“فنظر إليه يسوع وأحبّه، وقال له: يعوزك شيءٌ واحد: اذهب، بع ما لك وأعطِ الفقراء، وتعال اتبعني…” (مر 10: 21)
عندما وقعت هذه الكلمات في أذنَي أنطونيوس وهو يشارك في القدّاس، لم يحزن ويذهب كما فعل الشاب الغنيّ الذي يحدّثنا عنه الإنجيل، بل عزم فعلًا على تلبية دعوة يسوع وهكذا فعل. وبما أنْ كانت له أخت أصغر منه وهو مسؤولٌ عنها بعد وفاة والديه فقد ترك لها قسمًا من الميراث تأمينًا لحياتها.
لكنّ الربّ يسوع أراد منه أمرًا آخر، فعاد أنطونيوس وسمع من الإنجيل أيضًا ” لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ” (لو 9: 62)، فخرج مرّة أخرى، وتخلّى عن كلّ شيء وتصدّق به للفقراء…
توجّه إلى المنطقة المحيطة بمسقط رأسه. هناك عاش رهبانٌ منعزلون دُعوا شيوخًا فقصد الواحد تلو الآخر ليتعلّم منهم حياة التوحّد والتقشّف والزهد والصلاة وكالنحلة النشيطة انتقى من كلّ شيخٍ ما يميّزه من فضائل وحاول إتقانها متّكلًا على نعمة الله وعازمًا على عدم التفريط بها، مردّدًا كلمات الرسول بولس، من لم يعِش هو، بل عاش المسيح فيه “مًن يستطيع أن يفصلني عن محبة المسيح؟ لا موت ولا حياة، لا رئاسات ولا سلاطين، لا حاضر ولا مستقبل…
“فاح عطر قداسة أنطونيوس في منطقة ترهبّه الأولى فقصده الناس وازدحموا حوله فلبّى سؤلهم الجسديّ ولكن خصوصًا الروحيّ وتراجع أكثر إلى البريّة – والبريّة هي في آنٍ معًا – مكان الوحشة والتجربة والحنين إلى الراحة والأمان والدفء الإنسانيّ، ومساحة الصمت والإصغاء إلى الله واللقاء المكثّف معه والتجرّد حتّى عن العاطفة الإنسانيّة المباشرة…
مع ذلك، لا شيء يحدّ القداسة وهي جذبت الجموع الكثيرة تسأل أنطونيوس الشفاء الجسديّ والروحيّ وجذبت خصوصًا الشباب الكُثر الذين اتّخذوا لهم عادة التحلّق حوله ليطرحوا عليه الأسئلة ويطلبوا منه المشورة ويكنزوا ممّا جمع عنده بعد عِشرةٍ طويلةٍ له مع الربّ الإله. لم يبخل أنطونيوس عليهم ولو ضحّى قليلًا بعزلته مع الربّ لكنّه، في نهاية الأمر، اقتدى بمعلّمه الأسمى الذي كان يعلّم الجموع ولو اضطرّ إلى ركوب السفينة لينأى قليلًا عن زحمة الناس.
من خبرته الطويلة الصادقة في حياة الروح وفق النمط الرهبانيّ ومن نُسغ مواهب الروح القدس وثماره في حياته، أعطى أنطونيوس سائليه توصياتٍ، جمعوها بعد وفاته في ما صار يُعرف بالـ”قانون الأنطونيّ للحياة الرهبانيّة” وهو القانون الذي اتّبعته رهبانيّاٌ عديدة في الشرق والغرب وهكذا عُرف أنطونيوس، كوكب البريّة بـ”أبي الرهبان” مع أنّ رهبانًا آخرين سبقوه.
زرع انطونيوس إذًا بذار الحبّ الإلهيّ في قلوب المؤمنين ولا سيّما الشباب في ذلك الوقت، معه ازدهرت البريّة بالكثيرين من طالبي الترهب وعيش حياة النسك وازهرت البراري والقفار وتحوّلت الصحراء القاحلة إلى أرض خضراء تنبض بالحياة – خصوصًا وانّ كلّ راهب يقتات متقشّفًا من عمل يديه ويزرع على نحوٍ خاص ليقوت زائريه فلا يرجعهم جياعًا “فتخور قواهم في الطريق” واستنشقت الكنيسة جمال عطر المسيح في عيش الروحانيّة التي تتجدّد يومًا بعد يوم. وهكذا، يجدّد الرهبان والراهبات جميعهم نذورهم في عيد القدّيس أنطونيوس ليذكروا دائمًا أنّ أيديهم تمسك بعدُ المحراث.
تقوم حياة كلّ مؤمن ومؤمنة، وبالأحرى أكثر حياة كلّ راهبٍ وراهبة على ركائز عدّة أبرزها:
أوّلًا: الإصغاء الى كلمة الله.
منذ طفولته كان أنطونيوس يتردّد إلى الكنيسة ويشارك في الاحتفالات والصلوات وما ميّز هذه المشاركة أنّها لم تكن فقط حضورًا جسديًّا إنّما هدفت إلى البحث عن معنى الحياة ومعنى الإيمان وكيفيّة إقامة علاقة سليمة مع الله. هذا البحث وهذه الرغبة جذّرتا في حياته حُبَّ الإصغاء إلى كلمة الإنجيل. كما سبقه القدّيس بطرس بقوله للمسيح:” إلى أين نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك”، وهذه الكلمة لا تُحدّ بزمان أو مكان. فهي تدخل قلبَ الإنسان وتنير عقله وتفتح كيانه كلّه لسبر معرفة سرّ الحبّ، معرفة سرّ ملكوت الله على الأرض.
ثانيًا: الشهادة لله
الحياة الرهبانيّة وأيّ حياة تتميّز بالالتزام الحيّ، الناشط، الصادق بكلمة الله هي شهادة حيّة لحقيقة محبّة الله التي تجعل كلّ شيء جديدًا: “ورأيت سماء جديدة وأرضًا جديدة”. إخوتي الأحبّاء ونحن نحتفل في هذا العام بسنة الرجاء “يوبيل الرجاء، الذي لا يُخيّب” نقول إنَّ رجاءنا ليس في هذا العالم الزائل إنّما “المسيح رجاؤنا” في العالم الآتي لذا علينا أن نكون شهودًا أوفياء لهذا الرجاء ومستعدّين دائمًا لأن نعطي جوابًا عن سبب الرجاء الذي فينا”. (شرح عمليّ، ملموس)
ثالثا: حياته كانت استشهادًا.
تميزت حياة الآباء والقدّيسين بالاستشهاد والاستشهاد أحمر إن اصطبغ بالدم، أو أبيض، إن قام فقط على حمل الصليب يوميًّا وفي كلتا الحالتين يصحّ قول يوحنّا “غسلوا حُللهم بدم الحمل”. في حياة هؤلاء القديسين نرى فرح السماء وبهاء المجد السماوي الساطع على وجوههم، متخطين مغريات العالم وشهواته وصعوباته.
هكذا، يبقى القدّيس أنطونيوس وغيره كثيرون ممّن ساروا وراء المسيح، قدوة في الاستشهاد اليوميّ لبلوغ الهدف جاهدًا لسنواتٍ طويلة في صوم وصلاة وزهد وتقشف محاربًا لكثير من التجارب.
إذًا إخوتي إن أردنا حياة على الأرض تقودنا إلى الحياة الأبدية علينا أن نُصغي جيّدًا إلى كلمة الله ونكون لها شهودًا حقيقيّين غير مشوّهين لها، ونستشهد لأجلها كلّ يوم.
“إصغاء، شهادة واستشهاد يوميّ”.
الأب أنطونيوس مقار إبراهيم
راعي الأقباط الكاثوليك في لبنان