Nativity scene - Gerard van Honthorst (1592 - 1656)

Nativity scene © Pixabay - geralt

المسيح هو اليوبيل الحقيقي

ميلاد الرجاء

Share this Entry
إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات ،
وإلى أبنائنا الأعزاء في أبرشية الإسكندرية مدينة الله العظمى وفي بلاد الإنتشار للأرمن الكاثوليك ،
وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية ،
هذه السنة ، سنة يوبيلية ، يعني : ذكرى مرور خمس وعشرون سنة على ميلاد السيد المسيح ” ملك السلام “.
” حجّاج الرجاء “، هذا هو عنوان هذه السنة اليوبيلية  ، سنة لحظة لقاء مع الربّ الذي هو رجاء كلّ مؤمن ، وفي رسالته  دعا  قداسة البابا فرنسيس المؤمنين إلى مسيرة حجّ ورجاء وصلاة ترافقها كلمة الله، وإلى عيش الأخوّة والرحمة والغفران في ظلّ التغيّرات التي يشهدها العالم مع الكنيسة المقدس.  وانطلاق الشعوب نحو أفق جديدة واختبارات جديدة.
“فانك أنتَ أيُّها السيّد رجائي، وانتَ أيُّها الرب منذ صباي مُعتمدي ” (مزمور ٧٠ : ٥).
” يوبيل حجّاج الرجاء “
كلمة يوبيل تعني الإحتفال بفرح المصالحة والمغفره التي ننالها من الله ومن الآخرين .
المسيح هو اليوبيل الحقيقي :

” وأشرق مجدُ الربّ حولهم ” (لوقا ٢ : ٩)

بهذا اليوم الأغر ، عيد الميلاد المجيد، عيد إشراقة المجد الإلهي في عالم البشر، عيد الفرح الروحي المميّز، عيد الرجاء بمستقبل ملؤه الحبّ والغفران والتسامح والمصالحة . في هذه الأيّام الميلادية الخلاصية المباركة، نعيش الرجاء “فوق كلّ رجاء” بالخلاص الذي تحقّق بولادة الطفل الإلهي يسوع ،  الذي أنار المسكونة الرازحة تحت وطأة ظلمة الليل. إننا نبتهل إلى مولود مغارة بيت لحم كي يفيض علينا خيراته وبركاته ونِعَمَه في زمن الميلاد وفي العام الجديد ٢٠٢٥ ، الذي سيحل علينا ، بعد أيام  قليلة ،  وطوال مسيرتنا الأرضية ، ناشراً أمنه وسلامه في العالم بأسره، وبخاصة في شرقنا المعذَّب.

  1. الميلاد بشرى الفرح والاخلاص :

“ قال الرعاة لبعضهم لنذهب إلى بيت لحم لنرى الكلمة التي كلّمنا عنها الربّ … وبعد أن رأوا ، أخبروا بما قيل لهم عن الطفل…

ثمّ رجعوا وهم يّمجدون الله ويُسبحونه على كل ما سمعوا وراوا كما قيل لهم ” (لوقا ٢ : ١٥ : ٢٠ ).

سمع الرعاة البشرى السارة والمفرحة بميلاد الرب يسوع ، فأسرعوا وسط صمت الليل ، بقلوب مفعمة بروح الوداعة والبساطة. فالرسالة هي من الله الذي يعلن الخلاص بوحيٍ منه، لا من عقل الإنسان أو فكره. وقد أعطاهم الملاك “علامة”. فرأوا وعاينوا، وآمنوا فأخبروا بكلّ ما سمعوا. الميلاد هو بشرى الخلاص، نحملها لجميع الناس: “ إذهبوا في الأرض كلّها وأعلنوا البشارة  لجميع الأمم، وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم ” (متى ٢٨ : ١٩ – ٢٠).

كم نحتاج إلى الصمت والهدوء ، وخاصة في هذه الأيام ،  كما إلى بساطة القلب والفكر ، كي نسمع صوت الله الذي يتكلّم. أصبح الرعاة ، وقد “ أشرق عليهم مجد الربّ” (لوقا ٢ : ٩)، أوّل من أُودِعوا بشرى الخلاص، وأوّل الشاهدين المتأمّلين لسرّ الكلمة المتجسد لأجل فداء بني البشر، وأوّل المبشّرين “بالفرح العظيم”، وأوّل المسبّحين لله في  العهد الجديد.

ونحن، في الميلاد، بالرغم من كلّ ما نعانيه في شرقنا، نسبّح ونهلّل كالرعاة، مواصلين السماع والرؤية ونقل الخبر ورفع آيات التسبيح، من أجل عالمٍ يتخبّط في الظلمات، وقد وافاه “ الشارق من العلى” (لوقا ١ : ٩).

  1. الميلاد نورٌ من السماء يبدّد الظلمات:

بولادة الطفل الإلهي في مذود بيت لحم، إنقشعت ظلمة الليل، إذ “أشرق مجد الرب” (لوقا ٢ : ٩)حول رعاةٍ كانوا يحرسون قطعانهم، فظهر لهم الملاك وقال: “لا تخافوا! فها أنا أبشّركم بفرحٍ عظيم يكون للشعب كلّه : وُلِدَ لكم اليوم  مخلّصٌ في مدينة داود ، وهو المسيحُ الرب” (لوقا ٢ : ). هو الشعاع الإلهي الذي جاء من العُلى إلى العالم الغــارق في الظلام، فأنــاره، ودعــاه ليعيش في نور الحقيقة والمحبّة والعدالة والحرّية، في نور السلام. أسرع الرعاة إلى بيت لحم، فشاهدوا النور المتجسّد، الطفلَ المُضجَع في المذود، محاطاً بيوسف ومريم. ثمّ رجعوا فرحين وممجّدين الله على كلّ ما سمعوا ورأَوا (لوقا ٢ : ١٦ – ٢٠).

يسوع المسيح هو النور الحقيقي الذي ينير العقول بالحقيقة، والقلوب بالحبّ، والضمائر بصوت الله في أعماق النفس، والإرادات بالحق، ويهدي كلَّ إنسان آتٍ إلى العالم بنور الكلمة والحياة (يوحنا ١ : ٤ – ٩). هذا النور المشعّ سيبقى ساطعاً مهما اشتدّت الظلمات في العالم، وما أكثرها: ظلمة الخطيئة والشرّ والكذب، ظلمة الحقد والبُغض والنزاع، ظلمة الحرب والعنف والإرهاب، ظلمة الإستبداد والإستكبار، ظلمة السرقة والرشوة والإحتيال، ظلمة الخطف والتعذيب، ظلمة الألم والمرض، ظلمة الفقر والتهجير. وقد جاء في إنجيل يوحنا، أنّ “النور يشرق في الظلمات، أمّا الظلمات فلم تدركه” (يوحنا ١ : ٥). مهما تعاظمت ظلمات هذا العالم، لا يمكن أن تطفئ نور المسيح في العقل والإرادة والقلب. ففي الميلاد، “الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، والمقيمون في بقعة الظلام أشرق عليهم الور” (أشعيا ٩ : ٢) على حدّ تعبير أشعيا النبي. نور ميلاد الرب يسوع إيمانٌ متّقدٌ ورجاءٌ وطيدٌ ومحبّةٌ عميقة، ولا تستطيع شرور العالم أن تخفي هذا النور أو تطفئه. وكم سمعنا من المسيحيين المضطهَدين أو المُعتدى عليهم، يقولون: “هدموا بيوتنا، وسلبوا أموالنا، لكنّهم لم يستطيعوا أن يسلبوا نور الإيمان من قلوبنا!”

بنورك نعاين النور يا يسوع المملوء نوراً، أنت هو النور الحقيقي الذي ينير كلّ البرايا. أنرنا بنورك البهيّ يا ضياء الآب السماوي».

  1. السلام عطية الميلاد :
    ” المجد لله في الاعلى وعلى الأرض السلام ” ( لوقا ٢ : ١٤ )

في الميلاد، تجلّى مجد الله بمحبّته العالم، إذ “ قد أحبّه إلى الغاية ” (يوحنا 13: 1)، فأرسل ابنه الوحيد ليخلّص الجنس البشري من خطاياه، ويحرّر العالم من سلطة الشرّ والقهر والظلم والإستبداد. وهكذا يضحي مجدُ الربّ، على ما يقول القديس إيريناوس، “الإنسان الحيّ المستعيد بهاء إنسانيته المتجلّية في إنسانية المسيح الذي فكّر بعقل إنسان، وصنع الخير بإرادة إنسان، وأحبّ بقلب إنسان”، الإنسان المتجدّد دوماً على يد مبدعه!

ومجد الربّ هو السلام الذي ترنّم به الملائكة في الميلاد: “المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر”. إنّها ثلاثية مترابطة ومتكاملة أنشدها الملائكة في ليلة ميلاد المسيح الربّ، وهي عطية عظيمة من السماء. ففي الميلاد، نرفع هذه الترنيمة نحو السماء: رجاءً نزرعه في القلوب، وسلاماً نبنيه في العائلة والمجتمع والوطن، وتمجيداً دائماً لله.

يُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام . إنه عطية سماوية ثمينة تُمنَح لنا جميعاً، أفراداً وجماعات، لنكون صانعي سلام. ولمّا صار ابن الله إنساناً لكي نصير أبناءً لله، جعل السلامَ طريقاً لهذه البنوّة، كما أكّد في موعظته على الجبل، دستور الحياة المسيحية: “طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعون” (متى ٥ : ٩).

  1. الميلاد مانح الرجاء للبشر:

الرجاء قديمٌ قِدَم البشرية العاقلة، بل أقدم منها، فأوّل رجاء عرفه البشر هو الرجاء في الخلاص، حينما وعد الربّ آدم وحواء قائلاً: “ إنّ نسل المرأة يسحق رأس الحية ” ( تكوين ٣ : ١٥). وظلّ هذا الرجاء في قلوب البشر آلاف السنين، وحتى الذين لم ينالوا هذا الرجاء، عاشوا فيه، “ لم ينالوا المواعيد ، ولكنّهم نظروها من بعيد وصدّقوها ” (عبرانيين ١٣ : ١١).

لقد كان هناك رجاء ليونان النبي وهو في بطن الحوت. هل يكون إنسان في جوف الحوت ويكون له رجاء؟ ولكنّ يونان ركع على ركبتيه وصلّى، وقال للربّ “أعود فأرى هيكل قدسك” (يونان٢ : ٤). كان له رجاء، وقد تحقّق. وكان هناك رجاء للفتية الثلاثة وهم في أتون النار (دانيال ٣)، ولدانيال وهو في جبّ الأسود (دانيال ٦). وهكذا رقد الجميع على الرجاء، إلى أن افتقدهم الرب وأعادهم إلى الفردوس من جديد.

تمّت ذروة الرجاء في تجسُّد ابن الله “عمانوئيل – الله معنا ” (متى ١ : ٢٣)، الذي وعد الكنيسة بأنّ “أبواب الجحيم أي قوى الشرّ لن تقوى عليها” ( متى ١٨ : ١٦ )، “ ذاك الذي ضاقت به السماء ولم تستطع أن تحدّه وهو الحالّ فيها ، ” والكلمة صار بشراً وسكن بيننا ” (يوحنا ١ : ١٤).

الرجاء إلتزام :

الإلتزام دليلٌ قاطعٌ على مصداقية الرجاء. وما ينقص الناس بالأكثر، هو الرجاء، والرجاء أن نؤمن أنّ للحياة معنى يتمثّل بغدٍ أفضل، مسلّمين أمرنا بين يدي الله إذ أنّ “نصيبي هو الربّ، قالت نفسي، من أجل ذلك أرجوه ” (مراثي ارميا) . ومار بولس رسول الأمم يؤكّد أهمّية “الرجاء الذي لا يخزي، لأنَّ محبَّة الله أفيضت  في قلوبنا بالروح القدس الذي وبها لنا” (رومة ٥ : ٥)، ويتابع: “ولكن إن كنَّا نرجو ما لا نشاهده فالبثبات ننتظره  ” (رومة ٨ : ٢٥). التزامنا، في الميلاد هو أن نحيا الرجاء دون حدود، متّكلين على قوّة الله الذي عنده كل شيء  “ فإن الله على كل شيء قدير ” (مرقس ١٠ : ٢٧).

فالرجاء هو التزامنا جميعاً ككنيسة، رغم كلّ ما يعانيه أبناؤنا وبناتنا من مِحنٍ ونكبات وحروب واضطهادات، بالإتّكال على الروح القدس الذي يقود الكنيسة إلى كلّ حقٍّ وخيرٍ وجمال. والمؤمن يجد اختباراً لفضيلة الرجاء فيه، حينما يقع في ضيقة أو في تجارب متنوّعة، أو في آلام صعبة، أو في مشاكل يبدو أنّ لا حلول لها، فهو يعرف بالرجاء أنّ الرب لديه حلول كثيرة، وأنّه لا بدّ أن يأتي ليفتقده مهما بدا أمام الناس أنه قد تأخّر.

لذلك نعيش ونعمل “فَرِحين في الرجاء، صابرين في الشدة  ، مواظبين على الصلاة، مشتركين في احتياجات القديسين، عاكفين على إضافة الغرباء ” (رومة١٢). فنحن لا نعتمد على ذواتنا ولا على وسائط عالمية، إنّما على الله الذي يعمل كلّ خير. نرجو ضارعين إلى المولود الإلهي أن يسود السلام والأمان في كلّ مكان، ويرجع  الحبّ إلى قلوب الناس جميعاً، فيرتبطوا به، ويعيشوا به، إذ قال الرب يسوع “بهذا يعرف الناس أنكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعضكم نحو بعض” (يوحنا ١٣ : ٢٥).

  1. صدى ميلاد عام الرجاء:

يختصر ميلاد الربّ يسوع، قيم التواضع والمحبّة والرجاء، في زمنٍ نحن بأمسّ الحاجة فيه للعودة إلى ذواتنا للصلاة من أجل الرجاء، رجاء السلام في العالم المليء بالصراعات والنزاعات والحروب والخلافات فيما بين مكوّنات بلداننا المشرقية المضطهَدة تحت راياتٍ مختلفةٍ ومتعدّدةٍ، لنعرف السلام في نفوسنا.

في هذا الزمن الميلادي المقدس، وفي خضمّ احتفالاتنا بولادة الرب المخلّص الوديع في مذود، تتجه عيوننا إلى الشعوب المتألمة  بسبب الحروب التي تُساق على أراضيها ، فتدمر المدن والقرى ، وتقتل الأطفال النساء والشيوخ وتشرد العائلات وتقلعهم من  جذورهم . إننا نناشد الضمير العالمي والدول صاحبة القرار لإيقاف نزيف الحروب المستمرّة بين الشعوب .  ونضاعف التضرّع في زمن الرجاء من أجل ولادة حلٍّ سلمي ينهي العنف والقتال، ويجمع أبناء الوطن حول طاولة واحدة، ليتصالحوا مع أنفسهم وفيما بينهم، ويقرّروا العمل لإحلال الأمن والسلام ، وإعادة بناء الأوطان ، كما نحثّ المجتمع الدولي على السعي الجادّ والحثيث لرفع العقوبات المفروضة ظلما على الشعوب المتألمة . كما نناشد الجميع من مراجع دينية وسياسية وإعلامية، أن يقلبوا صفحات الماضي المؤلمة ويتطلّعوا إلى بناء علاقاتٍ إيجابيةٍ وطيدةٍ تجمع بين الشعوب، لتتواكب في مشاريع النهضة من ركام الصراعات وجاهلية الأحقاد.

كما نتضرع إلى الطفل الإلهي ، ملك السلام  ، أن يتفقد جميع الشهداء برحمته الواسعة ، ويمن على الجرحى بالشفاء العاجل ، ويعزي كل مفجوع فقد عزيز . كما نتضرع وبشكلٍ خاص إلى العائلات التي تعاني الحزن لفقدان أحد أفرادها، وجميع الذين يغيب عنهم فرح العيد، من فقراء ومعوَزين ومهمَّشين ومستضعَفين، سائلين لهم فيض النعم والبركات والتعزيات السماوية.

  1. خاتمة:

إنّنا نتوجّه بالصلاة الحارّة من أجل أن “ يشرق حولنا مجد الربّ” (لوقا ٢ : ٩)، في هذا العيد، كما أشرق في أجواء بيت لحم، ليلة ميلاد يسوع المسيح فادينا. ولنسأله أن يؤهّلنا لنحيا في داخلنا السلام الآتي من الله لكي نتمكّن من أن نبنيه في كلّ عائلةٍ ومجتمعٍ ووطن، في هذا الشرق وفي بلدان الإنتشار. ولنسبّح اللهَ ونمجّده في إنساننا المتجدّد بالمسيح وفي كلّ إنسانٍ تتجدّد فيه صورة الله بهيةً. كما أننا نبتهل إلى أمّنا مريم العذراء التي قدّمت للبشرية المعذَّبة، هدية السماء، يسوع الأعجوبة، أن تتشفّع فينا لدى ابنها، ربّنا يسوع المسيح، كي يحلّ في شرقنا السلام الذي طالما تاق إليه. ولنبقَ في ظلّ حمايتها متشدّدين بالرجاء، صامدين في وجه المحنِ والمصاعب، ولنُجاهر بملء الفم والقلب والروح :

” ولِدَ المسيح فمجدوه ! هللويا ، هللويا ، هللويا

اتمنى لكم سنة مقدسة  ” سنةَ رضاً عند الرَّبّ ” ( لوقا ٤ : ١٩ )

Share this Entry

المطران كريكور أغسطينوس كوسا

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير