“لقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه” (متّى 2، 2): هذه هي الشّهادة التي قدّمها المجوس لسكّان أورشليم: بشَّروهم بولادة ملك اليهود.
شهد المجوس أنّهم بدأوا مسيرتهم، وغيّروا مجرى حياتهم، لأنّهم رأوا في السّماء نورًا جديدًا. يمكننا إذن أن نتوقّف ونتأمّل في هذه الصّورة، ونحن نحتفل بعيد ظهور الرّبّ يسوع في يوبيل الرّجاء، وأودّ أن أؤكّد على ثلاث ميزات للنّجم الذي يكلّمنا عليه متّى الإنجيليّ: إنّه نجم مُنير، ويراه الجميع، ويدلّ على الطّريق.
أوّلًا، النّجم مُنير. في زمن يسوع، أطلق أسياد كثيرون على أنفسهم لقب ”النّجوم“، لأنّهم كانوا يظنّون بأنّهم مهمّون وذَوُو سُلطان وشهرة. لكن لم يكن نورهم – نور أيٍّ واحد منهم – هو الذي كشف للمجوس عن معجزة عيد الميلاد. تألّقهم المُصطنع والبارد، وثمرة حسابات وألاعيب السّلطة، لم يقدر أن يلبِّيَ حاجة هؤلاء الباحثين عن شيء جديد وعن الرّجاء. نوعٌ آخر من النّور استجاب لهم، كان يرمز إليه النّجم، وكان يُنير ويبعث الدّفء، إذ يحترق ويذوب. النّجم يكلّمنا فقط على النّور الذي يمكنه أن يدلّ الجميع على طريق الخلاص والسّعادة: وهو نور المحبّة.
أوّلًا، محبّة الله، الذي صار بشرًا وأعطانا نفسه وبذل حياته من أجلنا. ثمّ، مِثلَه، المحبّة التي نحن أيضًا مدعوّون إلى أن نبذلها بعضنا لبعض، فنصير، بمعونته، علامة رجاء متبادلة، حتّى في ليالي الحياة المظلمة.
كما قاد النّجم المجوس، لمّا ظهر لهم، إلى بيت لحم، هكذا نحن أيضًا، بمحبّتنا، يمكننا أن نحمل الأشخاص الذين نلتقي بهم إلى يسوع، فنجعلهم يتعرّفون على جمال وجه الآب، في ابن الله الذي صار بشرًا (راجع أشعيا 60، 2) وكيف هو حبُّهُ، قُربٌ وشفقة وحنان. ويمكننا أن نقوم بذلك من دون الحاجة إلى أدوات استثنائيّة أو وسائل متطوّرة، يكفي أن نجعل قلوبنا مُضيئة بالإيمان، وأنظارنا سخيّة مرحِّبَة، وأعمالنا وكلماتنا مليئة باللّطف والإنسانيّة.
لذلك، وبينما ننظر إلى المجوس، الذين رفعوا أعينهم إلى السّماء بحثًا عن النّجم، لنطلب إلى الله أن يجعلنا أنوارًا بعضنا لبعض، تقود إلى اللّقاء معه (راجع متّى 5، 14-16).
وهكذا نأتي إلى الميزة الثّانية للنّجم: يراه الجميع. لم يتبع المجوس تعليمات رموز سرّيّة، بل تبعوا نجمًا رأوه يسطع في السّماء. لاحظه المجوس، أمّا آخرون، مثل هيرودس والكتبة، فلم يلاحظوا حتّى وجوده. ومع ذلك، فالنّجم كان هناك، قريبًا لكلّ من يرفع نظره إلى السّماء بحثًا عن علامة رجاء.
وهذه رسالة مهمّة: الله لا يُظهر نفسه لدائرة مغلقة أو لفئة قليلة من النّخبة، بل يقدّم مودته وهدايته لكلّ من يبحث عنه بقلب صادق (راجع المزامير 145، 18). بل إنّه يستبق مرارًا أسئلتنا، ويأتي ليبحث عنّا حتّى قبل أن نسأله (راجع رومة 10، 20؛ أشعيا 65، 1). لهذا في مغارة الميلاد، نُمثّل المجوس بصفات تشمل جميع الأعمار والأعراق – ففيهم شابّ، وبالغ، وكبير في السّنّ، ولهم ملامح مُختلف شعوبِ الأرض – لنتذكّر بأنّ الله يبحث عن الجميع دائمًا.
وكم هو مفيدٌ لنا أن نتأمّل اليوم في هذا. ففي زمن حيث النّاس والأمم، على الرّغم من امتلاكهم وسائل تواصل متطوّرة، يبدو أنّهم صاروا أقلّ استعدادًا لفهم وقبولِ ولقاءِ بعضهم بعضًا، في تنوّعهم.
النّجم الذي يقدّم نوره للجميع في السّماء، يذكّرنا بأنّ ابن الله جاء إلى العالم ليلتقي كلّ رجلٍ وامرأة على الأرض، مهما كان عِرقه أو لغته أو الشّعب الذي ينتمي إليه (راجع أعمال الرّسل 10، 34-35؛ سفر الرّؤيا 5، 9)، وأنّه أوكلَ إلينا الرّسالة العالميّة نفسها (راجع أشعيا 60، 3). أي إنّه دعانا إلى أن ننبذ كلّ شكلٍ من أشكال التّمييز والإقصاء ورفض الأشخاص، وأن نعزّز فينا وفي البيئات التي نعيش فيها ثقافة قبول راسخة، فنفضّل، على الانغلاق في الخوف والرّفض، أماكن اللقاء المفتوحة والاندماج والمشاركة، وهي أماكن آمنة يجد فيها الجميع الدّفء والمأوى.
لهذا يظهر النّجم في السّماء: لا ليبقى بعيدًا، لا يمكن الوصول إليه، بل العكس، لكي يكون نوره مرئيًّا للجميع، ويصل إلى كلّ بيت ويتجاوز كلّ الحواجز، ويحمل الرّجاء إلى أقصى زوايا الأرض المنسيّة. إنّه في السّماء ليقول للجميع، بنوره الجوَّاد، إنّ الله لا يرفض أحدًا ولا ينسى أحدًا (راجع أشعيا 49، 15). لماذا؟ لأنّه أبٌ وفرحه الأكبر هو أن يرى أبناءه يعودون إلى البيت ومتّحدين، من كلّ أنحاء العالم (راجع أشعيا 60، 4)، وأن يراهم يبنون الجسور، ويمهّدون الطّرق، ويبحثون عن الضّائعين، ويحملون على أكتافهم من تعبوا من السّير، وحتّى لا يبقى أحدٌ في الخارج، ويشارك الجميع في فرح بيته.
النّجم يكلّمنا على حلم الله: وهو أن تكون البشريّة كلّها، في غِنى تنوّعها، عائلة واحدة تعيش في انسجام، وفي ازدهارٍ وسلام (راجع أشعيا 2، 2-5).
وهذا يقودنا إلى ميزة النّجم الأخيرة: إنّه يدلّ على الطّريق. هذه أيضًا نقطة تأمّل، وخاصّة في سياق السّنة المقدّسة التي نحتفل بها، حيث يُعتبر الحجّ أحد رموزها المميّزة.
نور النّجم يدعونا إلى أن نقوم برحلة داخليّة، تحرّر قلبنا من كلّ ما ليس محبّة، وكما كتب البابا يوحنّا بولس الثّاني، لكي “نلتقي بالمسيح بصورة كاملة، ونعترف بإيماننا به ونتلقّى فيض رحمته” (رسالة إلى الذين يستعدون للاحتفال باليوبيل الكبير بالإيمان، 29 حزيران/يونيو 1999، 12).
السّير معًا “هو مِيزَةُ الذين يبحثون عن معنى الحياة” (راجع مرسوم الدّعوة إلى اليوبيل العادي، الرَّجاءُ لا يُخَيِّبُ، 5). ونحن، بينما ننظر إلى النّجم، يمكننا أن نجدّد أيضًا التزامنا بأن نكون رجالًا ونساءً ”على الطّريق“، كما كان يُطلَق على المسيحيّين في بدايات الكنيسة (راجع أعمال الرّسل 9، 2).
ليجعلنا الرّبّ يسوع أنوارًا تدلُّ عليه، مثل مريم، أسخياء في العطاء، منفتحين في استقبال بعضنا البعض، متواضعين في سيرنا معًا، حتّى نستطيع أن نلتقي به، ونعرفه، ونسجد له، وننطلق منه من جديد ونحن متجدّدون فنحمل إلى العالم نور محبّته.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana