بعد عيد ” الغطاس “، تُعيّد الكنيسة للقديس يوحنا المعمدان، الذي كان له دور رئيسي في عماد يسوع في نهر الاردن والظهور الإلهي للأقانيم الثلاثة .
نتأمل اليوم في تلك الشخصية الفريدة التي ذكرت في الإنجيل المقدس ، وأُعطيت له مكانة خاصة في الكنيسة الجامعة .
لنتعرف على صفات هذا القديس والمعروف : ” السابق ” أو ” المرسل ” :
” الملاك ، الرسول ” :
رسالة القديس يوحنا المعمدان حددها العهد الجديد بتطبيقه عليه نبؤة من العهد القديم : ” ها أنذا أرسل رسولي قدامك ليعد الطريق أمامك ” (متى ١١ : ١٠ ) .” …
” صوت مناد في البرية ” : أعدوا طريق الرب ، واجعلوا سبله قويمة ” ( مرقس ١ : ٢) .
وفي العهد القديم ، نقرأ نص النبؤة الحرفي في نبؤة ملاخي : “ها أءنذا مرسل رسولي فيعد الطريق أمامي ” ، ويتابع قاتلاً : ” ويأتي فجأة إلى هيكله السيد الذي تلتمسونه ، وملاك العهد الذي ترضون به . ها إنه آت قال رب القوات ” . (ملاخي ٣ : ١).
واستبدال ضمير المتكلم بضمير المخاطب هنا دليل إلى المساواة التامة الكائنة بين الآب والإبن. يوحنا كان إذا ” الملاك” والذي يعني أيضاً ” المرسل “، الذي أتى ليهيء الطريق أمام الرب ، و ليمهد سبل ملكوت الله الآتي بالمسيح إلى البشر. ولذا نرى الكنيسة المقدسة . تمثله في ايقوناتها مجنحاً كالملائكة الذين شابههم بكونه مثلهم ” ارسل للخدمة من أجل الذين سيرثون الخلاص” (عبرانيين ١ : ١٤) ، ولذلك : ” ظهر رجل مرسل من لدن الله اسمه يوحنا ” (يوحنا ١ : ٦).
“السابق” :
لقد أُرسل يوحنا ليمهد الطريق للربّ، ” ليسير أمامه ” (لوقا ١ : ١٧). ولذا دعي ” السابق ” وشبهته الكنيسة ” بالكوكب السحري السابق الشمس “. إن أنبياء العهد القديم كلهم كانوا على صورة ما سابقين للمخلص . يشيرون اليه بصور ورموز من أعماق العصور. أما يوحنا المعمدان ، فلأنه كان خاتمتهم ، فقد حظي بأن يرى بعين الجسد ما رآه الأنبياء السابقون بعين الروح فقط، وأن يشير اليه أمام الناس المجتمعين قاتلاً : ” ها هو حمل الله الغفار خطايا العالم. وأن يلامس هامته بيده أثناء معموديته.
ولأن يوحنا كان يمثل العهد القديم بأفضل مظاهره، فقد شاء الرب أن يتقبل منه المعمودية ذلك التطهر الرمزي ” لكي يتم كل برّ “العهد القديم ” (متى ٣ : ١٥) ، لكي يدخل في العهد الجديد بتواضع الفادى ، جاعلاً نفسه مع الخطأة، فيحول بقوة الفداء الظلام إلى نور ، ومعمودية الماء إلى : ” معمودية الماء والروح ” التي بها يتجدد الإنسان في أعماق كيانه. لقد كان يوحنا خادماً لهذا السرّ الذي أذهله فشاهد الروح منحدراً على الإبن الحبيب وحاضناً الماء ليجدد به الخليقة كلها كما حضنه عند الخليقة الأولى ليبث الحياة فيه من جديد . ولأن الرب قد شاء أن يحني هامته أمام يوحنا ليتقبل المعمودية منه .
” المنادى بالتوبة ” :
بدأ يوحنا رسالته بتمهيد الطريق للمسيح يسوع . فكان ” صوت صارخٍ في البرية: أعدوا طريق الرب ، مهدوا سبله “. لقد كان ملكوت الله قريباً، وملكوت الله لا يدخل اليه الإنسان إلا بالتوبة. لذا نادى يوحنا بالتوبة، والتوبة هي انسلاخ الخطئية وأعمالها وسلوكها من ذهنية الإنسان ، ليسير في نهج جديد وحياة جديدة ، ولذا دعا يوحنا إلى ” تقديم أثمار تليق بالتوبة ” (لوقا ٣ : ٨) . والتوبة تتجلى في السلوك اليومي ، في أصغر الأمور وأكبرها ، في المجتمع من خلال معاملتة مع الناس ، وفي العمل المهني على أنواعه، ولذا كان يوحنا يُعلّم مناهج التوبة للخطأة و للعشارين جباة الضرائب قائلاً لهم : ” لا تتقاضوا أكثر مما فرض لكم” (لو ٣ : ١٣ ) وللجنود : ” لا تتحاملوا على أحداً ولا تظلموا أحداٌ ، وأقنعوا برواتبكم (لو ٣ : ١٤) . والتوبة عملية شاقة تتطلب جهدا روحياً : ” ملكوت السماوات يؤخذ بالجهاد ، والمجاهدون يختطفونه” (متى ١١ : ١٢). ولذا كان يوحنا يوبخ الناس ليحرك فيهم الضمائر المتحجرة والنفوس المخدرة والقلب القاسية ، فيخاطبهم بقساوة ، وبالوقت نفسه كانت كلماته قوية ولكنها مليئة بالمحبة ليدفعهم إلى الخلاص.
” الغيور ” :
لقد كانت غيرته الملتهبة ناراً، نفس غيرة ايليا النبي ، لا تخف من توبيخ الملوك ، بل يدعوهم ليتوبوا هم أيضاً. ولذا فقد كان مصيره مصير الأنبياء الصالحين الذين لم يطيعوا أوامر الناس وإغراراتهم واستغلالهم ، ولم يساوموا على كلمة الله ، ولكنهم جابهوا بها دون إجلال ملوك وأمراء و عظماء هذا الدهر. فكان إستشهاده مقدمة وصورة المسيح الذي ” أكلته غيرة بيت الله “
( يوحنا ٢ : ١٧ ) .
” الشاهد ” :
ذاك الإستشهاد لم يكن سوى خاتمة وقمة الشهادة التي أداها يوحنا في حياته. لقد حدد العهد الجديد دوره بإطلاق عليه لقب الشاهد : ” جاء شاهدا ليشهد للنور ، فيؤمن عن شهادته جميع الناس . لم يكن هو النور بل جاء ليشهد للنور ” (يوحنا ١ : ٧ و ٨) . على ضفاف الأردن شهد يوحنا ليسوع ، شهد له قبل ظهوره قائلاً : ” ولكن يأتي بعدي من هو أقوى مني، من لست أهلا لأن أفك رباط نعليه . إنه سيعمدكم في الروح القدس والنار ” (لوقا ٣ : ١٦) ، وأخبر أنه الفادي المنتظر والديان العادل . بيده المذرى، ينقي بيدره ، فيجمع القمح في أهرائه ، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ ” (لوقا ٣ : ١٧). وعندما ظهر يسوع أشار اليه يوحنا قائلاً : ” هوذا حمل الله ، الذي يرفع خطيئة العالم … وأنا رأيت وشهدت أنه هو ابن الله ” (يوحنا ١ : ٢٦ ، ٣٤).
وفي كلتا الحالتين، نرى يوحنا يبعد عنه انتباه تلاميذه ، وقد كانوا كثيرين ، لكي يوجههم نحو شخص آخر ، وهو الأفضل منه بكثير ، وهذا الشخص هو المسيح يسوع . كان يوحنا الشاهد بكل ما في الكلمة من معنى ، للمخلص ، لم يرد أن يبني لنفسه زعامة شخصية ولم يرد أن تلتف حوله الجموع . كان همه الأوحد أن يذوب أمام ذاك الذي كان يُعلن عن مجيئه قاتلاً : ” يأتي بعدي من هو أقوى مني . من لست أهلاً لأن أنحني فأفك رباط حذائه . أنا عمدتكم بالماء ، وأما هو فيعمدكم بالروح القدس ” ( مرقس ١ : ٧ – ٨ ) .
كان تلاميذ يوحنا يتضايقون عندما بدأت الجموع تأتي إلى يسوع وتهجر معلمهم ، أما يوحنا أفهمهم أنه هكذا يُتتم أمنيته : ” لا بد له من أن يكبر ، ولا بد لي من أن أصغر ” (يوحنا ٣ : ٣٠). لقد أرسل تلاميذه إلى يسوع، وافهمهم ان العريس الذي اليه يزف شعب الله، ذلك العريس الذي تحدث عنه نشيد الأناشيد ، والذي وُلدت منه الكنيسة بالدم والماء المتدفقين من جنبه المطعون على الصليب كما خرجت حواء من جنب آدم، أن ذلك العريس هو يسوع وأن يوحنا هو صديق العريس الذي خطب له الشعب على ضفاف الأردن : ” من كان له العروس فهو العريس، واما صديق العريس، الذي يقف يستمع ٱليه ، فانه يفرح أشد الفرح لصوت العريس، فهوذا فرحي قد تم (يوحنا ٣ : ٢٩).
لقد كان فرح يوحنا بأن ينساه الناس لكي يصبح كله من خلال حياته للمسيح يسوع النور الحقيقي . كان فرحه بأن يكون ” مصباح النور ” كما تدعوه الكنيسة، فلا يلتفت الناس إليه بل إلى النور الذي من خلاله يشع النور الإلهي .
لقد أراد أن يكون ” صوت الكلمة “، والصوت ليست له أهمية بحد ذاته، انما أهميته أنه ينقل الكلمة بنبرة تهز القلوب. وكما الكوكب السحري عند شروق الشمس هكذا توارى يوحنا وراء نور المخلص.
“المشهود له ” :
ولأن يوحنا أفرغ هكذا ذاته ، حظي بأن يمتلئ من المجد الإلهي، وبأن يشهد له الرب نفسه شهادة تغني عن كل مديح : ” الحق أقول لكم : لم ، في أولاد النساء أكبر من يوحنا المعمدان ” (متى ١١ :١١). ولذا ترتل الكنيسة في نذكار الصديق بالمديح مرنمةً : ” وأما أنت أيها السابق فتكفيك شهادة الرب … ” .
صلاة :
أيها الرب يسوع ، يا من دعوتنا لنكون شهودًا لك ، قائلاً : “وتكونون ي شهوداً ” (أعمال الرسل ١ : ٨) ، هب لنا أن نسلك على مثال شاهدك يوحنا. أعطنا الغيرة المتوقدة والجرأة والشجاعدة في إعلان حقك. أعطنا أن لا نسعى إلى زعامة وسيطرة مهما كانت خفية، مستترة، أو ظاهرة ، وأن لا نجعل من شخصنا صنماً، وأن لا نقيم ذواتنا حواجز بين الآخرين وبينك، اجعلنا فقط علامة نيرة ترفع الأبصار اليك.
يا رب، لقد كان همّ يوحنا الوحيد أن يمهد طريقك والإتصال بين الناس وبينك، لذلك أشار اليك فتبعك تلميذاه أندرواس وبطرس ومكثا عندك وأقاما معك حواراً تقرر به مصيرهما (يوحنا ١ : ٣٥ – ٣٩)، أعطنا أن نفهم نحن أيضاً أن مصير النفوس يتقرر في ذاك الحوار الشخصي، الخفي، معك، وان نفسح المجال لحوار كهذا بينك وبين كل الذين أعطي لنا أن نهتم بأمر خلاصهم ، لكي يسيروا وراءك ، ويستنيروا بنورك وجمال تعاليمك ووصاياك ، ويمجدوك معنا إلى الأبد ، بشفاعة سابقك القديس يوحنا المعمدان .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك