بقلم الاب د. اغسطينوس منير
- يقول الرب: لا تصنع لك منحوتا ولا صورة شيء مما في السماء من فوق، ولا مما في الأرض من أسفل، ولا مما في المياه من تحت الأرض.
- لا تسجد لها ولا تعبدها، لإني أنا الرب إلهك إله غيور
اعاقب إثم الآباء في البنين، إلى الجيل الثالث والرابع، من مبغضي،
وأصنع رحمة إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي (خر ٢٠ : ٦)
في الوصية الثانية (خروج ٢٠: ٥- ٦)، نرى تجسيدًا مباشرًا للصفات الإلهية، يظهر الله صفاته بشكل مباشر، حيث ويتوجه إلى أبناء الشعب، ويلاحظ حياتهم وفقًا لوصاياه، مما يعكس علاقته المباشرة وغير الوسطية معهم.
ومع ذلك، على مدى فترة طويلة، كان هناك سوء فهم شائع بين من قرأ هذه الوصية بشكل سطحي، حيث كان يُعتقد أن الله إله منتقم وغير عادل، يعاقب الأبناء بسبب خطايا الآباء. لكن بفضل جهود المفسرين المعاصرين، مثل جان بيير سونيت، الذي قام بدراسة متعمقة لهذه الوصية، تم الوصول إلى تفسير مختلف.
قبل أن نتناول صفتي “العدل والرحمة”، نجد أن الله قد قدم نفسه في هذه الوصية بطريقة واضحة وصريحة، حيث قال: «أنا الرب إلهك، الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية» (خروج ٢٠: ٢). من خلال هذه الكلمات، يعرّف الله نفسه بالإله المحرر الذي تدخل لإنقاذ شعبه من العبودية. بعد هذا التعريف الذاتي، تأتي الأوامر التالية في الوصية التي نرغب في تحليلها.
النص يقول: «لا يكن لك آلهة أخرى تجاهي. لا تصنع لك منحوتة، ولا صورة شيء مما في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في المياه من تحت الأرض. لا تسجد لها ولا تعبدها، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنب الآباء في البنين إلى الجيل الثالث والرابع من الذين يبغضونني، وأصنع رحمة إلى ألوف من الذين يحبونني ويحفظون وصاياي.» (خروج ٢٠: ٥- ٨).
أولاً، يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن السياق الكامل للوصايا العشر يظهر أن الهدف من الوصايا هو الحفاظ على إخلاص الشعب لله. في التقاليد المسيحية، يأتي تحريمه للصور في المرتبة الثانية، وهذا يبرز أهمية الحفاظ على نقاء العبادة وعدم التعدي عليها. الله يُعرف هنا بالإله الغيور، وهو مصطلح مهم في تعريفه لذاته: لا يسمح لشعبه بعبادة أو خدمة أي أحد غيره.
١. ذنب الإباء يقع على الأبناء
نحن في نقاشنا هنا في هذه النقطة نركز على كيفية تأثير “الصفات الإلهية” على الأجيال القادمة، كما يتضح من النصوص المقدسة. النص الذي نتحدث عنه، الوصية الثانية في سفر الخروج (خروج ٢٠: ٥- ٦)، يقدم ما يُسمى بـ “تهديد لثلاثة أو أربعة أجيال” مقابل “وعد بالرحمة لألف جيل”. هذا التباين العددي بين العقاب والرحمة هو مفتاح لفهم مدى تفضيل الله للرحمة على العقاب.
الرقم “ثلاثة أو أربعة أجيال” يشير إلى المدة التي يمكن أن تستمر فيها تداعيات الخطيئة، بينما “ألف جيل” يرمز إلى مدى اتساع رحمة الله وتسامحه. قبل كل شيء اذا هذا التباين (الفرق العددي بين الف جيل – ثلاثة او أربعة أجيال) يكشف لنا أن رحمة الله تفوق العقاب بكثير. بعبارة أخرى، الله يميل إلى منح الرحمة واللطف بأكثر من معاقبة الأجيال، مما يعزز الفكرة بأن الله يفضل دائمًا مكافأة الإخلاص والأمانة بأكبر قدر من الرحمة، بينما العقاب يكون محدودًا ومؤقتًا.
ومع ذلك، يظل السؤال: هل يعاقب الله خطايا الآباء على الأبناء؟ وهل يكون ذلك عملًا غير عادل؟ للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى فهم السياق التاريخي والثقافي لهذا النص.
في المجتمعات القديمة، كان من العادة أن يعيش الأجداد والأبناء والأحفاد تحت سقف واحد، وبالتالي يكونون شهودًا على سلوكيات بعضهم البعض (أي الأجداد يشاهدون سلوكيات الاحفاد) . على سبيل المثال، أيوب شهد أبناءه وأحفاده حتى الجيل الرابع (أيوب ٤٢: ١٦). وبالتالي، في هذا السياق، “الأجيال الثلاثة أو الأربعة” تشير إلى فترة زمنية يمكن أن تشمل تعايش الأجيال المختلفة مع بعض.
لذا، لفهم المقصود من عبارة “إلى الجيل الثالث والرابع”، يجب أن نقرأها بشكل أعمق. الفعل العبري “פקד” (بَقَد)، الذي تم ترجمته في بعض النسخ إلى “افتقد”، ينبغي ترجمته بشكل أدق إلى “يراقب بعناية”. وبذلك، تصبح الترجمة الأدق للنص هي:
“الله يراقب بعناية خطايا الآباء عند الأبناء عبر/ حتي ثلاثة أو أربعة أجيال”. وهذا يعني أن الله يتابع ويراقب بعناية سلوك الأجيال (الاحفاد) التي تأتي بعد الآباء، ويحاسب أو يعاقب بناءً على الأفعال السيئة التي تستمر من جيل إلى جيل بكلمات اخري : الله يراقب بعانية ويعاقب اذ ارتكب الاحفاد نفس أخطاء اجدادهم ، بينما يكافئ الأجيال التي تتبع طريق الخير والإخلاص برحمة لا حصر لها.
إذاً، الفهم الأصح هو أن الله لا يعاقب الأبناء بشكل عشوائي بسبب خطايا آبائهم، بل يراقب سلوكهم بتمعن. العقاب لا يُطبق إلا إذا استمر الأبناء في ارتكاب نفس الأخطاء التي ارتكبها آباؤهم، بينما إذا أظهر الأبناء إخلاصهم وأمانتهم، سيحصلون على رحمة الله. هذا يعزز فكرة أن الله لا يسعى للعقاب التعسفي، بل يتعامل مع الأجيال بناءً على أفعالهم الفردية.
بذلك، يمكننا القول إن العقاب الإلهي ليس فعلًا غير عادل، بل هو استجابة لسلوك مستمر يتكرر عبر الأجيال. بالمقابل، الرحمة الإلهية تمتد بشكل واسع، مظهرًا رحمة الله العميقة والغير محدودة لأولئك الذين يلتزمون بمبادئ الإخلاص والولاء له.
٢. “يراقب الله” بعانية ليتجنب العقاب العشوائي
ما هو مهم في هذه النقطة من نقاشنا هو التركيز على أهمية فهم الفعل العبري “פקד” (بَقَد) في نصوص الكتاب المقدس بشكل صحيح. هذا الفعل يجب أن يُفهم بمعنى “مراقبة بعناية” بدلاً من “افتقد”، حيث إن ترجمته إلى “افتقد” قد توحي بأن الله يعاقب الأبناء بشكل غير عادل بسبب خطايا آبائهم، مما قد يؤدي إلى تصور الله كإله منتقم يعاقب الأبناء بدون سبب عادل.
الفرق بين “مراقبة بعناية” و”افتقد”
ترجمة “פקד” (بَقَد) كـ “افتقد”:
إذا تُرجم الفعل إلى “افتقد”، فقد يُفهم أن الله يتدخل بشكل انتقامي، يعاقب الأبناء بسبب خطايا آبائهم، مما يخلق صورة عن الله كإله قاسي وعادل.
هذا الفهم يمكن أن يؤدي إلى تصور الله كإله يفرض عقوبات غير عادلة دون مراعاة للسلوك الفردي للأبناء.
ترجمة “פקד” (بَقَد) كـ “مراقبة بعناية”:
من ناحية أخرى، إذا فُهم الفعل على أنه “مراقبة بعناية”، فإن الصورة التي تتكون هي عن الله كمن يراقب سلوك الأجيال بدقة. في هذه الحالة، يتم النظر في استمرارية سلوك الخطيئة عبر الأجيال، ويُفحص سلوك الأجيال القادمة.
هذا الفهم يعكس عدالة الله ورحمته، حيث يُظهر أن العقاب ليس تعسفيًا، بل مرتبطًا بسلوك الأفراد. الله يراقب بتمعن ويعاقب إذا استمر الأبناء في ارتكاب نفس الأخطاء التي ارتكبها الآباء، بينما يمنح الرحمة لمن يلتزم بوصاياه.
العدالة والرحمة في إطار العقاب
العدالة: الله هنا لا يعاقب الأبناء بسبب خطايا الآباء بشكل عشوائي. بل، يتابع سلوك الأبناء والأحفاد، ويعاقب إذا استمروا في ارتكاب نفس الأخطاء. العدالة الإلهية تظهر في كون العقاب مرتبطًا بالسلوك الفردي وليس عقابًا تلقائيًا لجميع الأجيال.
الرحمة: بالمقابل، الله يقدم وعودًا بالرحمة لألف جيل من الذين يحبونه ويحفظون وصاياه. هذا يُظهر أن رحمة الله تفوق العقاب بكثير، وأنه يفضل دائمًا المكافأة على العقاب. الرحمة الإلهية تعكس اهتمام الله بإخلاص وولاء الأفراد.
العهد أو الميثاق بين الله وإسرائيل
المعاهدات القديمة: في سياق معاهدات التبعية في الشرق الأدنى القديم، الأفعال “يحب” و”يكره” تعني “إظهار الولاء” و”إظهار الخيانة”. بناءً على هذه التفسيرات، يظهر أن هناك عهدًا بين الله وإسرائيل، حيث يراقب الله سلوك الأجيال القادمة.
الحب: من يلتزم بالعهد ويظهر ولاءه لله “يحبني” ويُكافأ برحمة.
الكراهية: من يرفض العهد ويستمر في ارتكاب نفس الأخطاء “يكرهني” ويُعاقب بناءً على سلوك أجداده.
لذلك، عقوبة الآباء قد تنطبق على الأبناء والأحفاد إذا استمروا في ارتكاب نفس الأخطاء. الله يراقب بعناية، ويعاقب أو يكافئ بناءً على سلوك الأجيال، مما يعكس عدم التعسف في العقاب ويظهر التزام الله بالعدالة والرحمة بشكل متوازن.