ما يصنع الشهادة ليس دائماً الموت بل القضية! فالكلمة في أصلها اليوناني تعني “شاهدًا”؛ أي ذاك الذي يقف تحت نور الحقيقة ولا يتراجع، ولو طال ظل التهديد. المعيار إذن ليس القبر بل الشهادة للحق. تتقدم القديسة تقلا هنا كمشعل لا ينطفئ عبر العصور. جذبتها كرازة بولس الرسول إلى أفق جديد، فقامت المدينة ضدها: حماها الله فالنار لم تحرقها، والحيوانات لم تفترسها، والجموع لم تستطع إذلالها. قصتها تعلمنا أن الشهادة تبدأ بالأمانة قبل الدم، وبـنفس ال”نعم” للرب قبل أي نفس أخير. لهذا لقبت ب”أولى شهيدات”، لا لأن الاضطهاد قتلها، بل لأنها كانت مستعدة ان تقبله وحولت حياتها كلها إلى شهادة حيّة للمسيح.
وهكذا حول الله الميدان إلى هيكل، والخطر إلى تسبيح. وإذا كان جوهر الشهادة هو قضية الخير، فإن جغرافيتها هي كل مكان يصبح فيه للوقوف مع الحق أثمان. في لبنان خلال العام المنصرم، دفع الناس أثمانًا باهظة: مدن تهدمت، بيوت فرغت، وأجساد تكسرت. شهدنا عائلات تتمزق في لحظة، ومدنيين يُقتلون في طرقاتهم اليومية، وشفاءً مؤجلًا لزمن طويل. دموعنا اصبحت ملحًا على جرح شعب أراد فقط أن يعيش بكرامة، أن يحب، أن يبقى! اصبحنا أحياء نتعلم أبجديات جديدة من الحزن والصمود. لكن الشهادة الحقيقية اليوم تظهر في الذين يحملون بعضهم بعضًا بين الركام و زواريب السياسة، ويصرّون—بصوت هادئ وعنيد—أن الكرامة الإنسانية ليست للمساومة.
كيف نستجيب لمثالها عندما نعيّد عيد القديسة تقلا؟ الجواب بأن نجعل قضيتنا —المحبة و الحق—أعلى من الترغيب و الترهيب. أن نحيا الأمانة المتقدة: نرعى الضعفاء، نقول الحق حتى عندما يكون مكلفًا، ونبقي مصابيح الرحمة مضاءة في الليالي الطويلة. إن نجاة تقلا لم تكن هروبًا من المعنى، بل تعميقًا له. الله لم ينجها ليخفف من شهادتها، بل ليُظهر أن الغلبة ليست بقبول الموت وحده، بل بالغلبة على روح الاستسلام. في عالمنا اليوم حيث يغض الأقوياء نظرهم عن ظلم الضعفاء، تتجلى القوة في شهادة أب يحمل الأبناء، وأرملة تضيء شمعة وتستذكر أموتاها أحياء … هنا لا نقرأ عبادة للألم، بل عهد للمحبة و االوفاء! فلنقدس أحزاننا كما تقلا القديسة بمعمودية الشجاعة و الثبات والرجاء.
و ان سقط على الطريق احباء، نكرمهم بالقضية التي حملوها ذاكرين قرب الله من المنسحقين. وإن أُعيدت لنا فرصة الحياة فلننفقها كشهود على أرض مثخنة بالجراح، تحتفل دائماً و أبداً بالحق و المحبة مع كل صباح… ففي الختام، ليست الشهادة كيف انتهت الحياة، بل ماذا قالت الحياة : ماذا قالت عن قيمة الإنسان وديعة الله رغم الصعوبات —مرة بعد مرة، تحت الضغط و الإضطهاد. هذا ما تعلمنا إياه تقلا المستحقة لقب (أولى الشهيدات)!