محبة الله الثابتة: يقين إيماني في قلب العاصفة

خبرة بولس الرسول

Share this Entry

هل مررت يومًا بأزمة إيمانية جعلتك تتساءل: هل الله ما زال يحبني؟ هل محبته لي ثابتة حتى ولو أني غارق  في ضعفي وصعوباتي حتى أخمص قدميَّ (راجع، مز 69: 1-3 و 42: 7؛ أيو 30: 16-17؛ يونان 2: 63؛  2قور 1: 8- 9) ؟ هل يمكن أن تفصلني الخطايا أو التجارب أو الخيبات عن هذه المحبة؟ إن  ساورتك  تلك الأسئلة ، فاعلم بأنك لست وحدك.  فبولس الرسول قد اختبر هذا النزاع الداخلي، لكنه خرج منه مُنتصرًا على قناعة راسخة من أمره غيّرت كل شيء في حياته : وجعلته يعلن جهارًا قائلًا :”لا شيء يفصلنا عن محبة الله في المسيح يسوع ربنا “(روم 8: 38).

      عندما كتب بولس هذه الكلمات، لم يكن يقدّم درسًا في اللاهوت النظري، بل شهادة حياة. فهو  من  اختبر السجون، والجلد، والاضطهاد، والجوع، والعطش، والخيانة، والعزلة، والاتهام، والضعف،و هو نفسه  الذي أعلن بأعلى صوته: “الله لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا جميعًا ” (روم 8: 32: 2 قور 11: 23- 28) بمحبة فادية تتخطى خطايانا وأقوى من مخاوفنا (راجع، روم 5: 5) وشكوكنا، إنها المحبة التي اختارت بولس  يوم كان    على عداوة مع المسيح  (راجع، أع 9: 1- 5)  وها هي قد حوّلته  إلى كارز وأب روحيّ ورسول الأمم (راجع، أع 9: 15؛ روم 11: 13؛ غل 2: 7- 8).

الضمان الذي لا يهتز

        لم يؤمن بولس  بان خلاصه مرتهن باستحقاقاته الشخصيّة أو بتاريخه الدينيّ وتفوقه على بني قومه (راجع، غل 1: 14؛ فل 3: 5- 6)  ، بل بسبب منطق المحبة الإلهية التي تبرر وتغفر وتشفع وترافق حتى النهاية (راجع، فل4: 19؛ 2قور 9: 8؛ أفس 1: 11)  هذا ما عبّر عنه بقوة في قوله: : “من  سيشتكي  على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟ المسيح  الذي هو مات بل قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله، الذي أيضًا يشفع فينا ” (روم 6: 33- 34). فشفاعة المسيح ليست مجرد “إجراء قانوني”،  بل هي استمرار لحب لا يعرف التراجع او الخنوع ولا يتوقف عند شكوكنا وضعفاتنا، إنه خلاص على الداوم  (راجع، أفس 2: 4-5) .  المسيح الحي يقدّم كل مؤمن أمام الآب، لا لأن المؤمن بلا خطيئة، بل  لأن فداء المسيح هو من يبرّره ويخلّصه من شوكة الموت (راجع روم 3: 23- 24 و 5: 8- 9؛ غل 3: 13؛ أفس 1: 7).

أكثر من غالبين… ولكن كيف؟

لم يكن بولس غريبًا عن الألم، بل اختبره في جسده وروحه، وكتب عنه بوضوح في (2  قور11: 23- 28) ومع ذلك، هو نفسه قال: : “في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا “(روم 8: 37).  فالغلبة هنا ليست انتصارًا على الألم نفسه، بل الانتصار يكمن  في داخله  (راجع، روم 8: 18؛  2قور 4: 16- 17؛  فل 4: 12- 13) وليس بأن تختفي الشدائد، بل بأن تتحوّل إلى مساحات اختبار لرحمة وقوّة الله (راجع، روم 5: 5؛ أي 3: 17- 19) .  هذا هو سر الإيمان المسيح:  الألم لا يلغي الحب، بل يكشف عمقه وحيويّته في المسيح الذي غلب الجحيم بقوّة الصليب ” أين شوكتك يا موت؟ أين غلبّتُكِ يا جحيم؟… لكن شكرًا لله الذي يُعطينا الغلبة بيسوع المسيح ربِّنا” (1قور 15: 55- 57؛ وراجع، 2 تيم 1: 10).

محبة تتحدى المنطق

في نهاية هذا الإعلان اللاهوتيّ البولسيّ ، يرتفع صوت بولس ليصرخ بقوة : “إني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا حاضر ولا مستقبل ولا قوات ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا “(روم 8: 38- 39) لا يوجد في الكون شيءٌ أقوى من محبة الله. لا خطيئة ولا ضعف ولا خوف ولا مرض ولا موت ولا فشل، وحتى الموت، الذي كان يُعتبر النهاية المطلقة، صار هو الباب المؤدي إلى المحبة المكتملة في حضرة الآب. “لأنه إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فاللرب نموت. فإن عشنا وإن متنا فالررب نحن“( روم 14: 8).

رسالتي  إلى كل من يقرأ الآن

إن كنت تمرّ في أزمة إيمانية، أو شعرت بأنك بعيداً جدًا عن الله، أو تخشى أن يكون الله قد ملّ منك ومن أخطائك، فأنت مدعو اليوم مجددًا لسماع هذه الكلمات وكأنها مكتوبة لك شخصيًا: الله أحبك منذ الأزل، أحبك في صليب المسيح، يحبك في ضعفك اليوم، وسيحبك حتى النهاية. لا شيء يفصلك عن هذه المحبة (راجع، 1قور 1: 18؛ غلا6: 14).

إن القديس  بولس، الذي نقل لنا هذه الخبرة الإيمانية، لم يكتبها لرفاهية فكرية، بل كتبها بدمع الألم وعذاب السجون، وقسوة الإعتقالات، وأوجاع الخدمة، وجراح الاضطهاد، وطعن الأخوة الكذبة،  بالتضرعات والصلوات المتّقدة، وبالروح المرتفعة من الليالي الباردة والصعبة، وتعب السفر في البحار، ومخاطر العواصف والتعرّض لأخطار الغرق واللصوص وقطّاع الطرق إلخ. .كتبها بولس  لأنه اختبر : محبة الله في المسيح يسوع ربنا،  محبة لا تنكسر ولا تتراجع ولا تضعف بالرغم من ضعف بولس (راجع، 1قور 2: 3- 5؛ 2قور 12: 9- 10)، فإنها  المحبة الفادية التي أمسكت  به  على طريق دمشق (راجع، أع 9: 3- 5 و 26: 15؛ غل 1: 13- 16؛ )،  ورافقته في المحاكم والسجون والجلد والإضطهاد والموت والقيامة، هي عينها من سترشدك نحو طريق المجد الأبدي. هذه المحبة هي هدية مُقدمة  لك اليوم، فمهما كانت حالتك ومستوى إيمانك، فاصرخ مع بولس قائلا :”من سيفصلنا عن محبة المسيح؟”(روم 8: 35). لعلّك تجد اليوم في خبرة أصغر الرسل والسِقط ἔκτρωμα (راجع، 1قور 9: 1و 15: 8- 10) مبتغى قلبك وراحة الضمير وسكون النفس وهدوء البال !

الخوري (د) جان بول الخوري.

Share this Entry

الخوري جان بول الخوري

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير