تَسَلَّمَ سمعان ستوك الإنكليزي، رئاسة الكرمليين العامّة سنة ١٢٤٧ وقد عُرف عنه أنّه كان مغرماً بمريم العذراء وبالتعبّد لها .
وكانت الرهبانية الكرملية قبل سنة ١٢٥٠ تعيش على شفير الهاوية : فعدد الرهبان قليل ، الغالبية منهم متقدمون في السن … لا دعوات جديدة … إنطلقت من الشرق إلى الغرب ولكن الغرب لم يكن ليقبلهم بسهولة : فبعض الأساقفة والرؤساء الروحيين لم يسمحوا لهم بالإحتفال بالقدّاس والفرض الكنسي، في رعاياهم وكنائسهم، أو حتى أن يدفنوا موتاهم في مقابر الأبرشية . ممنوع عليهم أن يبنوا كنائس خاصّة بهم ضمن أبرشيتهم أو أن يقرعوا الأجراس . كانوا يعدّونهم غرباء طارئين ، وافدين من شرق مجهول، لا أصل لهم ولا هوية واضحة، ولا إعترافاً كنسيّاً صريحاً وواضحاً برهبانيتهم .
إذًا، الصعوبات عديدة وجميع النوافذ مغلقة في وجه الرهبانية . من هنا نشأت الفكرة عند القديس سمعان ستوك : لن يستطيع أحد الدفاع عن الرهبانية وإنهاضها إلاَّ أمّها بالذات …
ألسنا نحن إخوتها وأبناءها ! إذًا على الإخوة الكرمليين أن يستعينوا بأختهم القديرة . لذلك دأب سمعان ستوك وهو المسؤول الأول ، على التوسّل إلى مريم العذراء ، سيّدة الكرمل ، طالباً منها امتيازاً فريداً ، طالباً منها “علامة حسّية ” تبرهن بها على استمرار حمايتها لإخوتها وأبنائها .
وكانت صلاته ترتفع كالبخور كل يوم فيصلّي ويقول :
يا زهرة الكرمل ـ يا كرمة مثمرة ـ يا ضياء السماء ـ يا مريم العذراء ـ أنتِ وحدك الأمّ الشفوقة ، العذراء المتواضعة ، التي لم تعرف رجلاً ـ أعطي أولادك ، أولاد الكرمل ، إمتيازاً فريداً ـ يا نجمة البحر … وقد سمّاها سمعان ستوك : ” نجمة البحر ” لأن البحّارين كانوا وسط الأخطار يتطلعون إلى النجمة «نجمة البحر» التي بواسطتها كانوا يعرفوا الإتجاه صوب الميناء .
(عليك السلام بلا ملل يا نجمة البحر والأمل).
وفي ١٦ تموز ١٢٥١ بينما كان يصلّي صلاته المعهودة هذه ، إذا بالعذراء مريم ، مصحوبة بجوقاتٍ من الملائكة تظهر له وهي تحمل في يدها ثوب الرهبانية وتقول :
” خذ هذا الثوب. إنّها العلامة. إنّه الأمتياز الذي طلبته مني: أعطيه لك ولجميع رهبان الكرمل .
كل من يموت حاملاً هذا الثوب، فإنه لن يذوق عذاب النار بل يخلص ” .
ماذا كانت النتيجة بعد هذا الظهور ؟
لقد أَحسَّ سمعان ستوك باطمئنان شديد، وبقوّة عظيمة، إثر هذا الظهور، وإثر هذا الإعلان الجلي الواضح . لقد استجابت مريم صلاته وصلاة إخوته الرهبان . وأخذت على عاتقها مصير رهبانيتها . لقد تشّجع سمعان وتقوّى . رحلت عنه الشكوك والوساوس بخصوص المستقبل ، بعدما بلّغ رهبانه بما حصل : فتشدّدوا جميعاً وتقوّوا …
لقد أكدّت على حمايتها وشفاعتها ولمَ لا ؟ أليست كليّة القدرة ؟ وهل تعجز على إعطاء أبنائها هذه العلامة ؟ ” إنّه الثوب ” هدية من مريم إلى أبنائها .
وهكذا فإنّ القرن الثالث عشر لم يكد يشرف على نهايته ، حتى نهضت رهبانية الكرمل من الحضيض إلى القمّة : فتثبتت الرهبانية وأخذت مركزها وموقعها بين كبريات المؤسّسات الرهبانية في العالم . وتوالت التأسيسات بعد سـمعان : فبعد سنتين كان التأسيس في أكسفورد وفي لندن ١٢٥٣ ـ في باريس ١٢٥٤ ـ في يورك ١٢٥٥ ـ في نورويش 1256 ـ في بولونيا ١٢٦٠ ـ وزاد عدد الأديرة وتكاثر عدد الرهبان في الشـرق وفي الغـرب، وتأسسـت الأقاليـم إقليمـاً تلو الآخر . إقليم رومة ١٢٦٥ ـ فرنسا ١٢٦٥ ـ ألمانيا ١٢٦٥ـ لومبرديا ١٢٧٠ ـ أكيتان(فرنسا) ١٢٨٢ ـ إسبانيا ١٢٨٢ ـ إيرلندا١٢٩٧ .
لقد كانت السنوات التي تلت ظهور العذراء للقدّيس سمعان ستوك حافلة بشتّى الإنعامات والتأسيسات. فنهضت الرهبانية من الخمول والنسيان والإنهيار والموت ، بعدما لبست حلّة الثوب الجديد : ثوب العذراء مريم سيدة الكرمل. وهكذا امتدّ الكرمل من الشرق إلى الغرب واستقرّ بقوّة في كافة بلدان اوروبا الغربية والشرقية …
أجل ! فالإيمان يصنع الأعاجيب . والصّلاة الحارّة تحرّك السماء . طلب سمعان العون من العلاء ، فاستجابت مريم لأنها سلطانة الأرض والسماء . لقد عرف سمعان بمن يستنجد وإلى من يصرخ في وقت الشدة والضيق ! ألاَ يصرخ الولد إلى أمّه عند الخطر ! ألاَ ينادي الطفل أمّه عند الخوف والمرض ! لقد تدخلت العذراء عندما هرعت القلوب إليها ، كما تتدخل اليوم أيضاً عند طلب شفاعتها .
ومريم لا تزال أمّاً في كل زمان وجيل ! إنّها أمّ البشرية ، وهي تبرهن عن قدرتها وشفاعتها من خلال ظهوراتها المتعددة في لورد ـ في فاتيما ـ في مديوغوريه ، في الشرق والغرب …
فإليها ترتفع أيضاً صلاتنا في كلّ حين .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك