في مقالنا السابق، تناولنا ماهية المدرسة الروحيّة الفرنسيّة. أما في مقالنا هذا سنتناول مسألة مهمّة جدًّا في كنيسة عالم اليوم ألا وهي الحياة الروحية والقداسة في قلب العالم. أخذت هذه المسألة نقاشات عديدة وتجاذب وردّ ولكن بنتيجة واحدة تدعونا الكنيسة إلى القداسة في قلب العالم وهي التي أعلنت الكثير من العلمانيين كقديسيّن. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر جينّا بيريّتا مولاّ Gianna Beretta Molla، ومؤخرًا من المشرق العربي وتحديدًا الكنيسة المارونية في سوريا الإخوة المسابكيون (عبد المعطي مسابكي، فرانسيس مسابكي، روفائيل مسابكي) هم ثلاثة إخوة قدّيسين موارنة دمشقيّين قُتلوا أثناء صلاتهم في كنيسة الفرانسيسكان بدمشق خلال مجازر عام 1860.
تعتبر مادلين دلبريل أنه من الممكن عيش الإنجيل والتبشير به من جديد في هذا العالم وذلك بشروط وذلك بسبب تعاطيها مع الناس إذ تقول: “يوجد أمكنة يهب فيها الروح لكن يوجد روح يهبّ في كلّ مكان. يوجد أناس يأخذها الله ويفصلها عن الآخرين ويضعها في مكان على حدا، لكن يوجد أشخاص باقين يتركها بين الناس ولا يسحبها من العالم، أشخاص عندها أمراض عادية، أحزان، بيت، ثياب عادية، إنهم أشخاص الحياة اليومية، نلتقي بهم في أيّ شارع، هم يحبّون بابهم الذي ينفتح على الشارع كما يحبّ إخوتهم المكرّسين باب الدير الذي أغلق عليهم نهائياً”. “نحن العائشون بالشارع، نؤمن وبقوة أن هذا العالم حيث وضعنا الله هو مكان قداستنا. نحن نؤمن إن لا شيء ينقصنا في هذا الشارع وإذا نقصنا شيء الله سيعطينا إياه. السبب الأكبر للضجّة يوجد في قلب الإنسان وليس بالضجّة الخارجيّة”.
يتمتع العالم بقيمة روحية وذلك بسبب سرّي الخلق والتجسدّ وذلك في أيّامنا المعاصرة ظهر تفكير لاهوتي يؤسس لمبدأ قداسة الحياة اليومية، يتمتّع العالم بقيمة روحيّة وذلك بسبب الخلق والتجسد، المسيح عمل مشيئة الآب في هذا العالم. فالله ليس بمنافس للإنسان إنّما يعمل مع الإنسان ومن خلال، تقول في هذا الإطار مادلين دلبريل: “لا يجب عليّ أن أعمل للمسيح بل أن أجعل المسيح يعمل من خلالي، لا يمكن حصر المسيحية ببعض الطقوس المنفصلة عن الحياة، إنه لمن الضروري تحويل حياتنا الشخصية إلى فعل عبادة مرضيّة لله”.
“أناشدكم بحنان الله أن تقدموا أشخاصكم ذبيحة حيّة مرضيّة لله فهذه هي عبادتكم الروحيّة” (رومة 12: 11). لا يكفي لكي نتقدّس أن نقدم عملنا لله، أو تخصيص بعض أوقات للصلاة أو للرياضات الروحية، أن السعي للقاء الله في بعض الأمكنة الحصرية فقط، يعرضنا لخطر فقدان المعنى الروحي لحياتنا الروحيّة. يجب أن يصير مجمل وجودنا مرضياً لله وسبب ديناميكية روحيّة وذلك بالرغم من أهمية وضرورة أوقات الصلوات والخلوات. إنسان اليوم المدعو للعمل بطريقة جديّة ومتواصلة، يجب إضفاء قيمة روحيّة على عملنا وانفتاحه على مشروع الله ألخلاصي، كل ذلك يتطلّب القيام بالعمل بكفاءة مهنيّة وقيم العدل والإنسانية والأخوّة.
في هذا الإطار يقول اللاهوتي كارل راهنر: “لقد ولّى الزمن الذي نعيش فيه التقوى خارجاً عن عالم العمل وأنسنة الكون”. باختصار أنا مدعو أن أعيش مختلف تفاصيل حياتي اليومية الغير دينية كفعل لقاء بالله، بالقدر ذاته الذي يعيش الراهب حياة الصلاة بالدير وإلاّ العالم لن بخلص..
يعتبر تيار دي شردان العالم بكونه “مكاناً لاهوتياً”، إذ يعتبر العديد من المؤمنين إن العمل الإنساني يشكل إرباكا روحياً بالرغم من النيّة الصادقة وتقديم النهار لله. الغالبية العظمى من المسيحيين تحتفظ بالفكرة التي تقول إن الوقت الذي نمضيه وراء المكتب، في المشغل، في الحقل أو في المصنع هو أمرٌ لا يمكن أن نعيش فيه فعل العبادة. يعتبرون من المستحيل وجود حياة روحيّة عميقة إلاّ للذين يمضون النهار في الصلاة والوعظ، في العالم لا يمكننا اقتطاع إلاّ بعض الدقائق لله وأغلبية الوقت تعطي لتأمين الحاجات اليوميّة”.
يعتبر دي شردان غير كافٍ تعليم المرشدين الذين ينادون بقدسية العمل الذي نتمّمه بنية مستقيمة ونقدية لمجد الله. ينصح هذا الراهب اليسوعيّ المسيحيين أن يعشقوا عملهم اليومي ويقتنعوا أنهم يسهمون في تحقيق اكتمال العالم بالمسيح. “الله لا يزيح نظرنا عن العمل، يطلبه منّا إنما يجعلنا نلتقي به من خلال العمل تصير حركة الإنسان وسيلة مشاركة في حياة الله وتتحوّل إلى مكان لاهوتي – أي في وجود الله مثال القداسة لأنه تلتقي بالله – حيث نستطيع لقاء الله”. بعد إنتهاء سلسلة المقالات هذه، حاولنا من خلالها التكلّم عن أبرز الروحانيات المسحيّة وذلك لا يعني بأننا قد حصرناها، لأن لكل مسيحي روحانيّته ولكن يمكن أن يكون هنالك نهج معيّن يمكن أن نسير به. يبقى السؤال الأبرز لكل مسيحي هل أنا في مسيرتي الروحيّة على تماهي مع إرادة ومشيئة الله؟
لقراءة الجزء السابق، أنقر هنا: