“بارِكوا ولا تَلعَنوا”
أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء!
أشكر من كلّ قلبي الكاردينال ري (Re) على كلامه وأمنياته. شكرًا، يا صاحب النّيافة، على مثالك في الاستعداد للخدمة ومحبّة الكنيسة.
تكلّم الكاردينال ري (Re) على الحرب. بالأمس، لم يسمحوا للبطريرك [بطريرك القدس للاتين] أن يدخل إلى غزّة كما وعدوه، وبالأمس تمّ قصف الأطفال. هذه قسوة. وهذه ليست حربًا. أردت أن أقول ذلك لأنّه يمسّ قلبي. شكرًا لك على هذه الإشارة، نيافة الكاردينال، شكرًا!
عنوان هذه الكلمة هو بارِكوا ولا تَلعَنوا”.
فكّرت هذه السّنة في موضوع لتأمّلنا يمكن أن يُفيد الحياة الجماعيّة في الكوريا وفي أقسامها المختلفة، فاخترتُ موضوعًا ينسجم جيِّدًا مع سرّ التّجسّد، وسيتّضح ذلك فورًا.
فكّرتُ في التّكلّم جيِّدًا على الآخرين وعدم التّكلّم بالسّوء عليهم. وهذا يهُمُّنا جميعًا، والبابا أيضًا – أساقفة وكهنة ومكرّسين وعلمانيين – ونحن كلّنا متساوون في هذا الأمر. لماذا؟ لأنّه يَمَسُّ إنسانيتنا.
هذا الموقف، أي التّكلّم بالخير وعدم التّكلّم بالسّوء، هو تعبير عن التّواضع. والتّواضع هو السّمة الأساسيّة للتّجسّد، ولا سيِّما في سرّ ميلاد ربّنا يسوع المسيح، الذي نستعدّ للاحتفال به. الجماعة الكنسيّة تعيش في فرح وانسجام أخويّ بقدر ما يسير أعضاؤها في طريق التّواضع، ويتخلّون عن التّفكير بالسّوء أو التّكلّم بالسّوء على الآخرين.
يقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل روما: “بارِكوا ولا تَلعَنوا” (رومة 12، 14). يمكننا أن نفهم هذه الدّعوة أيضًا بهذه الصّورة: “تكلّموا بالخير ولا تتكلّموا بالسّوء على الآخرين، وفي حالتنا، على الأشخاص الذين يعملون معنا في المكتب، وعلى الرّؤساء والزّملاء والجميع.
طريق التّواضع: شكوى الذّات
كما فعلتُ قبل نحو عشرين سنة، في مناسبة انعقاد الجمعيّة العامّة للأبرشيّة في بوينس آيرس، أقترح اليوم علينا جميعًا من أجل ممارسة طريق التّواضع هذه، أن نتدرّب على أن نشكو ذاتنا، وفقًا لتعاليم المعلِّمين الرّوحيّين القدّماء، وبشكل خاصّ دوروثيُوس (Doroteo) من غزّة. نَعم، من غزّة تحديدًا، ذلك المكان الذي صار الآن مرادفًا للموت والدّمار، ولكنّه كان مدينة قديمة جدًّا حيث ازدهرت ونمت فيه في القرون الأولى للمسيحيّة أديرة وشخصيّات لامعة من القدّيسين والمعلِّمين. كان دوروثيُوس واحدًا من هؤلاء. وعلى خطى الآباء الكبار مثل باسيليوس وإفاغريوس، شَيَّدَ دوروثيُوس الكنيسة بتعاليم ورسائل مليئة بروح الإنجيل. واليوم أيضًا، إن وضعنا أنفسنا في مدرسته، يمكننا أن نتعلّم التّواضع فنشكو أنفسنا ولا نتكلّم بالسّوء على القريب.
يقول دوروثيُوس في إحدى تعاليمه: “إن أصاب المتواضع سوء ما، رجع فورًا إلى ذاته، وحكم أنّه مستحقّ لذلك السّوء. ولا يسمح لنفسه بأن يلوم الآخرين ولا أن يلقي اللّوم على أحد مهما حصل. ببساطة يتحمّل، بدون اضطراب أو قلق، وفي هدوء تام. فالتّواضع لا يَغضَب ولا يُغضِب أحدًا” (دوروثيُوس من غزّة، أعمال روحيّة، باريس 1963، رقم 30).
ويُضيف أيضًا: “لا تسعَ لمعرفة شرّ قريبك، ولا تُغذِّ الشّكوك تجاهه. وإن أثارت شرورنا هذه الشّكوك، فحاول أن تحوِّلها إلى أفكار صالحة” (المرجع نفسه، رقم 187).
شكوى الذّات وسيلة، لكنّها ضروريّة: فهي موقف أساسيّ يمكن أن يتجذّر فيه الخيار في قول ”لا“ للفرديّة و”نعم“ للرّوح الجماعيّة، الكنسيّة. في الواقع، من يُمارس فضيلة شكوى الذّات بانتظام يصير حرًّا من الشّكوك والرّيبة، ويفسح المجال لعمل الله، الوحيد القادر على توحيد القلوب. وهكذا، إن تقدّم كلّ واحد في هذا الطّريق، يمكن أن تنشأ وتنمو جماعة فيها الجميع حُرّاس بعضهم لبعض ويسيرون معًا في التّواضع والمحبّة. عندما يرى أحدٌ عيبًا في شخص، فهو يمكنه أن يتكلّم عليه مع ثلاثة أشخاص فقط: مع الله، ومع الشّخص نفسه، وإن لم يستطع مع الشّخص نفسه، فمع مَن يمكن أن يهتمّ به في جماعة المؤمنين. وليس أكثر من ذلك.
إذًا لنتساءل: ما هو أساس هذا الأسلوب الرّوحيّ في شكوى الذّات؟ في الأساس يوجد التّنازل الدّاخلي، المتأصّل في حركة كلمة الله، (synkatabasis)، أي التّنازل. القلب المتواضع يتنازل مثل قلب يسوع، الذي نتأمّل فيه في هذه الأيام في المغارة.
أمام مأساة البشريّة التي يُثقِلُها الشّرّ كثيرًا، ماذا يفعل الله؟ هل يقف شامخًا في عدله وينزل الإدانة من فوق؟ هكذا، نوعًا ما، كان ينتظره الأنبياء حتّى يوحنّا المعمدان. لكنّ الله هو الله، وأفكاره ليست أفكارنا، وطرقه ليست طرقنا (راجع أشعيا 55، 8). قداسته إلهيّة، ولذلك يبدو لنا أنَّ فيها تناقضًا. فحركة الله العليّ هي أن يتنازل، أن يصير صغيرًا، مثل حبّة الخردل، ومثل بذرة إنسان في أحشاء امرأة. أن يصير غير مرئي. هكذا يبدأ في أن يأخذ على عاتقه الكتلة الكبيرة وغير المحتملة من خطيئة العالم.
ويقابل حركة الله هذه، في الإنسان، شكوى الذّات. وهذا ليس أوّلًا حقيقة أخلاقيّة، بل هو حدث إلهيّ، كما هو الحال دائمًا، وكما هو في الحياة المسيحيّة. إنّه عطيّة من الله، وعمل الرّوح القدس، ومن جهتنا، هو فعل تنازل مع الله، أن نجعل موقف الله موقفنا، فنجعله جزءًا منّا، ونقبله. هذا ما صنعته مريم العذراء، التي لم يكن فيها أيّ شيء تشكو به نفسها، فتركت نفسها كاملة في تنازل الله، وتجرّد الابن، ونزول الرّوح القدس. بهذا المعنى، يمكننا أن نسمّي التّواضع فضيلة إلهيّة.
شكوى الذّات يساعدنا، لكي نتنازل ونَتَّضِع، ونذهب إلى سِرِّ المصالحة. يمكن لكّل واحد أن يفكّر: متى كانت آخر مرّة اعترفت فيها عن خطاياي؟
نحن مبارَكون فنُبارِك
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، إنّ تجسّد الكلمة يُثبت لنا أنّ الله لم يلعنّا بل باركنا. وأكثر من ذلك، يُبيّن لنا أنّ في الله لا توجد لعنة، بل بركة فقط ودائمًا.
نتذكّر بعض التّعابير من رسائل القدّيسة كاترينا من سيينا، مثل هذا التّعبير: “يبدو أنّه لا يريد أن يتذكّر الإساءات التي نوجّهها إليه، ولا يريد أن يُديننا إلى الأبد، بل يصنع رحمة دائمًا” (الرّسالة 15).
لكنّا نشير قبل كلّ شيء إلى القدّيس بولس، في الافتتاح المدهش لنشيد رسالته إلى أهل أفسس:
“تَبارَكَ اللهُ أَبو رَبِّنا يسوعَ المسيح. فقَد بارَكَنا كُلَّ بَرَكَةٍ روحِيَّةٍ في السَّمَواتِ في المَسيح” (أفسس 1، 3).
هذا هو الأساس في قولنا للخير، في مباركتنا للغير: نحن مبارَكون، ولأنّنا مبارَكون يمكننا أن نُبارِك.
كلّنا بحاجة لأن نغمر أنفسنا في هذا السِّرّ، وإلّا فنحن نوشك أن نجفَّ، فنصير مثل القنوات الجافّة واليابسة التي لا يبقى فيها حتّى قطرة ماء. والعمل في المكاتب هنا في الكوريا يكون مرارًا جافًّا، ومع مرور الوقت يجعلنا جافّين، إن لم نُنشِّط أنفسنا بخبرات رعويّة، أو بلحظات لقاء، أو بعلاقات ودّيَّة، وبمجّانيّة. وفي ما يخصّ الخبرات الرّعويّة، أسأل خصوصًا الشّباب إن كان لهم خبرات رعويّة: إنّه أمرُ مهمّ جدًّا. ولهذا السّبب، خصوصًا، نحن بحاجة لأن نقوم بالرّياضة الرّوحيّة كلّ سنة: لكي نغمر أنفسنا في نعمة الله، بصورة كاملة. ونتشبّع من الرّوح القدس، ومن الماء الحيّ الذي فيه كلّ واحدٍ منّا، يجد الله يحبه ويريده ”منذ البداية“. عندها نعم، إن كان قلبنا مغمورًا في هذه البركة الأصليّة، إذّاك نصير قادرين أن نُبارك الجميع، حتّى الذين لا نطمئنَّ إليهم، وحتّى الذين أساءوا إلينا.
النّموذج الذي علينا أن ننظر إليه، كالعادة، هي أمّنا، سيِّدتنا مريم العذراء. إنّها المُباركَة بامتياز. هكذا حَيَّتها أليصابات عندما استقبلتها في بيتها: “مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ!” (لوقا 1، 42). وهكذا نتوجّه نحن إليها في صلاة ”السّلام عليكِ يا مريم“. فيها تحقّقت ”البركة الرّوحيّة في المسيح“، قبل الزّمن بالتّأكيد ”في السّماوات“، وعلى الأرض أيضًا، في التّاريخ، عندما ”امتلأ“ الزّمن بحضور الكلمة المتجسِّد (راجع غلاطية 4، 4). هو البركة. وهو الثّمرة التي تُبارِك الأحشاء، الابن الذي يُبارِك الأمّ: “ابنَةُ ابنِكِ”، كما كتب دانتي. وهكذا، حملت مريم، المباركة، إلى العالم البركة التي هي يسوع.
يوجد لوحة، في مكتبي، وهي التّنازل (synkatabasis). في اللوحة، يَدَي سيّدتنا مريم العذراء تبدو كأنّها سلّمٌ صغيرٌ، والطّفل يسوع ينزل من على السّلم. الطّفل يحمل بيده الشّريعة، وباليدِ الأخرى يُمسك بأمّه حتّى لا يسقط. هذه هي مهمّة سيّدتنا مريم العذراء: أن تحمل الابن. وهذا ما تصنعه في قلوبنا.
صُنَّاع البركة
أيّها الإخوة والأخوات، ونحن ننظر إلى مريم، صورة الكنيسة ومثالها، نُدرِك البُعد الكنسي للبَرَكَة. وفي سياقنا هذا، أودّ أن ألخّصها بهذه الطّريقة: في الكنيسة، التي هي علامة وأداة بركة الله للبشريّة، نحن كلّنا مدعوّون إلى أن نصير صُنَّاع بركة. ليس فقط مُباركين، بل صُنَّاع بركة: نُعلّم، ونعيش كصُنَّاع لكي نُبارك.
يمكننا أن نتخيّل الكنيسة كأنّها نهر كبير يتفرّع إلى آلاف وآلاف الجداول والسّيول والرّوافد – على غرار حوض الأمازون – لتروي العالم كلّه ببركة الله، التي تنبع من سِرِّ المسيح الفصحيّ.
الكنيسة تبدو لنا وكأنّها تتميمٌ لمشيئة الله التي أعلنها لإبراهيم منذ اللحظة الأولى التي فيها دعاه إلى أن يغادر أرض آبائه. قال له: “وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ […] ويَتَبارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض” (تكوين 12، 2-3). هذه المشيئة تقوم على تدبير الخلاص كلّه في العهد بين الله وشعبه، الذي هو ”مُختَار“ ليس بمعنى الاستبعاد، بل العكس، بالمعنى الذي نسمّيه كاثوليكيًّا وقد نقول مثل عمل ”الأسرار“ المحيي: أي أن نجعل العطيّة لنا تصل إلى الجميع بعطاء مثالي، بل عن طريق الشّهادة، أو الاستشهاد.
وهكذا، في سِرِّ التّجسّد، بارك الله كلّ رجل وامرأة يأتون إلى هذا العالم، ليس بمرسوم نازل من أعالي السّموات، بل بواسطة جسد يسوع، الحمل المبارك والمولود من مريم المباركة (راجع القدّيس أنسيلمس، خطاب 52).
أُحبّ أن أفكّر في الكوريا الرّومانيّة كأنّها ورشة عمل كبيرة فيها مهام كثيرة مختلفة، والكلّ يعملون لهدف واحد، وهو البركة، ونشر بركة الله وبركة الكنيسة الأمّ في العالم.
أفكّر خصوصًا في عمل ”الكاتب“ المخفيّ، المسمّى “minutante” – أرى البعض منهم هُنا وهم جيّدون، شكرًا! – الذي يُعِدّ في غرفته رسالةً، حتّى تصل صلاة وبركة البابا إلى شخص مريض، أو إلى أمّ، أو إلى أب، أو إلى سجين، أو إلى مُسنّ، أو إلى طفل. وما هو هذا العمل؟ أليس هو أن نكون صنَّاعًا للبركة؟ ”الكاتب“ “minutante” هو صانع البركة. قالوا لِي إن كاهنًا قدّيسًا كان يعمل منذ سنوات في أمانة سرّ الدّولة، قد علَّق على باب غرفته من الدّاخل ورقة كتب عليها: ”عملي مُتواضع، ومُهان، ومُذلّ“. إنّها رؤية سلبيّة بعض الشّيء، لكن فيها شيئًا من الحقيقة والصّلاح. أقول إنّها تُعبّر عن أسلوب العمل الأصيل في الكوريا، الذي يجب أن نفهمه بشكل إيجابيّ: التّواضع كطريق للبركة. طريق الله الذي تنازل في يسوع وجاء ليسكن حالتنا البشريّة، وهكذا باركنا.
أيّها الأعزّاء، جميلٌ أن نفكّر في أنّه من خلال العمل اليوميّ، وخاصةً المخفيّ، يمكن لكلّ واحدٍ منّا أن يُساهم في حمل بركة الله إلى العالم. لكن علينا أن نكون منطقيّين: إذ لا يمكننا أن نكتب بركات ثمّ نتكلّم بالسّوء على أخينا أو أختنا، فهذا يُفسِد البركة. وهذه هي أمنيتي لكم: ليساعدنا الرّبّ يسوع، الذي وُلِدَ من أجلنا في التّواضع، لنكون دائمًا رجالًا ونساءً يُبارِكون.
عيد ميلاد مجيد للجميع!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana