” أقوم وأمضي إلى أبي فأقول له : يا أبتِ إني خطئتُ إلى السماء وإليك ” ( لوقا ١٥ : ١٨ )
الصوم هو استمرار لفعل التوبة ، والتوبة تعني القيام المستمر والإرتماء في حضن الآب . حيث نكتشف في قلب الله حنانه غير المحدود في المحبة .
أقوم وأرجع إلى أبي :
مع الأسف : نحن نتذمُر على الله ونقول ، ربنا تركنا ، والحقيقة نحن الذين نتركه ونبتعد عنه، و نذهب إلى حظيرة الخنازير لننغمس في وسخ الخطايا ، و لنعيش حريتنا بحسب إرادتنا ومفهومنا الخاطئ. وعندما نفشل نرجع إلى ذواتنا و نكتشف حقيقة أبدية . إن محبة الله اللامتناهية في داخلنا و لا يمكن أن تتركنا او تنقص قوتها وفعاليتها ، بل على العكس يزداد تعمقنا في البحث عنها و إكتشافها.
ما أجمل حنان الله الآب والجلوس في حضنه الواسع الذي ينبض حناناً ورأفة . ما أجمل استقباله لنا ، وقبول كل واحدِ منا ، رغم عفنا البشري وكبريائنا وحقارتنا ومعاصينا . نعم هو أعظم معلم ومشجع لنا للنهوض على أرجلنا رغم تكرار سقوطنا بإرادتنا أثناء رحلتنا الأرضية . من أجل ذلك تعالوا نسير بخطوات قوية وثابته في التوبة لأن أبينا السماوي ينتظرننا ويداه مفتوحتان ليضمنا إلى صدره ويعانقنا ، وبقبلاته الممزوجة بدموع الفرح تشجّعنا للبقاء معه ، ولأن الحلة الأولى ، القداسة التي نلناها يوم معموديتنا تنتظر عودتنا ، ورغم كثرة خطايانا المتكررة ، بجسده ودمه يطهّرنا منها بشرط ندامتنا والاعتراف بها .
الغاية من التوبة :
هو التعمق في إكتشاف أبعاد حب الله وإتساع قلبه . فأنا ، وأنتم ، وكلنا علينا أن نقول مع الابن الضال ، وكما نسميه أيضاً ” الإبن الشاطر ” : بذّرت أموال أبي التي أعطاني إياها من مواهب وعلم وصحة ومال و… الخ … وأسرفتها في العالم مع أصدقاء السوء لملذاتي الشخصية .
علينا أن نسأل أنفسنا بفحص الضمير يومياً ، بضمير حي ، كيف سيستقبلني و يقابلني أبي الرؤوف ، أبينا أجمعين الرحوم ؟
نعم إنه سيراني من بعيد ، وسيركض ويقع على عنقي ويقبلني طويلاً ( لوقا ١٥ : ٢٠ ) … هذا هو الحب ، هذا هو رجاء الخاطئ .
والقصد من التوبة هو : إكتشاف غنى بيت الآب ، أعني غنى الكنيسة المقدسة أمنّا ، ” الأُم والمعلمة ” ، فيها الكنوز والألئ والحلل التي لا تقدّر بثمن :
الحلة الأولى المعمودية ، والثانية الخاتم علامة الشركة الدائمة مع الآب ، والحذاء الجديد يؤدي إلى طريق جديدة ، وحياة جديدة ، وإذبحوا العجل المسمن ( لوقا ١٥ : ٢٢ – ٢٣ ) ، الذبيحة إشارةً إلى وليمة الإفخارستيا ، القداس الإلهي ، حيث يُجَدّد ويُقدّم جسد الرب ودمه على مذابح كنائسنا على مدار اليوم ، عملاً بوصية الرب يسوع : ” إصنعوا هذا لذكري ” ( لوقا ٢٢ : ١٩ ) .
ومن أجمل ميزات التوبة الفرح … وهذا الفرح أكبر مُشَجّع لنا في رحلة الصوم … فرح أولاد الله التائبين إلى أبيهم السماوي والمجتمعين حول المذبح ، المائدة السماوية ، ليأكلوا ويشربوا جسد الرب ودمه ، لكي يتطهروا من خطاياهم ، ولا يقعوا فيها ثانيةً . يا له من فرح لا يوصف .
إنها طبيعة الكنيسة التائبة ، المنتشرة على الأرض ، والتي تعيش في الفرح الدائم ، والفرح بالمسيح هو زاد الكنيسة وغذاءها في رحلة صومها وجهادها الروحي المقدس.
مثل الإبن الضال الذي سرده علينا يسوع له ثلاثة أركان :
الأول : حنان الآب أبوة الله لنا ، وإشعيا النبي يشير بوضوح إلى هذه الأبوة قاتلاً : ” هاءَنذا والأبناء الذين اعطاني إياهم الرب ” (أشعيا ٨ : ١٨).
وهذه الآية نفسها تكشف عن قلب الآب المحب وشوقه لرجوع ابنه ” وإذ كان لم يزل بعيداً رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله” (لوقا ١٥ : ٢٠ ).
الثاني : خطايا الابن الضال وقد تحدّث عنها أشعيا النبي قائلاً : ” فإذا قالوا لكم : إسألوا مستحضري الأرواح والعرّافين والمُهَمهمين اليس كل شعب يسأل آلهَته ؟ (إشعيا ٨ : ١٩) . ” ويعبُرُ في الأرض مظلوماً جائعاً ، وفي جوعه يستشيطُ غضباً …. وينظر إلى الأرض فإذا الشدة الظلمة وليل الضيق وديجور الإنحلال ” (إشعيا ٨ : ٢١ – ٢٢) ، ” الشعب السائر في الظلمة أبصر نوراً عظيماّ ، والمقيمين في بقعة الظلام أشرق عليهم النور ” (أشعيا ٩ : ١).
أليست هذه تصرفات الابن الضال ؟ :
بدل أن يسأل أباه ، سأل أصدقاءه الأشرار الذين قادوه للعرافين كأنه يتيم و ليس له أب أو إله.
الأرض التي ذهب إليها الإبن يقول عنها النبي أشعيا أنها أرض ضيقة ، وجوع وظلام ويعيشون فيها غرباء مطرودين ، وهذه نفس أوصاف الابن الضال ، ذهب إلى أرض غريبة ، إلى إستطبل للخنازير، وكان يشتهي أن يملأ بطنه منها وهو في حالة جوع .
٣ – التوبة:
١ – توبة الإبن هي : رجوع وخضوع للآب والتلمذة له :
فيقول النبي أشعيا : ” أختم على التعليم في تلاميذه ” (أشعيا ٨ : ١٦). فأشعيا يكشف لنا أن التوبة هي تلمذة لوصايا ربنا يسوع وهي في ذات الوقت شهادة ..
فالشخص التائب هو أكبر شاهد لعمل نعمة المسيح فيه ، وفي عصرنا الحاضر الذي تعيش فيه الكنيسة وأبناءها يتوقف على قوة التوبة فيها ، فالكنيسة التي ليس فيها توبة مستمرة هي كنيسة جامدة ، أما الكنيسة التي يعيش أفرادها حياة التوبة والندامة فتكون شاهدة لعمل المسيح وتجذب إليها الآخرين لنيل الخلاص ونعمه .
٢ – والتوبة هي : ” مخافة الرب وحياة القداسة ” :
يقول لنا أشعيا النبي : ” قدسوا ربَّ القوات وليكن هو خوفكم و فزعكم”. ( أشعيا ٨ : ١٣ ).
فكثيرون منّا في هذه الأيام يتحدثون عن التوبة ، بمنتهى البساطة التوبة هي دموع وتسمير مخافة الله في القلب ، كقول داود النبي : ” سمر خوفك في لحمي ” ، والقداسة هي ثمرة مخافة الرب، أما الاستهتار في التوبة ةتجاهلها يؤدى إلى عدم المخافة وسرعة العودة للسقوط .
3- والتوبة هي السير في نور السيد المسيح:
“الشعب السائر في الظلمة أبصر نوراً عظيماً ، الجالسون في بقعة الظلام أشرق عليهم النور” (إشعيا ٩ : ١).
هل يوجد تعبير للتوبة أجمل من تعبير أشعيا النبي : إنها الانتقال من الخطيبة إلى النعمة ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة ” لأن إبني هذا كان ميتاً فعاش ، وكان ضالاً اي : كان في ” الظلام ” فوجِد في النور ” (لوقا ١٥ : ٢٤) .
٤ – التوبة فرح :
“عظمت لها الفرح ، يفرحون أمامك كإبتهاج الذين يتقاسمون الغنيمة ” (أشعيا ٩ : ٣) . فدموع التوبة دموع مفرحة ، وتعب الرجوع لحضن الآب ينتهي بفرح الأحضان والقبلات ، وذبح العجل المُسمّن، وقد قال الأب عند إستقبال إبنه : ” ينبغي أن نفرح ” (لوقا ١٥ : ٢٣) ، ” إنه فرح الملائكة والأصدقاء و الجيران” (لوقا ١٥ : ٦)، وفرح الأب نفسه وفرح الابن والعائلة بأسرها.
إن أفراح التوبة هي ثمرة الروح القدس العامل في قلوبنا وفي الكنيسة ، لذلك كنيسة بلا توبة في حياة أفرادها هي كنيسة بلا فرح ، والعكس صحيح ، لأنه ليس هناك مصدر لفرح الروح القدس في الكنيسة إلاَّ توبة أولادها . فتعالوا في فترة الصوم نُفرُح الآب والسماء والملائكة والقديسين ، وللكنيسة جمعاء بندامتنا و بتوبتنا وعودتنا إلى حضن الآب ، الفاتح يديه المقدسيين على مصرعيها يدعونا قاتلاً : ” تعالوا إليَّ يا مباركة أبي “.
ليست التوبة البعد عن الخطيئة وشرورها فقط ، بل هي حياة جديدة مع المسيح يسوع : ” لإنه قد ولِِدَ لنا ولد ، وأُعطي لنا ابن فصارت الرئاسة على كتفه ، ودعي اسمهُ عجيباً ،مُشيراً ، إلهاً جبّاراً ، أبا الآبد ، رئيس السلام وسلام لا إنقضاء له ” ( أشعيا ٩ : ٥ – ٦ ) ، ومن يعيش سلام المسيح ، السلام الداخلي الفردي شخصياً ، والخارجي مع المجتمع والعالم ، يبقى في سلام دائم ولا يمكنه أن ينحاز إلى الخطيبة والابتعاد عن الله .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك