الألم في المسيحية
أيوب والألم!
الألم هو تجربة حسيّة وعاطفية بغيضة متعلقة بضرر نسيجي فعلي أو كامن، أو موصوفة بمطلحات تمثل ضرر. وعادة هو إحساس أو معنوي سلبي بعدم السعادة والمعاناة. والألم قد يكون مادي أو شعور المادي مثل المرض أو عملية جراحية. والإحساس بالألم المعنوي هو الذي يدخل إلى القلب والروح وهو الأشدّ إيلامًا. إمّا أن يكون نتيجة أزمة عاطفية أو شعور مع شخص آخر على سبيل المثال لا الحصر. من الناحية العلمية يختلف الاحساس بالالم من شخص لآخر حسب العوامل الوراثية وأكثر من يتالم هي المرأة لأن جسمها يحتوي على عدد ألياف عصبية أكثر من الرجل مما يجعل إحساسها بالألم أقوى ولمدّة أطول. وفي المسيحية يتغير مفهوم الألم. من ألم لمجرد الالم إلى ألم ذو معنى. إذ أن المسيح على صليبه تألم عن البشرية جمعاء. يتسائل البعض لا بل الكثير من المسيحيون؛ بما أن المسيح قد تألم، لماذا يوجد الألم؟
هذا سؤال وجيه ولكن لا يمكننا اختبار السعادة ما لم يكن هنالك ألم ولكي نعرف معنى السعادة يجب تذوق طعم الألم. يجيب البعض بأنه تافه ولا معنى له وليس له من أساس. فلطالما كان الألم محور بحث لدى الديانات من بينها اليهودية إذ أن شعب العهد القديم كان يربط الألم بانه نتيجة طبيعية للخطيئة البشرية ولكن لماذا الألم والإنسان بار؟
هنا يأتي سفر أيوب في محاولة لشرح تلك المعضلة، فيسرد لنا بأن أيوب رجل بار وكامل، فلماذا هذا الألم الذي حلّ به؟ كان أيوب رجلاً مستقيمًا يحق له بالمكافئة لا العقاب (وهذه حسب الرغبة الطبيعية). بالرغم من المصاعب التي واجهها أيوب ظلّ متمسكاً بعدم نكرانه لله. أكمل بحثه ورجائه لله.
ظلّ أيوب ينكر خطيئته وهو البار، المتقي الله والرجل القديس، فبقي يتألم هكذا إلى أن ظهر له الله في الوحي وحلّ مشكلته ونقل معضلته إلى مستوى آخر يفوق المنطق البشري. فيسرد الله عن عظمته وعن أسرار الخلق وعن ضعف الإنسان “أين كنت حين أسستُ الأرض” أيوب 38: 4؛ فيقع أيوب ساجدًا له بعد أن عرف: “بأن هذا الكون مليء بالأسرار”، ويقرّ بضعفه: “فلذلك أنكر مقالتي وأندم في التراب والرجاء” (أيوب 44: 6)، هنا فقط يجد أيوب السلام القلبي والطمأنينة العقلية. هكذا يعلمنا سفر أيوب أن الألم والحزن سّران موجهّان إلى الإيمان، لا قضية مطروحة على العقل. فالله امتحن أيوب على جميع الأصعدة (المال، الاولاد والصّحة)، فيذهب أيوب شاكيًا ليلاً إلى الله فيجد الجواب. هذا السفر هو أمثولة وطريقة تربوية في الإيمان. تألّم أيوب كثيرًا حتى وجد الله ويسوع يردد قبل الدخول في مجده “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” بمقارنة سريعة يسوع هو وحيد وقدوس الله ومع ذلك يتالّم، ذلك الألم من المولد إلى اللحد. لا نريد الإطالة بالحديث عن معنى ألم المسيح لأن الجميع يعرف الإنتصار الساحق على الشرّ المتمثل بالموت عبر القيامة.
بمقاربة صغيرة بين أيوب ذلك البار والمسيح القدوس البار بأن الاول بحث عن الله متذمرًا شاكيًا آلالامه بينما المسيح ذهب شاكراً متقبلاً وضعه بالرغم من القلق والحزن العميق فيه (وهذا طبيعي في النفس البشرية حيث تظهر لنا كامل إنسانية يسوع). عندما نذهب لسفر الجامعة أي الحكمة التي تأتينا كخلاصة حكم سليمان الحكيم ابن داوود، السعي الدائم وراء الفرح الذي ينتج عنه الألم في الليل بعد بحث دقيق في جيوب الضمير يستنتج الكاتب الملهم بأن الفرح الحقيقي هو فرح البقاء بجانب الله.
نعود لمقالتنا بأن المسيح قد حمل الصليب وتألم ومات بملء إرادته ورضاه وقد تاق إليهما. فقد كانت ساعته ساعة مجده. نظر إلى الصليب الذي سقط تحته ثلاث مرات كوسيلة يجذب بها الجميع. وهو عندما التزم بإنسانيتنا، التزم بها حتى النهاية، والصليب والموت ليسا سوى النتيجة، القمة لهذا الالتزام، لهذا التجسد…
قَبِل المسيح بالألم والموت لأنهما من مقاييس إنسانيتنا، لأنهما ملازمان لحياتنا. قَبِل بهما لأنها إرادة أبيه. قَبِل بهما لأنهما خلاص للعالم وتعبير عن حبه الكبير. ومنذ تلك الساعة، أصبح الألم والصلب ملازمان لكل حب حقيقي. أصبحا خبرة حياة يعيشها الإنسان في علاقته مع الله، بل الخبرة الحياتية الأولى مع الله ولن نبلغ الحياة الأبدية إلا إذا حملنا الصليب مع المسيح وقبلنا عماد الألم…