السّيّد الرّئيس،
السُّلُطات المحترمين،
ممثّلي المجتمع المدنيّ المحترمين،
أعضاء السّلك الدّبلوماسيّ،
أشكر السّيّد الرّئيس على كلمات التّرحيب اللطيفة التي وجّهها إليّ والتي جدَّدَت فيَّ شكري وتقديري لزيارته الأخيرة للفاتيكان. أشكر جميع السُّلُطات على التّرحيب الحارّ في بلدكم هذا، وهو مفترق طرق تجاري ذو أهميّة أولى ومكان للقاء بين مختلف الشّعوب.
لا يمكن لأيّ شخص يصل إلى هنا للمرّة الأولى إلّا أن ينبهر بغابة ناطحات السّحاب الحديثة جدًّا التي تبدو صاعدة من البحر. إنّها شهادة واضحة على عبقريّة الإنسان، وديناميكيّة المجتمع السّنغافوري، وبلوغ القمّة في روح المبادرة في العمل، التي وجدَت أرضًا خصبة للتّعبير عن نفسها هنا.
قصّة سنغافورة هي قصّة نمو ومرونة. من أصول متواضعة، وصل هذا الوطن إلى مستوى عالٍّ من التّنمية، ما يدل على أنّه نتيجة قرارات عقلانيّة وليس صدفة: إنّه نتيجة الالتزام الدّائم بإنجاز المشاريع والمبادرات المدروسة المنسجمّة مع مِيزات المكان المحدّدة. تصادف هذه الأيام الذّكرى المئة وواحد لميلاد لي كوان يو ((Lee Kuan Yew، أوّل رئيس وزراء لجمهوريّة سنغافورة، الذي شغل هذا المنصب في الفترة من 1959 إلى 1990 وأعطى زخمًا قويًّا للنمّو والتّحوّل السّريع في البلاد.
ومن المهمّ أيضًا أنّ سنغافورة لم تزدهر اقتصاديًا فحسب، بل سعت جاهدة إلى بناء مجتمع حيث تحظى العدالة الاجتماعيّة والخير العام باحترام كبير. أفكّر بشكل خاص في تفانيكم في تحسين ظروف الحياة للمواطنين بسياسات الإسكان العام والتّعليم عالي الجودة ونظام الرّعاية الصّحّيّة الفعّال. وآمل أن تستمرّ هذه الجهود في إشراك جميع السّنغافوريّين بصورة كاملة.
وفي هذا الصّدد، أودّ أن أشير إلى المخاطر التي تنطوي عليها بعض البراغماتيّة وتمجيد الجهد الفردي، أي النّتيجة غير المقصودة لإضفاء الشّرعيّة على استبعاد الذين يجدون أنفسهم على هامش منافع التّقدّم.
وفي هذا، فإنّني أدرك وأشيد بالسّياسات والمبادرات المختلفة التي تمّ وضعها لدعم الأضعفين، وآمل أن يتمّ إيلاء اهتمام خاصّ للفقراء وكبار السّنّ – الذين أرست جهودهم الأساس لسنغافورة التي نعرفها اليوم – وأيضًا لحماية كرامة العمّال المهاجرين، الذين يساهمون بشكل كبير في بناء المجتمع، والذين يجب أن يحصلوا على أجر عادل.
تقنيات العصر الرّقمي المتطوّرة والتّطوّرات السّريعة في استخدام الذّكاء الاصطناعيّ يجب ألّا تجعلنا ننسى أنّه من الضّروريّ أن ننمّي علاقات إنسانيّة حقيقيّة وعمليّة. وأنّ هذه التّقنيات يمكن استغلالها على وجه التّحديد لتقريبنا بعضنا من بعض، وتعزيز التّفاهم والتّضامن، وعدم عزل أنفسنا بشكل خطير في واقع وهميّ وغير محسوس.
سنغافورة عبارة عن فسيفساء أعراق وثقافات وأديان تعيش معًا في انسجام، وهذه الكلمة مهمّة جدًّا: الانسجام. إنّ تحقيق هذه الشّموليّة الإيجابيّة والحفاظ عليها يدعمها حياد السُّلُطات العامّة، وانخراطها في حوار بناء مع الجميع، ما يتيح للجميع تقديم مساهمتهم الفريدة في الخير العام وعدم السّماح للتّطرّف والتّعصّب بأن يكتسب القوّة فيعرِّض السّلام الاجتماعيّ للخطر. الاحترام المتبادل والتّعاون والحوار وحرّيّة إعلان الإيمان، مع الولاء للقانون العام، هي شروط النّجاح والاستقرار الذي حقّقته سنغافورة، وهي الشّروط المطلوبة لتنمية غير متضاربة وفوضويّة، بل متوازنة وقابلة للبقاء.
حاولت الكنيسة الكاثوليكيّة في سنغافورة، منذ بداية وجودها، أن تقدّم مساهمتها الفريدة في مسيرة هذه الأمّة، وخاصّة في قِطَاعَي التّعليم والصّحّة، بفضل روح التّضحية والتّفاني للمُرسلين والمؤمنين الكاثوليك. الجماعة الكاثوليكيّة، المنتعشة دائمًا بإنجيل يسوع المسيح، هي أيضًا في المقدّمة في الأعمال الخيريّة، وتساهم بشكل كبير في الجهود الإنسانيّة وتُدير، لتحقيق هذه الغاية، مؤسّسات صحّيّة مُختلفة ومنظّمات إنسانيّة كثيرة، ومن بينها كاريتاس، التي نعرفها كلّنا.
علاوة على ذلك، عملت الكنيسة باستمرار – وفقًا لتعليمات الوثيقة المجمعيّة ”في عصرنا“ (Nostra aetate) الصّادرة عن المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في علاقة الكنيسة بالدّيانات غير المسيحيّة – على تعزيز الحوار بين الأديان والتّعاون بين طوائف دينيّة مختلفة، بروح من الانفتاح والاحترام المتبادل، وهو أمر أساسيّ من أجل بناء مجتمع عادل وسلميّ.
زيارتي هذه، تأتي بعد ثلاثة وأربعين سنة على إقامة العلاقات الدّبلوماسيّة بين الكرسيّ الرّسوليّ وسنغافورة. وهي تهدف إلى تثبيت الكاثوليك في الإيمان وحثّهم على مواصلة تعاونهم مع جميع الرّجال والنّساء ذوي الإرادة الصّالحة بفرحٍ وتفانٍ، من أجل بناء مجتمع مدنيّ سليم ومتماسك، ومن أجل الخير العام ومن أجل شهادة شفّافة لإيمانهم.
سنغافورة تلعب أيضًا دورًا محدّدًا في النّظام الدّولي – يجب ألّا ننسَ هذا الأمر -، الذي تهدّده اليوم الصّراعات والحروب الدّمويّة، ويسعدني أنّها عزّزت بجدارة التعدّديّة والنّظام القائم على قواعد يتقاسمها الجميع. أشجّعكم على العمل باستمرار من أجل وَحدة وأخوّة الإنسانيّة، ومن أجل الخير العام للشّعوب كلّها والأمم كلّها، ومع خدمة للمصالح الوطنيّة، لا تستثني ولا تُقصي أحدًا.
واسمحوا لِي أن أذكر أيضًا دور العائلة – المكان الأوّل الذي فيه يتعلَّم كلّ واحدٍ منّا أن يتواصل مع الآخرين، وأن يكون محبوبًا وأن يحبّ. في الظّروف الاجتماعيّة الحاليّة، الأسس التي تقوم عليها العائلة صارت موضع تساؤل وتوشك بأن تضعُف. يجب أن تُوضع في حالة تسمح لها بنقل القِيَم التي تعطي معنًى وشكلًا للحياة، وبتعليم الشّباب أن يكوِّنوا علاقات متينة وصحّيّة. لذلك، علينا أن نثني على الجهود المبذولة لتعزيز وحماية ودعم وَحدة العائلة بعمل المؤسّسات المختلفة.
لا يمكننا أن نُخفي أنّنا نعيش اليوم في أزمة بيئيّة، وعلينا ألّا نستهين بالتّأثير الذي يمكن أن يكون لدولة صغيرة مثل سنغافورة على هذه الأزمة. موقعكم الفريد يمنحكم فرصة الوصول إلى رؤوس الأموال، والتقنيّات والعقول والموارد التي يمكنها أن تقود التّجديد في رعاية سلامة بيتنا المشترك.
التزامكم بالتّنمية المستدامة وحماية الخليقة هو مثال يحتذى به، وبحثكم عن حلول مبتكرة لمواجهة التّحدّيات البيئيّة يمكن أن يشجّع البلدان الأخرى على أن تصنع الأمر نفسه. سنغافورة مثال ساطع على ما يمكن للبشريّة أن تحقّقه بالعمل معًا في تناغم، ومع إحساس بالمسؤوليّة ومع روح الشّموليّة والأخوّة. هذا تلخيص لموقفكم: العمل معًا في تناغم، ومع إحساس بالمسؤوليّة ومع روح الأخوّة والشّموليّة. أشجّعكم على أن تستمرّوا في هذا الطّريق، وأن تثقوا بوعد الله وبمحبّته الأبويّة للجميع.
السّيّد الرّئيس، السّيّدات والسّادة، لِيساعدكم الله لتجيبوا على احتياجات وانتظارات شعبكم، ولْيُشجِّعكُم أن تعرفوا هذه الخبرة: إنّ الذي يبقى متواضعًا شاكرًا يمكن أن يحقِّق أمورًا عظيمة لصالح الجميع.
ليبارك الله سنغافورة!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana