صاحب الجلالة،
السّيّد رئيس الوزراء،
الإخوة الأساقفة،
السُّلُطات المحترمين،
سيداتي وسادتي،
أشكر صاحب الجلالة على استقباله الحار وكلماته الودّيّة. أنا سعيد جدًّا لزيارتي لبلجيكا. عندما نفكِّر في هذا البلد، يتبادر إلى الذّهن الحجم الصّغير والكبير، فهو بلد غربيّ وفي الوقت نفسه مركزيّ، كما لو كان القلب النّابض في كيان عملاق.
في الواقع، النِّسَبُ وترتيب الأمور الكبيرة قد يكون خادعًا. ليست مساحة بلجيكا كبيرة، ولكن تاريخها الفريد جعلها، بعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانية مباشرة، محطَّ اختيار الشّعوب الأوروبيّة، المتعبة والمنهكة، لمــَّا بدأت مسيرتها جادّة نحو السّلام والتّعاون والاندماج. نظر إليها الجميع لتكون المقر الطّبيعي لأهمّ المؤسّسات الأوروبيّة. ولأنّها تقع على الخط الفاصل بين العالم الألمانيّ والعالم اللاتينيّ، وتجاور فرنسا وألمانيا، اللتين كانتا تجسِّدان التناقضات القوميّة التي كانت أساس النّزاع، بدت المكان المثاليّ، كأنّها ملخَّص أوروبا، للانطلاق منها لإعادة بنائها، ماديًّا وأخلاقيًّا وروحيًّا.
يمكن القول إنّ بلجيكا هي جسر: بين القارّة والجزر البريطانيّة، وبين المنطقة الألمانيّة والمنطقة الفرنسيّة، وبين جنوب وشمال أوروبا. جسر يتيح للانسجام بالتوسّع، ويجعل النّزاعات تتراجع. جسر حيث يلتقي كلّ واحد بالآخر بلغته وعقليته ومعتقداته، ويختار الكلام والحوار والمشاركة كوسائل للتواصل. وهو مكان نتعلَّم فيه أن نجعل من هويتنا الخاصّة ليس صنمًا أو حاجزًا، بل مكانًا مضيافًا للانطلاق منه والعودة إليه، حيث تبدأ تبادلات سليمة، ويُبحَثُ معًا عن توازنات جديدة، وتُبنَى تآلفاتٌ جديدة. جسر يعزّز التّجارة، ويجعل الحضارات تتواصل وتتحاور. جسر إذن لا غنى عنه لبناء السّلام وإبعاد الحرب.
من هنا نفهم كم هي كبيرة بلجيكا الصّغيرة! ونفهم كيف تحتاج أوروبا إليها لتذكِّر نفسها بتاريخها المليء بالشّعوب والثّقافات، والكاتدرائيّات والجامعات، وانتصارات عبقريّة الإنسان، وأيضًا بالحروب العديدة وإرادة السّيطرة التي صارت أحيانًا استعمارًا واستغلالًا.
أوروبا تحتاج إلى بلجيكا لتستمرّ في مسيرة السّلام والأخوّة بين الشّعوب التي تكوِّنها. هذا البلد يذكِّر الجميع عندما يبدأون، استنادًا إلى دوافع متنوعة غير مبرّرة، بعدم احترام الحدود والمعاهدات، ويتركون للأسلحة حقّ إنشاء القانون، وتغيير القانون السّائد، إذّاك يُفتَح ”صندوق باندورا“ (وهو في الميثولوجيا الإغريقيّة، صندوق حمَلته الآلهة لباندورا وفيه كلّ شرور البشريّة)، وتبدأ الرّياح العاتية تهب، فتُزَعزِع البيت وتُهَدِّد بتدميره. في هذه اللحظة التّاريخية، أعتقد أنّ بلجيكا تلعب دورًا مهمًّا جدًّا. نحن قريبون من حرب عالميّة تقريبًا.
في الواقع، الانسجام والسّلام، ليسا انتصارًا يتمّ تحقيقه مرّة واحدة وإلى الأبد، بل هما مهمّة ورسالة مستمرّة يجب أن ننمّيهما ونعتني بهما بعزم وصبر. فالإنسان، عندما يتوقّف عن ذكر الماضي ويكفّ عن التعلّم منه، فإنّ له القدرة الغريبة على الوقوع مرّة أخرى حتّى بعد أن يكون قد وقف على قدميه، فينسى الآلام والثّمن المخيف الذي دفعته الأجيال السّابقة.
من هذا المنطلق، بلجيكا ثمينة جدًّا لذاكرة القارة الأوروبيّة. فهي توفِّر حججًا أكيدة لتطوير عمل ثقافيّ واجتماعيّ وسياسيّ مستمرّ وفي الوقت المناسب، وهو عمل جريء وفَطِن أيضًا، يستبعد مستقبلًا تصير فيه فكرة وممارسة الحرب خيارًا ممكنًا، مع عواقبها الكارثيّة.
التّاريخ، معلِّم الحياة الذي نتجاهله مرارًا، من بلجيكا يدعو التّاريخ أوروبا إلى استئناف مسيرتها، واستعادة وجهها الحقيقيّ، واستثمار جديد في المستقبل وانفتاح على الحياة والأمل، من أجل التّغلّب على الشّتاء الدّيموغرافيّ وجحيم الحرب! هناك مصيبتان الآن. نحن نرى جحيم الحرب، التي يمكن أن تتحوّل إلى حرب عالميّة. والشّتاء الدّيموغرافي. لهذا السّبب يجب أن نكون عمليّين: أنجبوا أطفالًا، أنجبوا أطفالًا!
تريد الكنيسة الكاثوليكيّة أن تكون حاضرة وشاهدة بإيمانها بالمسيح القائم من بين الأموات، وتقدِّم للناس والعائلات والمجتمعات والأمم أملًا قديمًا وجديدًا دائمًا. كنيسة حاضرة تساعد الجميع على مواجهة التّحديات والمِحَن، دون حماس سهل أو تشاؤم مظلم، بل مع اليقين بأنّ الإنسان، الذي أحبّه الله، له دعوة أبديّة للسّلام والخير وليس مصيره الزوال واللاشيء.
الكنيسة تُثَبِّت نظرها في يسوع المسيح، وتعترف بأنّها دائمًا تلميذة له، وهي تتبع معلِّمها بخوف وارتعاد، وتعلَم أنّها مقدّسة لأنّها هو الذي أسّسها، وفي الوقت نفسه ضعيفة ومحدودة في أعضائها، غير قادرة تمامًا على أداء المهمّة الموكولة إليها التي تتجاوزها دائمًا.
الكنيسة تُعلِن البُشرَى التي يمكن أن تملأ القلوب بالفرح، وبأعمال المحبّة والشّهادات العديدة لمحبّة القريب، تسعى لتقديم علامات عمليّة وأدلّة على الحبّ الذي يحرّكها. ومع ذلك، هي تعيش في ظلّ ثقافات وعقليّات زمن معين، التي تساهم في تكوينها أو تجعلها تعاني أحيانًا، فلا تَفهم ولا تعيش دائمًا الرّسالة الإنجيليّة بنقائها وكمالها.
في هذا العيش الدّائم في النّور والظّلام، تعيش الكنيسة، مع نتائج تكون غالبًا مليئة بالسّخاء والتفاني العجيب، وأحيانًا للأسف تظهر فيها شهادات مؤلمة مناقضة. أفكّر في الأحداث المأساويّة المتعلّقة بالإساءات ضدّ القاصرين، وهي آفة تواجهها الكنيسة بحزم وثبات، باستماعها إلى الأشخاص المجروحين ومرافقتهم، وتنفّذ برنامج وقاية شاملًا في العالم كلّه.
أيّها الإخوة والأخوات، هذا هو الخزْي! الخزْي الذي يجب علينا جميعًا اليوم أن نحمله ونسأل الله المغفرة ونحلّ هذه المشكلة: خزْي الإساءات ضدّ القاصرين. نحن نفكّر في زمن القدّيسين الأبرياء ونقول: ”يا لها من مأساة، ماذا فعل الملك هيرودس!“، لكن اليوم في الكنيسة هناك هذه الجريمة. يجب على الكنيسة أن تشعر بالخزْي وأن تطلب المغفرة وتسعى لحلّ هذا الوضع بتواضع مسيحي. ويجب وضع كلّ الشّروط حتّى لا يحدث هذا مرّة أخرى. قد يقول لي أحد: ”قداستك، بحسب الإحصائيات فإنّ الغالبيّة الكبرى من الإساءات ضدّ القاصرين تحدث داخل العائلة أو في الحيّ أو في عالم الرّياضة أو في المدرسة“. يكفي أن يكون هناك حالة واحدة لنشعر بالخزْي! في الكنيسة يجب أن نطلب المغفرة على هذا. وليطلب الآخرون المغفرة على ما فعلوا هم أيضًا.
لقد حَزِنتُ – في هذا الصّدد – من ظاهرة ”التّبنّي القسري“ التي حدثت هنا أيضًا في بلجيكا بين الخمسينيات والسّبعينيات من القرن الماضي. اختلطت في تلك القصّص الشّائكة ثمرة مريرة للإثم والجريمة، مع ما كان للأسف نتيجة لعقليّة منتشرة في جميع طبقات المجتمع، حتّى أنّ الذين تصرفوا بناءً عليها كانوا يعتقدون ضمنًا أنّهم يعملون الخير لكلّ من الطّفل والأمّ.
اعتقدت العائلة والجهات الاجتماعيّة الأخرى غالبًا، بما في ذلك الكنيسة، أنّه لإزالة وصمة عار سلبيّة، التي كانت للأسف في ذلك الوقت تُصيب الأمّ غير المتزوجة، كان من الأفضل لصالح كليهما، الأمّ والطّفل، بأن يتمّ تبني الأخير. وكانت هناك حالات حتّى لم تُمنح فيها بعض النّساء الفرصة للاختيار، فيخترن بحرّيتهن بالاحتفاظ بالطّفل أو بإعطائه للتّبني.
بصفتي خليفة الرّسول بطرس، أصلّي إلى الله حتّى تجد الكنيسة دائمًا في نفسها القوّة لتوضيح الأمور وعدم التماشي مع الثّقافة السّائدة، حتّى لو استخدمت تلك الثّقافة القِيَم الإنجيليّة فتلاعبت بها، ووصلت إلى نتائج غير مبرّرة، بالآلام الشّديدة التي تسبّبها نتيجة لإقصاء الأمّ.
أصلّي حتّى يكون المسؤولون عن الأمم، إذا نظروا إلى بلجيكا وتاريخها، قادرين على استخلاص تعليمٍ منها وبذلك يجنِّبون شعوبهم الكوارث المستمرّة والمآسي غير المحدودة. أصلّي حتّى يتحمّل الحكام مسؤوليّاتهم ويواجهوا مغامرة وشرف السّلام، ويعرفوا أن يبتعدوا عن المخاطر والعار واللا معنى الذي في الحرب. أصلّي حتّى يخافوا من حُكم الضّمير والتّاريخ والله، ويبدّلوا نظرهم وقلوبهم، فيضعوا الخير العام في المكان الأوّل دائمًا.
صاحب الجلالة، سيداتي وسادتي، شعار زيارتي إلى بلدكم هو ”على الطّريق، مع الرّجاء“ (En route, avec Espérance). وأرى أنّ الحرف الأوّل من كلمة رجاء (Espérance) مكتوب بحرف كبير، هذا يعني أنّ الرّجاء ليس شيئًا يُحمَل في كيس على الظّهر خلال المسيرة. كلا، الرّجاء هو عطيّة من الله، ويُحمَلُ في القلب! ولذلك، أودّ أن أترك هذه الأمنيّة لكم ولجميع الرّجال والنّساء الذين يعيشون في بلجيكا: يمكنكم أن تطلبوا وتقبلوا دائمًا هذه العطيّة من الرّوح القدس، لتسيروا معًا برجاء على طريق الحياة والتّاريخ. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana