أصبحنا في زمن نعطي فيه أهمية كبيرة للقضية (حرية، مساواة، سلام، عدالة الخ…) لدرجة أن القضية أضحت تغلب الإنسان، وفي حين أن القضية تضع الإنسان وكرامته هدفًا أسمى، بدأنا نرى اليوم ما يضعها هدفًا أسمى، فيُحرَق الإنسان في خدمتها.
الحرب الكونية، منذ بداية مجتمعاتنا الإنسانية، كانت على الطاقة: منذ ما قبل التاريخ كانت الحروب تجري للحيازة على النار (لم يبرع كل البشر بإحداثها) وإلى اليوم حروب إنسانيتنا محورها نار زماننا: النفط، والنووي، والتواصل. ومنذ ذلك الحين يأتي بؤس إنسانيتنا من جرّاء تحويل الطاقة إلى إلهٍ تخدمه قضايا تنادي بخير الإنسان الأسمى، لتحرق الإنسان في سبيل الحيازة على تلك النار اللعينة. فالطاقة هي مالنا، ومن هنا نفهم كلام بولس الرسول: “لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ.” (١طيم٦: ١٠).
لذلك نرى اليوم بشريّة بائسة متألمة:
– أناس يطالبون بالحرية والمساواة والعدالة وهم يُنعَتون بالإرهاب.
– أناس يتمسكون بقيم دينيّة ليرفضوا الآخر الذي لا ناقة له ولا جمل في رفضهم وكراهيتهم.
– اناس يستسلمون لعداوات أزلية أبديّة فقط ليضعوا لأنفسهم هدفًا عدائيًّا دائمًا يبرر العداوة.
«أُصْحُوا وَاسْهَرُوا لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ.» (١بط٥: ٨)
ولذلك نرى بشريتنا البائسة المتألمة تقع في التناقض:
– تهتز لأحداث القمع في بلد معين، ولا تهتز لحوادث إبادة في مكان آخر.
– تهتز لجوع كلب في شارع هناك، ولا تهتز لموت المئات جوعًا في مكانٍ آخر.
– تهتز لجريمة في منطقة معينة، ولا تهتز لجرائم موصوفة يندَى لها الجبين في بقعة أخرى من المسكونة.
ولذلك نرى أن التناقض الذي نقع فيه نحن البائسين يجعلنا خُدّام لقضايا فارغة من كل إنسانية:
– باسم حريتنا نقبل بقمع غيرنا،
– وباسم جوعنا نقبل بجوع غيرنا،
– وباسم حياتنا وحياة أبنائنا نقبل بموت غيرنا وأبنائهم.
«مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ.» (لوقا١١: ٢٣)
أمام هذا كله يتوجب على ضميرنا (إن كان حيًّا) أن يسأل: “ولكن: أين الإنسان؟!”
هل فقدناه في خدمة قضايانا التي تعبد رَبًّا آخر هو النار (الطاقة)؟!
هل فقدناه ونحن نهلل لا لحرية الإنسان (كل إنسان) إنّما لحريتنا التي تبقى ناقصة طالما أنّها تستهدف إنسانًا آخَر؟
هل فقدناه لأنّنا جُعنا يومًا ما ونحن الآن نهلل لجوع الآخرين؟
هل فقدناه لأنّنا متنا في لحظة معينة ونحن الآن نهلل لموت الآخرين؟
«إقْتَرِبُوا إِلَى اللَّهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ» (يع٤: ٨)
في النهاية: يبقى الذي يحمل قضية، ويبذل كل شيء من أجلها، ويجعلها في خدمة الإنسان (وليس العكس)، ويحافظ في نفس الوقت على كرامته الإنسانية في وجه مُنتَزعي الكرامة، وعلى أمانته الإنسانية في وجه عديمي الأمانة، وعلى سلامه الدّاخلي في وجه فاقدي السّلام، يبقى إنسانًا،
إنسانًا له كلّ الإحترام،
إنسانًا له كل المحبة،
إنسانًا له ألف تحية وسلام،
إنسانًا حُرًّا في وجه خالقه،
… حتى لو لم أؤمن بقضيته…