مقدمة
يشهد الإعلام تحولًا جذريًا مع صعود صُنّاع المحتوى كقوة مؤثرة تتجاوز الإعلام التقليدي. لم يعد الصحفيون وحدهم من يحددون الأخبار، بل أصبح الأفراد عبر المنصات الرقمية يلعبون دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام. وقد أقر البيت الأبيض بهذه الظاهرة، حيث جاء في بيان رسمي: “نحن نشجع أي شخص في هذا البلد—سواء كنت من صُنّاع المحتوى على TikTok، أو مدونًا، أو مقدم بودكاست—ويقوم بإنتاج محتوى إخباري موثوق بأي وسيلة كانت، على التقدم بطلب للحصول على تصريح من البيت الأبيض.”¹ يؤكد هذا الإعلان أن صُنّاع المحتوى أصبحوا يشكلون سلطة إعلامية رديفة، ليست مجرد ظاهرة عابرة بل واقع جديد يتطلب هذه المرة من الكنيسة التفكير في كيفية التعامل معه، لا سيما في ظل وجود مؤثرين كاثوليك ذوي تأثير واسع على المؤمنين.
التحول الإعلامي وتحديات الكنيسة
لطالما استخدمت الكنيسة الإعلام لنقل رسالتها، لكنها اليوم تواجه تحديًا جديدًا: كيف تتفاعل مع منصات رقمية تتيح لأي شخص أن يصبح مصدرًا للمعلومات الدينية، وينشر تفسيرات وتأملات حول الكتاب المقدس، أو حتى ينتقد تعاليم البابا وبعض الأساقفة؟ فماذا نعني بمفهوم “السلطة الرديفة”؟ يشير هذا المصطلح إلى القوى الإعلامية غير التقليدية التي تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتمتع بنفوذ قوي في توجيه الرأي العام والتأثير على قناعات الأفراد، مما يجعلها تتفوق أحيانًا على الإعلام التقليدي في سرعة انتشار الخبر ومدى التأثير.
في هذا السياق، دعا البابا فرنسيس الكنيسة إلى الاستفادة من هذه الأدوات الحديثة، حيث قال في رسالته بمناسبة اليوم العالمي لوسائل الإعلام: “البيئة الرقمية ليست عالمًا افتراضيًا موازٍ للحياة الحقيقية، بل هي جزء من الواقع الذي نعيشه، وينبغي أن يكون فضاءً نُعبّر فيه عن الإنجيل.”²
وهذا يطرح التساؤل: كيف يمكن للكنيسة أن تتعامل مع هذه القوى الرديفة التي تؤثر على المؤمنين، سواء بشكل إيجابي أو سلبي؟ وفي ظل هذا الواقع الجديد، نجد أن المؤثرين الكاثوليك باتوا يشغلون دورًا مزدوجًا: فمن جهة، يقدمون محتوى روحيًا وتعليميًا، ومن جهة أخرى، يمتلكون تأثيرًا قد يكون أقوى من الخطاب الكنسي الرسمي في بعض الأحيان…
ولكن من الخطأ اعتبار صُنّاع المحتوى الكاثوليك خصومًا، إذ يمكن أن يكونوا شركاء في الرسالة الإنجيلية. وقد أكد البابا فرنسيس على أهمية الإعلاميين المؤمنين بقوله: “إن رسالتكم ليست فقط نقل المعلومات، بل نشر الأمل والرجاء، وإيصال صوت الكنيسة بطريقة تتجاوز الجدران التقليدية.”³
كيف يمكن للكنيسة تعزيز هذا الدور؟
تقديم تكوين لاهوتي وإعلامي للمؤثرين الكاثوليك لضمان نشر محتوى يتماشى مع التعاليم الكنسية، وهذا يبدأ في الرعية، الأبرشية، المعاهد والجامعات اللاهوتية، والأكليريكيات وغيرها.
تشجيع التعاون بين مراكز الإعلام الكاثوليكي واللجان الأسقفية لوسائل الإعلام وصُنّاع المحتوى لتعزيز جودة المحتوى الديني على المنصات الرقمية، وهذا يتطلب حوارًا بناء.
الاستفادة من الإعلام الرقمي والخبرات لنقل الرسالة الإنجيلية بأساليب تتناسب مع الأجيال الجديدة.
تحديات الإعلام الرقمي وتأثيره على الإيمان
رغم الفرص التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، هناك تحديات ينبغي الانتباه إليها:
انتشار المعلومات المغلوطة حول الإيمان والعقيدة.
تقديم تعاليم غير دقيقة قد تؤدي إلى تشويه المفاهيم الدينية.
غياب أو تغييب المرجعية الكنسية في بعض الحسابات المؤثرة.
وقد حذّر البابا فرنسيس من هذه المخاطر بقوله: “علينا أن نكون يقظين، فليس كل ما يُنشر عبر الإنترنت يعكس الحقيقة، وليس كل صوت يُسمع يحمل روح الإنجيل.”⁴
لهذا، من الضروري أن يكون للكنيسة حضور قوي على هذه المنصات، ليس فقط من خلال الكهنة والمشرفين على وسائل الإعلام، بل أيضًا عبر المؤمنين الذين يحملون رسالة المسيح التي يجب أن تقوم على أسس كنسية صحيحة.
خاتمة
إن “السلطة الرديفة” ليست خطرًا، بل فرصة لإيصال رسالة الكنيسة إلى جمهور أوسع. لذا، ينبغي على الكنيسة أن تتفاعل مع هذا التحول بوعي، مستفيدةً من إمكانياته وفرصه، ومواجهة التحديات بحكمة وفطنة. وفي الختام يبقى السؤال: هل نحن مستعدون للاستجابة لهذا التغيير بروح الانفتاح والمسؤولية؟
خ (د) جان بول الخوري
المصادر
البابا فرنسيس، رسالة بمناسبة اليوم العالمي لوسائل الإعلام، الفاتيكان، ٢٠٢١.
البابا فرنسيس، خطاب إلى الإعلاميين الكاثوليك، ٢٠٢٠.
البابا فرنسيس، رسالة حول أخلاقيات الإعلام الرقمي، ٢٠١٩.
|