث معه بالتجسد (مثال عرس قانا الجليل وغيره) يترك حالة بشخص يسوع أي الحدث هو وجود في شعوره وفكره وذاكرته. تاريخياً هذا السرّ أصبح من الماضي، لكن بما أن إنسانية يسوع، أي شخصه متحدّث بألوهيته، فكلّ ما عاشه يسوع في إنسانيته هو أبديّ. بالتالي، المسيح حاضر وذلك بفضل ألوهيته التي هي أبدية وتجعل كل ما يتعلق بها أبدياً وبالتالي دائم الحضور. على هذا المنوال، ينطبق ذلك على أحداث حياة يسوع التي يسميها دو بيريل أسراراً. هذه الأسرار لها تأثير خلاصي في الإنسان هنا والآن وعلينا كمؤمنين الانفتاح هنا والآن على هذه الأسرار لنقطف ثمرها الخلاصي.

أخيراً، تتمحور فكرة “الكمال المسيحي” عند دو بريل على صورة العبد والمسيح الذي أخلى ذاته، فيقول: “الكمال المسيحي يكمن في التخليّ عن كلّ حبّ ذاتي يشكّل عائقاً لمحبّة الله وذلك عبر التضحية الكاملة بالذات. ويضيف أن الإنسان هو كائن مخلوق من العدم وهو موجود أصلاً في حالة عدم قبل أن يدعوه الله ولا يستمر الإنسان بالوجود إلا بفضل الله، لذا، ولكي يتمكن الإنسان من الدخول في علاقة مع الله وبالتالي في اختبار روحي، عليه أن يعود إلى حالته الأصلية أي إلى حالة العدم واللاشيء. يتحقق ذلك عبر التضحية الكاملة بالذات. ويكمل دو بريل قائلاً إننا لا نملك شيئاً سوى عدمنا وخطيئتنا تعتبر عدماً ثانياً أسوأ من الأول، أي لكي يعرف الإنسان القداسة عليه التخلي أو إفراغ ذاته من نفسه وملؤها من الله. فعندما يترك الإنسان مساحة حريّة لله في حياته، تبدأ نعمة القداسة في التفاعل بداخله وتملأ هذا الفراغ، فلا يعود الإنسان ممتلئاً من ذاته بل مستنداً على نعمة وإلهامات الله التي يبدأ بتمييزها بعد اختبار طويل وبنعمة خاصّة من الروح القدس.

يتبع

لقراءة المقالة السابقة، إضغط على الرابط التالي:

هل المسيحيّة تتفلسف في الحياة الروحيّة؟ (11)

Share this Entry

سليمان فرنجيه

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير