يقول الرسول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس، في الفصل الأول الإصحاح الثامن عشر بما يخص الصليب: “فإن كلمة صليب عند الهالكين جهالة، وأما عندنا نحن المخلصون فهي قوة الله” يعرف الصليب على أنه أداة لتعذيب وعقاب والإعدام؛ وهي مصنوعة من عمود خشبي، يعلق عليه الشخص حتى يموت من الجوع والإجهاد. وقد تطور الصليب حتى أخذ الشكل المألوف في عصر الرومان فصار مكونا من عمود خشبي مثبت في طرفه الأعلى خشبة مستعرضة لتشد عليها يدا المصلوب وتسمر بها أو تربط بالحبال. والصليب كلمة مهمة في الكتاب المقدس، خاصة في العهد الجديد فوردت كلمة الصليب 28 مرة وفعل الصلب 46 مرة…
لقد مات يسوع مصلوبا، فأصبح الصليب، الذي كان أداة للفداء، مع الموت، والألم، والدم، أحد الأركان الأساسية التي تساعد على كتذكيرنا بخلاصنا. إنه لم يعد عارا، بل أصبح مطلب، وعنوان للمجد، للمسيح أولا ثم للمسيحيين من بعده. يقول الكتاب “وإن كان المسيح قد صلب” (أعمال 2:23)، “وعل على خشبة” (أعمال 5:30) عن طريق متعثرة (تثنية 21:23)، فقد كان ذلك على الأرجح بسبب بغض إخوته. أما بعد أن أوضحت النبوءة هذا الحادث، فإنه يكتسب بعدا جديدا: فإنه يتمم “ما كتب عن مصير المسيح” (أعمال 13:29) من أجل ذلك فإن الروايات الإنجيلية عن موت يسوع تحوي بين طياتها إشارات كثيرة إلى المزامير. ف “كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام”. كما سيوضح ذلك القائم من بين الأموات لتلميذي عماوس: “فقال لهما: يا قليلي الفهم وبطيئي القلب عن الإيمان بكل ما تكلم به الأنبياء، أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده؟” (لوقا 24:25 – 26)…
لقد تلا بولس الرسول عن التقليد الأصلي أن “المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب” (1 كورينتس 15:3) إن هذا المعطى التقليدي يقدم لتأمله اللاهوتي نقطة انطلاق، إذ إنه باعترافه بأن الصليب هو الحكمة الحقيقية، لا يريد أن يعرف إلا يسوع مصلوبا. فالله تصالح مع كل الكائنات “بدم صليبه” (كولوسي 1:20)، مزيل كل الانقسامات القديمة التي كانت سببها الخطيئة، وأقام السلام والوحدة بين اليهود والأمم لكي يكونوا بعد إلا جسدا واحدا (أفسس 2:14 – 18). فيرتفع الصليب إذنا فوق الحدود الفاصلة بين تدبيري العهد القديم والعهد الجديد.
الصليب والآلام إذ إن المجمع الفاتيكاني الثاني يعلمنا في عدد 615 بأن يسوع أحل طاعته محل عصياننا: “كما جعل الكثير خطأه بمعصية إنسان واحد، كذلك بطاعة واحدة يجعل الكثير أبرارا” (رومة 5:19). فيسوع بطاعته حتى الموت أقام الخادم المتألم بديلا، ذاك الذي يقدم حياته ذبيحة تكفير، إذ كان يحمل خطايا كثير ويبرهم بحمله آثامهم. فيسوع كفر عن آثامنا ونال صفح الأب عن خطايانا. وفي العدد 616 بأن يسوع يتم ذبيحة على الصليب: المحبة إلى الغاية هي التي تجعل لذبيحة المسيح قيمتها الفدائية والتعويضية، والتكفيرية والتوفيقية. إنه قد عرفنا وأحبنا في تقديم حياته. “محبة المسيح تحثنا، إذ نعتبر أنه، إذا كان واحد قد مات عن الجميع فالجميع قد ماتوا معه” (2 كورينتس 5:14).
ما من إنسان، وإن كان أقدس القديسين، كان بإمكانه أن يحمل خطايا جميع البشر، وأن يقدم نفسه ذبيحة عن الجميع. فوجود شخص الابن الإلهي في المسيح، ذلك الشخص الذي يفوق البشر وفي الوقت نفسه يشمل جميع أشخاص البشر، والذي يقيمه رأس للبشرية كلها جمعاء، الذي يجعل ذبيحته الفدائية عن الجميع ممكنة. وفي عدد 617 والمجمع التريدنتيني يعلم: “إنه بآلامه المقدسة، على خشبة الصليب، استحق لنا التبرير. وقد أبرز الطابع الفريد لذبيحة المسيح على أنها (علة خلاص أبدي) والكنيسة توقر الصليب مرنة: (السلام عليك، أيها الصليب، يا رجاءنا الوحيد!)”. وفي العدد 621 “يسوع قدم باختياره نفسه لأجل خلاصنا، هذه المتقدمة عبر عنها وحققها مسبقا في العشاء الأخير:” هذا هو جسدي الذي يبذل من أجلكم (لوقا 22:19)…
وكم من أناس حملوا صليبهم ولم يقدروا أن يحملوه بل يسوع هو من أعانهم على حمله. فالصليب هو واقع حياتنا اليومي، من اضطهاد ومرض وكل ألمٍ. والصليب ليس مجرّد علامة مصنوعة من خشب أو ذهب أو فضة تعلّق على الصدور ولكن خطة الله لفداء الإنسان من خلال موت المسيح وقيامته. وهو ليس عقاب من الله لنا بل بقوّة صليبه أصبح قوّة خلاصنا ووسيلة عبورنا نحو الله. في الصليب تحصين ضد مكائد الشرّ. في لبنان، كلِّ قمّة أو تلة يكللها الصليب المقدّس وكانت مبادرة فردية للطوباويي أبونا يعقوب الكبوشي. واعتبر الآباء والأجداد هو وسيلة قويّة للتخلص من الشرّ المتربّص بهم. والصليب هو مجيد وفخر لهم إذ إنّهم استشهدوا بكل بسالة وإيمان وحملو صليبهم وتبعوه. نرنّم له بالقول:
الصليب المجيد
صليب الرب القائم
هو شجرة خلاصي
منها اتغذى أنمو عند جذورها.
المسيحيون الشرقيون حملوا صليبهم بكل فرحٍ، من احداث لبنان ولاحقا سوريا الجريحة إلى العراق المذبوح والمفجوع بابنائه، نراهم يحملونه ومقولة “الله بيفرجها” تصاحب كلامهم وهمومهم اليومية… المسيح تألم ومات وقبر وقام في اليوم الثالث، فلا مسيحية وقيامة دون صليب وألم كما احتمل السيّد الرّب… نصلي، مع المصلوب: يا رب ارحم شعب الرازح تحت الصليب.