هذا المساء، يُنثَرُ الرّماد المقدّس على رؤوسنا. إنّه يحيي فينا ذكرى ما نحن، ويحيي أيضًا فينا الرّجاء في ما سنكون. يذكّرنا بأنّنا تراب، لكنّه يوجِّهنا نحو الرّجاء الذي نحن مدعوّون إليه، لأنّ يسوع نزل إلى تراب الأرض وبقيامته جذبنا معه إلى قلب الآب.
هكذا تمتد مسيرة الزّمن الأربعينيّ نحو الفصح، بين ذكرى ضعفنا وهشاشتنا والرّجاء في أنّ الرّبّ القائم من بين الأموات ينتظرنا في نهاية الطّريق.
لنتذكّر أوّلًا. نقبل الرّماد ونحني رؤوسنا إلى الأسفل، كما لو كنا ننظر إلى أنفسنا، لنفحص ما في داخلنا. في الواقع، الرّماد يساعدنا لنتذكّر هشاشة حياتنا وأيامها المعدودة: نحن تراب، ومن التّراب خُلِقنا وإلى التّراب نعود. هناك لحظات كثيرة فيها ندرك، عندما ننظر إلى حياتنا الشّخصية أو إلى الواقع من حولنا، أنّ “ما الإِنسانُ السَّائِرُ إِلاَّ ظِلّ، وما الخَيراتُ الَّتي يُكَدِّسُها إِلاَّ هَباء، ولا يَدْري مَن يَجمَعُها” (مزمور 39، 7).
تُعلِّمنا هذا بصورة خاصّة خبرة الهشاشة التي نشعر بها إذا تعبنا، وضُعفُنا الذي علينا مواجهته، والمخاوف التي تسكننا، والفشل الذي يُحرِقُنا من الدّاخل، وتَحَطُّمُ أحلامنا، وعندما نرى زوال الأشياء التي نملكها. خُلِقنا من رماد وتراب، ونلمس لمس اليد هشاشتنا في خبرة المرض، وفي الفقر، وفي الآلام التي تهبط أحيانًا فجأة علينا وعلى عائلاتنا. ونشعر أيضًا بضعفنا عندما نجد أنفسنا معرَّضين، في الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة في زمننا هذا، لـ”لغبار الدّقيق“ الذي يلوِّث العالم: تعارُضُ الإيديولوجيّات، ومنطق التّسلّط، وعودة أيديولوجيّات الهويّة القديمة التي تفكّر في إقصاء الآخرين، واستغلال موارد الأرض، والعنف بجميع أشكاله والحرب بين الشّعوب. كلّ ذلك ”غبار سامّ“ يسمِّم هواء كوكبنا، ويمنع العيش معًا في سلام، فينمو في داخلنا كلّ يوم عدم اليقين والخوف من المستقبل.
أخيرًا، تذكِّرنا حالة الهشاشة هذه بمأساة الموت، التي نحاول في مجتمعاتنا المهتمّة بالمظاهر أن نتحرّر منها بطرق عديدة، وأن ”نهمّشها“ حتّى في لغاتنا، لكنّها تفرض نفسها كواقع علينا أن نواجهه، علامة على عدم الاستقرار والزّوال في حياتنا.
لذا، على الرّغم من الأقنعة التي نرتديها والحِيَل التي نبتكرها غالبًا ببراعة لنشتت انتباهنا، الرّماد يذكّرنا من نحن. وهذا مفيد لنا. إنّه يعيدنا إلى المنظور الصّحيح، ويُظهِرُ احتدادَ نرجسيتنا، ويعيدنا إلى الواقع، ويزيدنا تواضعًا واستعدادًا لنخدم بعضنا بعضًا: لا أحد منّا هو الله، نحن جميعًا في مسيرة.
والزّمن الأربعينيّ هو أيضًا دعوة إلى أن نحيي الرّجاء فينا. إن كنّا نقبل الرّماد برؤوس منحنية لنتذكّر ما نحن، فإنّ الزّمن الأربعينيّ لا يريد أن يتركنا ورؤوسنا منحنية، بل يدعونا إلى أن نرفع رؤوسنا نحو من قام من أعماق الموت، ليجذبنا نحن أيضًا معه من رماد الخطيئة والموت إلى مجد الحياة الأبديّة.
الرّماد يذكِّرنا إذًا بالرّجاء الذي نحن مدعوّون إليه، لأنّ يسوع، ابن الله، قد اختلط بتراب الأرض، ورفعه إلى السّماء. وفي أعماق التّراب نزل، ومات من أجلنا وصالحنا مع الآب، كما سمعنا من الرّسول بولس: “ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَلَه اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا” (2 قورنتس 5، 21).
أيّها الإخوة والأخوات، هذا هو الرّجاء الذي يحيي الرّماد الذي هو نحن. بدون هذا الرّجاء، نستسلم لقدرنا فنعاني بصورة سلبيّة هشاشة حالتنا البشريّة، وخاصّة أمام خبرة الموت، فنغرق في الحزن واليأس، وننتهي إلى التّفكير مثل الجهال فنقول: “قَصيرَةٌ حَزينَةٌ حَياتُنا ولَيسَ لِنِهايةِ الإِنسانِ مِن دَواء […] إِنَّنا وُلِدْنا اتِّفاقًا وسنَكونُ مِن بَعدُ كأَنَّنا لم نَكُنْ قَطّ، لأَنَّ النَّسمَةَ في مَناخيرِنا دُخان، والنُّطقَ شَرارَةٌ مِن خَفَقانِ قُلوبِنا. فإِذا انطَفَأَت عادَ الجِسْمُ رَمادًا، وتَبَدَّدَ الرُّوحُ كالهَواءِ المائع” (الحكمة 2، 1-3). أمّا رجاء الفصح الذي نتجه نحوه، فهو يسندنا في ضعفنا، ويُطَمْئِنُنا أنَّ الله يغفر لنا، وحتّى ونحن محاطون برماد الخطيئة، يفتح أنفسنا إلى اعتراف فرح بالحياة: “فادِيَّ حَيٌّ وسَيَقومُ الأَخيرَ على التُّراب” (أيوب 19، 25). لنتذكّر هذا: “الإنسان هو تراب وإلى التّراب يعود، لكنّه تراب عزيز في عينَي الله، لأنّ الله خلق الإنسان ليكون مقدَّرًا له الخلود” (البابا بنديكتس السّادس عشر، دروس في التّعليم المسيحي في المقابلة العامّة، 17 شباط/فبراير 2010).
أيّها الإخوة والأخوات، مع الرّماد على رؤوسنا، نسير نحو رجاء الفصح. لِنَعُدْ إلى الله، ولْنَعُدْ إليه بكلّ قلوبنا (راجع يوئيل 2، 12)، ولنضعه في مركز حياتنا، لكي ينير أخيرًا رجاء الرّبّ القائم من بين الأموات ذكرى حقيقتنا، ما نحن – هشاشة وفناء مثل الرّماد المتناثر في الرّياح. لنوجّه حياتنا نحوه، فنصير علامة رجاء للعالم: لنتعلِّم من الصّدقة أن نخرج من ذواتنا لنتشارك في احتياجاتنا بعضنا مع بعض ونغذي رجاء عالم فيه المزيد من العدل. ولنتعلِّم من الصّلاة أن نكتشف أنّنا بحاجة إلى الله، أو كما قال جاك ماريتان إنّنا ”متسوِّلو السّماء“، لكي نغذي الرّجاء، أنّه، بالرّغم من هشاشتنا وفي نهاية رحلتنا الأرضيّة ينتظرنا أبٌ بذراعَين مفتوحتَين. ولنتعلَّم من الصّوم أنّنا لا نعيش فقط لإشباع احتياجاتنا، بل نحن جائعون إلى الحبّ والحقيقة، وفقط حبّ الله وحبّ بعضنا بعضًا يمكنه أن يشبعنا حقًّا ويجعلنا نرجو مستقبلًا أفضل.
ليرافقنا دائمًا هذا اليقين أنّه منذ أن جاء الرّبّ يسوع إلى رماد العالم، “صارت قصة الأرض قصة السّماء. الله والإنسان مرتبطان بمصير واحد” (كارلو كارّيتّو، الصّحراء في المدينة، روما 1986، 55). والله سيزيل إلى الأبد رماد الموت ليجعلنا نتألّق بحياة جديدة.
بهذا الرّجاء في قلوبنا، لنتقدَّم في المسيرة. ولنترك أنفسنا تتصالح مع الله.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana