vatican media

الإيمان لا يُقلّل من إمكانيّة خطئنا، بل يقدّم لنا دائمًا طريقًا للخروج: طريق الرّحمة

القسم الثالث من المقابلة العامة فصح يسوع (تعليم: يسوع المسيح رجاؤنا)

Share this Entry

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

نواصل مسيرتنا في مدرسة الإنجيل، ونحن نتبع خُطى يسوع في الأيّام الأخيرة من حياته. اليوم نتوقّف عند مشهد خاصّ، ومأساويّ، لكن فيه حقيقة عميقة جدًّا أيضًا: وهي اللحظة التي فيها أَعلن يسوع، خلال عشاء الفصح، أنّ واحدًا من الاثني عشر سيُسلِمُه: “الحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ واحِدًا مِنكُم سَيُسلِمُني، وهو يَأكُلُ معي” (مرقس 14، 18).

إنّه كلامٌ شديد. لم يَقُل يسوع هذا الكلام ليُدين، بل ليُظهر أنّ المحبّة، عندما تكون صادقة، لا يمكنها إلّا أن تسير مع الحقيقة. العلّيَّة، حيث أُعِدّ كلّ شيء بعناية واهتمام، امتلأت فجأة بألمٍ صامت، فيه تساؤلات، وشكوك، وضَعف. إنّه أَلمٌ نعرفه جيّدًا نحن أيضًا، عندما يتسلّل طَيف الخيانة إلى أعزّ علاقاتنا.

مع ذلك، الطّريقة التي تكلّم بها يسوع على الذي سيحدث له كانت مُدهشة. لم يرفع صوته، ولم يُشر بإصبعه، ولم يذكر اسم يهوذا. تكلّم بطريقة جعل فيها كلّ واحد يسأل نفسه. وهذا ما حدث فعلًا. قال لنا القدّيس مرقس: “فأَخذوا يَشعُرونَ بِالحُزْنِ ويسأَلونَه الواحِدُ بَعدَ الآخَر: أَأَنا هو؟” (مرقس 14، 19).

أيّها الأصدقاء الأعزّاء، هذا السّؤال – “أَأَنا هو؟” – هو ربّما من بين أكثر الأسئلة صدقًا التي يمكننا أن نوجّهها إلى أنفسنا. فهو ليس سؤال الشّخص البريء، بل سؤال التّلميذ الذي يكتشف ضَعفه. وليس صُراخ المُذنب، بل همسة من يعرف أنّه يمكنه أن يَجرح الآخر، على الرّغم من أنّه يريد أن يحبّه. من هذا الوعي تبدأ مسيرة الخلاص.

يسوع لا ينتقد لكي يذلّ. إنّه يقول الحقيقة لأنه يريد أن يُخلِّص. ولكي ينال المؤمن الخلاص، يجب أن يشعر: أن يشعر بأنّه مشترك معه، ويشعر بأنّه محبوب رغم كلّ شيء، وأن يشعر بأنّ الشّرّ حقيقيّ، لكن ليس له الكلمة الأخيرة. فقط من عَرف حقيقة المحبّة العميقة، يمكنه أن يَقبل أيضًا جرح الخيانة.

لم تكن ردّة فعل التّلاميذ الغَضَب، بل الحزن. لم يَستاؤوا، بل حزنوا. إنّه ألمٌ يُولد من كونهم مُشاركين مشاركة حقيقيّة. وهذا الحزن بالتّحديد، إن قَبِلناه بصدق، يصير مقدّمة للتوبة. الإنجيل لا يعلّمنا أن نُنكر الشّرّ، بل أن نعترف به، ونرى فيه فُرصة مؤلمة لكي نُولد من جديد.

ثمّ أضاف يسوع جملة تجعلنا نشعر بالقلق وتحملنا على التّفكير: “الوَيلُ لِذلِكَ الإِنسانِ الَّذي يُسلَمُ ابنُ الإِنسانِ عن يَدِه. فلَو لم يولَدْ ذلكَ الإِنسانُ لَكانَ خَيرًا له” (مرقس 14، 21). إنّه كلام قاسٍ، نعم، لكن يجب أن نفهمه جيّدًا: فهو ليس لعنة، بل صرخة ألم. في اللغة اليونانيّة، كلمة ”ويل“ تدلّ على الشّكوى، ”آهٍ“، وتعبّر عن رحمة صادقة وعميقة.

نحن مُعتادون أن نحكم على الآخرين. أمّا الله، فقد قَبِلَ أن يتألّم. عندما يَرى الشّرّ، فهو لا ينتقم، بل يحزن. والجملة ”فلَو لم يولَدْ ذلكَ الإِنسانُ لَكانَ خَيرًا له“ ليست حُكمًا صدر مُسبقًا، بل حقيقة يمكن لكلّ واحد منّا أن يعترف بها: إن أنكرنا المحبّة التي خلقتنا، وإن صرنا غير أمناء لأنفسنا بالخيانة، إذّاك نضيّع حقًّا معنى وجودنا في العالم، ونبعد أنفسنا عن الخلاص.

مع ذلك، في النّقطة المظلمة بالتّحديد، النّور لا ينطفئ. بل يبدأ يشعّ. لأنّنا إن اعترفنا بحدودنا، وإن سمحنا لألم المسيح أن يمسّنا، إذّاك يمكننا أخيرًا أن نولد من جديد. فالإيمان لا يُقلّل من إمكانيّة خطإنا، بل يقدّم لنا دائمًا طريقًا للخروج: طريق الرّحمة.

يسوع لا يتشكّك أمام ضعفنا. إنّه يعلم جيّدًا أنّ كلّ صداقة معرَّضة لخطر الخيانة. لكنّه يستمرّ في الثّقة بنا. ويستمرّ في الجلوس على المائدة مع خاصّته. ولا يتوقّف عن كسر الخبز، حتّى للذي سيخونه. هذه هي قوّة الله الصّامتة: فالله لا يترك أبدًا مائدة المحبّة، حتّى حين يعلَم أنّه سيُترك وحده.

أيّها الإخوة والأخوات الأعّزاء، يمكننا اليوم أيضًا أن نسأل أنفسنا، بكلّ صدق: “أَأَنا هو؟”. لا لكي نشعر بالاتّهام، بل لكي نفتح في قلوبنا مكانًا للحقيقة. من هنا يبدأ الخلاص: من الوعي بأنّنا قد نكون نحن من يكسر الثّقة بالله، ولكنّنا قد نكون نحن أيضًا من يقبل هذه الثّقة، ويحفظها، ويجدّدها.

في النّهاية، هذا هو الرّجاء: أن نعلَم أنّ الله لا يخذلنا أبدًا حتّى لو فشلنا. وحتى لو خنّاه، فإنّه لا يتوقّف عن محبّتنا. وإن سمحنا لهذا الحبّ – المتواضع، والمجروح، لكنّه حبٌّ أمين دائمًا – بأن يمسّنا، فبإمكاننا حقًا أن نولد من جديد. وأن نبدأ بالعيش، لا خونةً، بل أبناءً يحبّهم الله دائمًا.

*******

 

مِن إنجيلِ ربِّنا يسوعَ المسيحِ لِلقِدِّيسِ مَرقُس (14، 17-21)

ولمَّا كانَ المساء، جاءَ مع الِاثنَي عَشَر. وبينَما هم جالِسونَ إِلى المائِدةِ يأكُلون، قالَ يسوع: «الحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ واحِدًا مِنكُم سَيُسلِمُني، وهو يَأكُلُ معي». فأَخذوا يَشعُرونَ بِالحُزْنِ ويسأَلونَه الواحِدُ بَعدَ الآخَر: «أَأَنا هو؟» فقالَ لَهم: «إِنَّه واحِدٌ مِنَ الاثنَيْ عَشَر، وَهو يَغمِسُ يَدَه في الصَّحفَةِ معي. فابنُ الإِنسانِ ماضٍ كما كُتِبَ في شَأنِه، ولكِنِ الوَيلُ لِذلِكَ الإِنسانِ الَّذي يُسلَمُ ابنُ الإِنسانِ عن يَدِه. فلَو لم يولَدْ ذلكَ الإِنسانُ لَكانَ خَيرًا له».

كلامُ الرَّبّ

*******

Speaker:

تَكلَّمَ قَداسَةُ البابا اليَومَ علَى مَشهَدِ إعلانِ يسوعَ عن خيانَةِ أحدِ تلاميذِه، أثناءَ العشاءِ الأخير، في إطارِ تعلِيمِهِ في موضوعِ يسوعَ المسيحِ هو رجاؤُنا، وقال: هذا المَشهَدُ يُبَيِّنُ لنا أنَّ يسوعَ لم يَرفَعْ صَوتَهُ، ولم يُشِرْ بإصبَعِ الاتِّهامِ إلى أَحَد، ولم يَذكُرْ اسمَ يهوذا الَّذي خانَه. بل تَكَلَّمَ بِطَريقَةٍ جَعَلَ فيها كلَّ واحِدٍ يَشعُرُ بِالحُزْنِ ويسأَلُ نَفسَهُ هل هو الَّذي سَيَخُونُه. فَسُؤالُ التِّلميذ: “أَأَنا هو؟” هو سؤالُ الَّذي يَكتَشِفُ ضَعفَه، ومِن هنا تَبدَأُ مسيرةُ الخلاص. لم تَكُنْ رَدَّةُ فِعلِ التَّلاميذِ الغَضَب، بل الحُزْن. وهذا الحُزْن، إن قَبِلناهُ بِصِدق، يصيرُ لَحظَةَ تَوبَة، وفُرصَةً لكي نُولَدَ مِن جديد. يسوع لا يَتَشَكَّكُ مِن ضَعفِنا، ولا مِن خِيانَتِنا له، بل يَستَمِرُّ في الثِّقَةِ بِنا، وفي مَحَبَّتِنا، وفي كَسرِ الخُبزِ حتَّى للَّذي سَيَخُونُه. وهذا هو الرَّجاءُ الحَقيقيّ الَّذي يَمنَحُنا أنْ نَبدَأَ مِن جديد، لا خَوَنَةً، بل أبناءً يُحِبُّهُم الله دائِمًا.

*******

Speaker:

أُحيِّي المُؤمِنِينَ النَّاطِقِينَ باللُغَةِ العَرَبِيَّة، وخاصَّةً القادِمِينَ مِنَ العِراقِ والأرضِ المُقَدَّسَة. لِنَفتَحْ قُلوبَنا لِلرَّبِّ يسوعَ الَّذي لا يَتَوَقَّفُ أبدًا عَن مَحَبَّتِنا أمامَ ضَعفِنا، بل يَمنَحُنا دائمًا فُرصَةً جَدِيدَةً لِنَبدَأَ مِن جَدِيد. بارَكَكُم الرَّبُّ جَميعًا وَحَماكُم دائِمًا مِن كلِّ شَرّ!

*******

©جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2025

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير